آيا صوفيا.. السيادة التركية والظروف المحلية والدولية

عدد القراءات
3,798
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/16 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/16 الساعة 12:50 بتوقيت غرينتش

بدون الدخول في تفاصيل وأروقة الجدل الدائر حول إعادة آيا صوفيا من متحف إلى جامع، أو العودة إلى قرار محمد الفاتح بتحويلها من كنيسة إلى جامع في مايو/أيار 1453، وهو الأمر الذي استمر 481 عاماً حتى قيام مجلس الوزراء التركي بتحويلها من جامع إلى متحف في نوفمبر/تشرين الثاني 1934. نريد الوقوف على ما هو أهم، وهو وضع الشعور بالسيادة لدى متخذ القرار التركي.

لعل الفترة الأكثر أهمية هي ما حدث خلال الـ86 عاماً الماضية منذ 1934 وحتى 2020 في السياسة التركية داخلياً وخارجياً. عند النظر للقرار الصادر عن المحكمة الإدارية العليا نجد أن المحكمة أبطلت قراراً عمره 86 عاماً، اعتماداً على مسوِّغات عمرها 550 عاماً.

يغفل كثيرون أن إسطنبول تم احتلالها منذ عام 1918 وحتى 1923 من قِبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان، وتم وضع القيود على الدولة العثمانية في اتفاقية سيفر وتحديد عدد الجيش بحوالي 50 ألفاً، وعدد السفن في البحرية العثمانية بـ7 سفن، وحظر حصول الدولة على أي سلاح جو، وتكوين لجنة للإشراف على ذلك، وإنشاء رقابة مالية على ميزانية الدولة،  وتم وضع البسفور والدردنيل تحت رقابة دولية لم يكن للأتراك تمثيل فيها.

منذ عام 2002 وحتى يومنا هذا برزت في تركيا إرادة جديدة وثقافة جديدة تختلف عن تلك التي كانت نتيجة لما حصل منذ 1918 وحاولت هذه الإرادة الجديدة أن تصنع واقعاً جديداً، وواجهت كل التحديات وناورت وحاولت الالتفاف على العوائق، وأخفضت رأسها في العواصف، والآن ترى أن الوقت مواتٍ لتمارس السيادة بالنظر لموقفها الداخلي والخارجي.

عند النظر إلى هذا الواقع والواقع اليوم الذي تمنع فيه البوارج التركية البورارج الفرنسية من تفتيش السفن التي تسير بحمايتها قبالة الشواطئ الليبية، وعند النظر إلى قيام السفن التركية بالتنقيب بالقرب من شواطئ قبرص، وإجبار السفن التابعة للشركات الأمريكية والإيطالية على المغادرة، أو الامتناع عن العمل بدون موافقة من السلطات التركية.

إن استعادة آيا صوفيا من متحف إلى جامع تعبِّر عن تغير شروط حقبة دولية وتعبِّر عن تغيُّر في ميزان القوة، سواء داخلياً في تركيا أو في علاقاتها الخارجية، فبالنهاية كان قرار التغيير من جامع إلى متحف منسوباً إلى الأتاتوركية، وكان القرار الأتاتوركي مقدساً لدرجة أن انتقاده وليس محاولة تغييره كان كفيلاً بالكثير من المتاعب لكل من يدخل في هذا المجال. ولهذا يمكن القول إن قرار تحويل آيا صوفيا من متحف إلى جامع وإبطال قرار  1934 هو بمثابة كتابة تاريخ وفاة ونهاية لتلك الفترة بقيودها الداخلية التي ربما تكون قد استمرت حتى 2016.

أما الأمر الآخر فهو  المخاوف من الردود الخارجية، وقد أصبح واقع تركيا اليوم مختلفاً عن واقعها قبل 5 سنوات من حيث مراكمة القوة والإرادة السياسية والتجربة، وليس هذا فحسب، بل إن حسن استخدام هذه الأدوات في نظام عالمي يعيش حالة سيولة وانكفاء يشجع الدول على الإقدام على مثل هذه الخطوات في السياق القومي والوطني.

إن ممارسة السيادة للدول من خلال مثل هذه الخطوات الدلالية بالبعد التاريخي والسياسي ستصبح أمراً أكثر شيوعاً في المراحل القادمة. وفي هذا السياق نشير إلى ما ذكره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً في تعليقه على بعض التصريحات، وقال: "الذين لم يتخذوا أي خطوة للحد من معاداة الإسلام في بلدانهم يهاجمون إرادة تركيا في استخدام حقوقها السيادية". وأضاف: "باتخاذنا قرار إعادة آيا صوفيا مسجداً، لم نكترث لما يقوله الآخرون، بل ركزنا على ما هو حق لنا وما يريده شعبنا، كما فعلنا ذلك في سوريا وليبيا وفي مواقف عدة. سنواصل المسير في طريقنا لبناء تركيا القوية والكبيرة".

تبرر تركيا موقفها بأنه ليس معادياً للأديان، وتذكر في ذلك أن الوصول إلى مسجد آيا صوفيا سيكون متاحاً للجميع دون تمييز بين الأديان، وأن حرية الدين في تركيا ثابتة بوجود أكثر من 400 كنيسة وكنيس. وهذا ما ذكره الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالن.

ما يمكن الإشارة له بوضوح هنا أن المعارضة التركية لم تنتقد القرار بالرغم من أن المعارضة علمانية وميولها غربية، فإن القرار الذي يحمل ملامح السيادة بدا أنه قد حاز إجماعاً من الأحزاب السياسية التي ترى أن غالبية الشعب مؤيد لهذا القرار. ولكن بعض الأحزاب كانت تظن أن القيادة الحالية ما زالت تنقصها الجرأة على اتخاذ القرار، وهو ما أثبتت القيادة الحالية برئاسة أردوغان أنها تمتلكه ولا تفتقر إليه حتى لو كان الخصم قوة عظمى ومع امتلاك تركيا المزيد من أدوات القوة وتراجع قوة القوى المنافسة لها، فإننا على الأغلب سنشهد المزيد من مؤشرات السيادة التركية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمود الرنتيسي
باحث فلسطيني مختص بالشأن التركي
محمود سمير الرنتيسي باحث فلسطيني يعمل في مركز سيتا للدراسات، مساعد رئيس تحرير مجلة «رؤية تركية» الصادرة عن المركز، وحاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية، صدر له كتاب «السياسة الخارجية القطرية تجاه بلدان الربيع العربي والقضية الفلسطينية»، وله عدة دراسات منشورة في مركز الجزيرة للدراسات ومجلة السياسة الدولية ومجلة رؤية تركية.
تحميل المزيد