هل خطوة أردوغان التالية التحول للحروف العربية بدلاً من اللاتينية؟ آيا صوفيا وصراع الهُوية في تركيا

عدد القراءات
17,718
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/14 الساعة 12:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/14 الساعة 12:54 بتوقيت غرينتش

يمثل حدث تحويل آيا صوفيا إلى "جامع" تجسيداً لمخاض ولادة جديدة لتركيا على مستوى الهوية والتحلل من إرث أتاتورك، في أفق التخلص من أعباء اتفاقية لوزان على المستوى السياسي والدولي سنة 2023 التي جعلتها النخبة الحاكمة بتركيا الحالية نقطة تحول استراتيجي يذكون بها باستمرار، لذلك يعد تحويل آيا صوفيا من متحف إلى جامع – والاهتمام بالمسجد عموماً وما يلفه بتركيا الحالية- رمزاً من الرموز التي تحيل إلى الاستعادة التدريجية للهوية الثقافية والدينية والحضارية لتركيا ومخاض خلع عباءة كانت قد ألبستها قسراً مع أتاتورك.

 وإن كانت الدلالات الأخرى يمكن استحضارها، لكن البعد الرمزي للحدث يعبر عن تفاعلات حاصلة على المستوى الداخلي التركي، كما أنه امتداد لقلق الهوية وتوترها، الذي ظل في تنامٍ منذ تأسيس تركيا الحديثة على أنقاض الدولة العثمانية، كما يجليه العمل بمختلف الوسائط الثقافية منها السينما، بالإضافة إلى استعادة الاهتمام بالموضوع من طرف النخب السياسية والثقافية، لإعادة صياغة الرموز والعناصر الملهمة للإنسان والشخصية التركية التي يتجاوز امتدادها عمر الدولة التركية الكمالية الحديثة إلى الفاتحين والدولة العثمانية ذات الامتداد الجغرافي والإمبراطوري الواسع، فإذكاء الوعي بالخلفية التاريخية لتركيا العثمانية عند الأجيال الحالية، واستثمار ذلك في القضايا الداخلية والخارجية على السواء، هو جزء من استراتيجية كبرى لتصحيح الكثير من الاختلالات الموروثة، وفي موضوع الإنسان والهوية تعد الرموز عنصراً محورياً، ومنه نفهم آيا صوفيا ومظاهر أخرى، تعبيراً عن صراع للرموز، نحتاج إلى فهمه في سياقاته المختلفة، نظراً لأهمية الرموز لدى الإنسان، واختزالها هواجسه الكبرى في لحظة من اللحظات.

فكيف نفهم إذن صراع الرموز الدينية والثقافية في العلاقة بالإنسان والهوية؟ وما هي إسقاطات ذلك ودلالاته في السياق التركي في أزمنة متنوعة بين الزمن الراهن والعهد الكمال وفتح إسطنبول؟ ماذا تمثل آيا صوفيا في الخلفية الحضارية للأتراك وغيرهم؟

1)   صراع الرموز.. علمانية أتاتورك العنيفة في مواجهة الرموز الدينية

إنه لمن المهم أن نكون على وعي بأن الإنسان كائن رامز، وبأن جزءاً من كينونته وشخصيته ينفعل بالرموز، بل إن وجود الرموز ذات الدلالات الثقافية والدينية والتاريخية هو ضروري في صياغة شخصية الإنسان حيثما كان، فلننظر في كل الدول والأمم، كيف يتم تحديد وجرد عناصر من التاريخ ورموز من الذاكرة ذات دلالات لتكون ملهمة للأجيال، وكيف أن الأشكال الفنية في الشوارع لأعلام وساسة، كما البنايات والمعابد العتيقة أضحت رمزاً يغذي النحن الجماعية. ومن ثم فإن آيا صوفيا التي كانت مسجداً لمدة خمسة قرون، أي منذ الفتح العثماني، كان تحويلها إلى متحف مع أتاتورك في سياق تجريد الشعب التركي من هويته وخلفيته العثمانية ذات الجذور الإسلامية، بمثابة إلباسه عباءة أخرى علمانية ولاتينية -في السياق اللغوي الذي سنتحدث عنه- قامت على القوة، وكان وجه العنف العلماني الذي تلبس أدوات الدولة الحديثة أكثر تجسيداً على مستوى الرموز، والآن كذلك في سياق الاستعادة الهادئة والتدريجية لقسمات تلك الهوية التي أجبرت على الضمور، يتم العدول عن قرار أتاتورك، بدلالات رمزية على اللحظة الراهنة، يتداخل فيها السياسي بالديني بالثقافي والاجتماعي.

 يمكننا القول إذن إن التحلل من ذلك الإرث بمختلف رموزه وآثاره التي تركت جروحاً على الجسد التركي يتم بشكل هادئ، وذلك من طبيعة الثقافة التي تأنف القطائع، كما يعسر إلغاء مقوماتها بالقوة، لأنها قد تظل كامنة لعقود، ثم تنبعث من تحت الرماد.

 لقد يممت تركيا وجهها شطر قبلة جديدة بعد أن كانت في بؤرة التنازع الإمبريالي على المنطقة، أي على الشرق؛ ثم أضحت تابعة ثقافياً وسياسياً، لكن سياق المقاومة التركية كان المجسد فيها محورياً، وهو يذكرنا بأن كل أشكال المقاومة والاستنهاض في العالم الإسلامي لمواجهة المستعمر، إنما كان الحافز الديني عنصراً فاعلاً فيها، وكان المسجد والجامع -والزاوية- منطلق تلك الحركات، ومهما يكن من نزعات وطنية حديثة لدى بعض النخب والزعماء، فإنه لم يكن لها اصطدام لحظة انبعاث التحرير والمقاومة مع الخلفية الدينية للمجتمعات، بل استثمرت فيها واستنهضت تلك المجتمعات لتذب عن حياض أوطانها، كذلك كان كمال أتاتورك يدعو ويعبئ الناس من المسجد، نعم كانت دعوته للتحرر والمقاومة أول الأمر من المسجد، وكذلك في خلع السلطان، كان العنصر الديني حاضراً لاستثارة الشعور التركي الناقم ضد السلطان العثماني، ونستحضر  أنموذجين لارتكاز حركته الوطنية على المسجد قائلاً:

"إن المساجد ليست لكي ينظر بعضنا إلى بعض ركوعاً وسجوداً، بل هي للطاعة والعبادة، ولكي نتداول معاً في أمور الدين والدنيا، ونتشاور بيننا فيما نحتاج إليه. إن كل فرد من أفراد الشعب يجب أن يعمل لصالح بلده روحاً وجسما، إننا الآن هناك لأجل استقلالنا ومستقبلنا وخاصة لسيادتنا، ولنقضِ بآرائنا وأفكارنا، وما يجب أن نعمل به".

وفي سياق آخر عن الجمع بين الدين والدولة، يقول أتاتورك مخاطباً الناس:

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي الخطبة على الناس فيشرح لهم دينهم ويبين لهم سلوكهم، والقضايا اليومية التي تشغلهم وكان يتحدث عن الإدارة والسياسة والغزوات والأمور الاجتماعية والمالية.. وكان الخلفاء الراشدون بعده يفعلون كذلك" (ينظر كتاب، أحمد نوري النعيمي، الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا حاضرها ومستقبلها: دراسة حول الصراع بين الدولة والدين في تركيا).

إن قارئ مثل الحديث قد ينصرف ذهنه إلى كاتب ومنظر إسلامي من مثل سيد قطب أو غيره، يتحدث عن الوظيفة الاجتماعية والحضارية للمسجد، واعتباره محور الانطلاق مستلهماً التجربة التاريخية للمسلمين، وما شكله المسجد على المستوى الفردي أو الاجتماعي والسياسي، لكن مثل هذا الخطاب كان جزءاً من العناصر التي ارتكزت عليها حركات التحرير ومقاومة الاستعمار وليس عند كمال أتاتورك وحسب، وذلك لأهمية الدين والمساجد في إلهاب الشعور الجماعي وتحريره من عقاله، ومن هناك تأتي أهمية الرمز، حيث يمكن أن يشكل طاقة خلاقة وحافزاً نحو الفعل بأبعاده المختلفة اجتماعية أو حضارية عامة إلى جانب الوظيفة والبعد التعبدي الفردي.

لقد كان الجامع رمزاً التأمت حوله كل حركات التحرر ومواجهة الاستعمار، وكان قبل ذلك مرتكز تأسيس دول وكيانات كبرى منذ عهد الرسالة، لكن مؤسس جمهورية تركيا الحديثة "أتاتورك"، بعد أن استوى له الحكم واستقرت في يديه مقاليد السلطة وأحاط نفسه بهالة رمزية حديثة، هدم المسجد الذي كان يوماً يعبئ الناس من خلاله، مستلهماً النموذج الفرنسي اليعقوبي الذي كان معجباً به في تدبير علاقة الدولة بالدين والرموز الدينية والثقافية، وهو ما تجلى في سن نظم وقوانين تعمل على تغيير معالم وجذور الشخصية التركية التي خرجت إلى الوجود بفعل العامل الديني، شأنها شأن باقي شعوب المنطقة.

لقد كان من نتائج إلغاء السلطنة العثمانية بين سنتي 1922 و1924، عدة مقتضيات وقرارات قانونية يظهر فيها الصراع على مستوى الرموز بشكل سافر، بحيث تستبدل رموزاً ذات دلالات يتقاطع فيها الثقافي بالديني، إلى أخرى تحاول ربط تركيا بوجهة جديدة، ومن تلك المقتضيات التي تعبر عن نفسها (استقيناها من المؤلف المشار إليه سابقاً):

1924:  تبني قانون توحيد التعليم الذي أكد التعليم العلماني.

1925: منع ارتداء غطاء الرأس الديني والحجاب.

1926: الأخذ بمعالم القوانين الغربية محل القوانين الإسلامية.

1928:  تبديل الأبجدية العربية بأبجدية لاتينية.

1935: تغيير يوم العطلة الأسبوعية من الجمعة إلى يوم الأحد.

كانت تلك بعض المقتضيات، إلى جانب أخرى تم العمل عليها بعنف لاستبدال معالم ورموز ذات دلالات دينية وتاريخية بأخرى حديثة، وقد كان لهذه الأخيرة أحداث قلاقل على مستوى الهوية التي تدبر قضاياها بمنطق يستبعد العنف والإقصاء.. وإلا فإن الجماعات البشرية تحافظ ضمن مخزونها النفسي وما لها من رموز على إمكانيات العودة والفعالية.

2)   تجريف الهوية المتعددة.. وارتداداتها

 تظهر تلك المقتضيات أعلاه جزءاً من مخاض طويل مرت منه الهوية التركية في إعادة الصياغة، بحيث كان هاجس بناة تركيا الحديثة أيديولوجياً أكثر منه تحديثاً سياسياً، وبعبارة أخرى لقد حظيت العلمنة على غرار النموذج الفرنسي الحاد بأولوية على الديمقراطية والتحديث، وهو ما تجلى في التغيير الذي طال الدستور، وصرح به في تعريف الجمهورية التركية وعمل الجيش طيلة عقود على حماية العلمانية العقائدية للدولة، ومنه يمكن قراءة الدلالات لعناصر الاستبدال على مستوى النظم والقوانين، بل امتد ذلك إلى أشكال الزي والأذان والصلاة باللغة التركية، في انغلاق قومي وموقف حاد يستبطن فوبيا من الرموز ذات الدلالات الدينية والثقافية الشرقية، وهو ما كان ليحصل لو استمر عهد التنظيمات أو نجح في نهاية القرن التاسع عشر، كما أنه لم يكن ليحصل لو لم يتم بأدوات الدولة وسلوكها العنيف في العلاقة بالمظاهر والرموز الثقافية والدينية.

لقد كان تحويل آيا صوفيا إلى متحف في سياق تجريف الخلفية الثقافية والدينية من المجتمع التركي، وهو بمثابة صك للانتماء الجديد لتركيا، ولم يكن اختيار آيا صوفيا عبثاً، لقد صارت تركيا التي كانت وجهاً للصراع من أجل حريتها ضد قوى غازية نكلت بالدولة العثمانية التي كان أتاتورك أحد جنودها المقاومين للغزو الاستعماري، إلى أداة في المنطقة ووجه من أوجه التلتين كما يشير لذلك الدكتور أحمد عماري في كتابه "نظرية الاستعداد في مواجهة الاستعمار"، والإشارة هنا إلى الجامعة اللاتينية مقابل الجامعة الإسلامية في قراءة حقبة من التاريخ، وهنا اندراج تركيا التي كانت مركزاً للجامعة الإسلامية ومحط أطماع القوى الإمبريالية، ليس في حلف سياسي وحسب، إنما تماه على المستوى الهوياتي والثقافي، بحيث سعى أتاتورك إلى التغيير الكلي للجذور ذات الدلالة الإسلامية والشرقية، فحسم طبيعة الانتماء الهوياتي.

ومع أن الخلفية الثقافية تحتاج إلى مدى زمني طويل يصعب اجتثاث جذوره، لأنها تظل مضمرة لتبرز مرة أخرى، فإن حسم هذا البعد تم بلغة القوة وأدوات الدولة الحديثة التي اضطلعت بمهام العلمنة القسرية للمجتمع التركي، وكانت آيا صوفيا وجهها البارز إلى جانب القوانين التي مست مظهرها  العميق بفعل الحرف الذي ستكتب به اللغة.. أي باختيار الحرف اللاتيني بدل الحرف العربي كما أشرنا سابقاً، لذلك يمكننا أن نتساءل هنا، هل ستكون الخطوة المستقبلية في بعض أوجه صراع استعادة تركيا هويتها هو الحرف العربي أو تبويء اللغة العربية مكانة متقدمة؟

 رغم النزعة القومية لدى الأتراك في قضاياهم المصيرية، فإن المستقبل وحده وتفاعل العناصر الثقافية والنفسية في استثارة الأداة التي تكتب بها الثقافة والمعرفة، هي ما يمكن أن يحدد مسألة الحرف واللغة العثمانية أو تبويء العربية موقعاً متقدماً، لكن عموماً يمكن القول إن مسار استعادة هذه الملامح بعد أن تعرضت للطمس ليست بالهينة، حيث اقتضى الأمر عقوداً طويلة من الزمن، لكن السؤال كيف لم تضمر كلية هذه العناصر الثقافية رغم ما تعرضت له من تغيير قسري، وكيف أقبل الشعب التركي على هذا التحول؟

لقد كانت مظاهر الجدل على مستوى الهوية من القضايا التي لم يحسم التفكير بشأنها، في سياق متقلب سياسياً وثقافياً بتركيا، حيث إن صياغة هوية حدية لمجتمع على نزعتي القومية واللغة والعلمانية كأدلوجة، وهو المجتمع الذي تعرف على ذاته من خلال عناصر أخرى تنتسب إلى المحيط الإقليمي الذي تتفاعل معه والرؤى الوجودية التي شكل الدين أحد أبعادها الرئيسية، هذه الهوية الجديدة التي حاول بناة تركيا إلباسها للمجتمع التركي الذي يتسم بطبعه الذي يميل إلى المحافظة الاجتماعية، كان من الصعب أن تظل دون توترات وارتدادات، ومن ثم شكل تغيير وضعية مسجد آيا صوفيا إلى متحف جرحاً غائراً في وجدان الفئات التي بقيت مبعدة اجتماعياً وسياسياً، وما إن حظيت بالاعتراف بعد تحولات عدة، حتى عاد معها بعض تلك الأحلام التي بقيت كخيالات في الوجدان المجتمعي التركي الذي لم يتماهَ مع نخبته الحديثة السابقة.. ومن تلك الأحلام إلى جانب آيا صوفيا، نجد المظاهر الدينية من حجاب وغيره، حيث تشكل صرخة مروة قاوقجي شكلاً من أشكال مقاومة العلمانية العقائدية، وهو ما سنتحدث عنه في مقالة لاحقة.

قد يقول قائل إن آيا صوفيا بمقدار ما تمثل جرحاً غائراً للأتراك بمختلف أطيافهم فهي كذلك بالنسبة لمن سلبت منهم أثناء الفتح وهي كنيسة ستة قرون وهذا يؤشر على عدم التسامح وغيره؟

3)   في الوعي بالسياق السياسي والثقافي لتحول آيا صوفيا إلى جامع زمن الفتح

إن المعابد في مختلف الديانات تشكل رموزاً لأتباعها ومعتنقيها، وقد كانت آيا صوفيا تتجاوز خلفيتها الدينية إلى السياسية والاجتماعية، لذلك كان فتح إسطنبول بعد تمنع طويل، مؤشراً على انهيار امتدت ارتداداته مختلف المناحي لدى بيزنطة، وبالنظر إلى السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي لزمن الفتح، فإنه يصعب رمي محمد الفاتح بعدم التسامح من خلال تحويل كنيسة إلى مسجد، إذا سلمنا بالدور التعبدي الخالص وأبعدنا الرمزية السياسية لآيا صوفيا حينها. لقد كانت كل الملل والأديان ممتدة على طول الإقليم في السياق العثماني وغيره، بل إن وقت فتح إسطنبول كان سياق الأندلس يعاني محاكم تفتيش ممتدة، وهو  ما تنفي مثله عن السياق العثماني أو الإسلامي عموماً، ذلك أن محمد الفاتح أعطى الأمان لمن بقي على مسيحيته، ثم إن الغالبية صاروا من أتباع الدين الجديد بإسطنبول.

زاوية أخرى للنظر في موضوع آيا صوفيا في سياقها بالقرن السادس عشر زمن الفتح، وهو أن آيا صوفيا تم التعامل معها ليس باعتبارها رمزاً دينياً وحسب، وإنما باعتبارها مركزاً سياسياً، بل إن الحروب الصليبية التي دمرت الشرق ومظاهره الحضارية والثقافية كانت تمر جيوشها من هناك، ومن ثم بقيت هذه الصورة السياسية والعسكرية لآيا صوفيا في مخيال الفاتحين، فلم يكن الحكم على المنطقة ليكتمل، لو لم يتم إحداث ذلك التغيير لكنيسة آيا صوفيا دون غيرها من الكنائس التي يشهد التاريخ بقاءها، فهذا البعد الرمزي بدلالته السياسية لآيا صوفيا بالنسبة لأباطرة بيزنطة والفاتحين العثمانيين هي ما ينبغي استحضاره وعدم استبعاده، وإن لم تنفع وثائق الاقتناء، لأن الوضعية كانت بسياق سياسي واجتماعي وثقافي مختلف، ثم إن دلالاته ورموزه الدينية والحضارية مؤثرة كذلك، بل هي ما أعطت للعثمانيين معنى حينها، حيث لا يمكن الحكم وبسط النفوذ دون خلفيات متنوعة، فرمز التأسيس العثماني لدولتهم الكبرى كانت الصلاة بآيا صوفيا وتحويلها لمسجد، وحذفها من طرف أتاتورك، كان لقطع الجذور العثمانية لتركيا الحديث.

الآن مع عودة آيا صوفيا مسجداً من جديد، فإنه يمثل تلك العودة التدريجية، التي تخفي خلفها تجليات متنوعة للإشكالات التي ستتفجر معها في الوعي التركي، بل إنه قد امتد إلى وعي إسلامي ممتد في علاقة بالاستعمار ومخلفات التقسيم والإضعاف الذي مارسته القوى الكبرى ونخبها بالمنطقة منذ القرن التاسع عشر إلى الآن.. وهو وعي يتقاطع فيه الثقافي بالسياسي بالديني بالحضاري العام، والتحول الثقافي أهمها، وهو ما عمل عليه أتاتورك بأدوات الدولة وبشكل خشن، بينما نجد النخبة الراهنة تستخدم الأدوات الناعمة لإحداث التحول في تركيا، وهو ما يفسر تأثيره ووصوله إلى شرائح واسعة.

ختاماً.. نشير إلى معطى مهم للوعي بالمسألة الثقافية لدى الإنسان والمجتمعات، وهو أن التغيير في منحى الثقافة يحتاج عملاً ممتداً في مدى زمني طويل، إذ الثقافة لا تشتغل بمنطق القطائع والتحول السريع، إنما بالتراكم والتغيير الهادئ، لأنها تتصل بأهم معطى لدى الإنسان وهو البعد الأنطولوجي، كما أن عمادها يقوم على الرموز، لذلك فإن ما قام به أتاتورك وبورقيبة في تونس والشاه في إيران، بل وما قام به الاتحاد السوفييتي مع ثقافة الشعوب التي خضعت لنفوذه، وما يمكن أن تقوم به أي قوة في أي مجتمع بخصوص خلفيته الثقافية، لا يمكن أن ينجح بمنطق التغيير القسري، وأن مظاهر التحول قد تتخذ طابعاً شكلياً ومظهراً خارجياً، لكن الجوهر  يظل هو هو، أو يضمر إلى أن تتوفر له الشروط للانبعاث مرة أخرى.

 هكذا يمكننا القول إن التغيير الذي حدث بتركيا والانتقال العنيف لم يكن يعبر عن الروح العامة التي تلائم المجتمع، فكانت الاستجابة لحظية بفعل القوة والعنف، أو بفعل أسباب ودواع أخرى منها الصورة السلبية التي شكلت عن الدولة العثمانية مقابل رداء المقاوم للاستعمار والدفاع عن القومية التركية الذي ارتداه أتاتورك، ومعلوم أن الإنسان والمجتمع التركي به نزعة قومية مفرطة في التشبث بقوميته، يستجيب في أي لحظة لمن يوحد الشعور الجماعي نحو أي تهديد خارجي أو داخلي، وهو ما حصل مع أتاتورك الذي استثمر في ذلك لبناء تركيا الحديثة على أنقاض العثمانية سياسياً، لكن التغيير الثقافي القسري ظل شكلياً، إذ بقي يعتمل لهيب مضمر في ثنايا المجتمع وداخل جوانح الإنسان، وهو ما نشير إلى بداية استعادة ملامحه تحت يافطة البعد الوطني الديمقراطي مع عدنان مندريس الذي وجد نفسه أمام مؤسسة عسكرية تحمي الأيديولوجيا العلمانية، ثم فيما بعد في تجليات صراع ممتد من أربكان إلى مروة قاوقجي التي تعرضت للإهانة في البلمان بسبب حجابها، وألفت كتاب "ديمقراطية بدون حجاب"، ثم النخبة الحالية التي تدير شؤون تركيا.

فما تبدو ملامحه في السياق الراهن امتداداً لتراكم طويل في إذكاء الوعي في السياق التركي، وصل إلى الزمن الراهن مع تحويل آيا صوفيا لمسجد ثانية، في انتظار التحول الكبير الذي يعد به ساسة العدالة والتنمية الشعب التركي في موعد 2023، هذا الامتداد من التحول الصاخب حيناً والهادئ أحياناً سنقاربه في مقالة أخرى في سياق الجدل حول آيا صوفيا.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يحيى عالم
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
باحث في قضايا الفكر العربي الإسلامي والفلسفة. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية، نشرت له عدة دراسات ومقالات في قضايا الفكر والثقافة والسياسية، وأخرى قيد النشر، مقيم حالياً بألمانيا.
تحميل المزيد