يعتقد كثيرون أن أفضل مَن كتب عن الثورات السياسية والتطورات السياسية التي تحدث في فترة ما بعد نجاح الثورات هو المؤرخ والأكاديمي الأمريكي كرين برينتون (Crane Brinton) بكتابه الشهير "تشريح الثورة". فقد أبدع المحاضر بجامعة هارفارد في دراسته للثورات الكبرى عبر التاريخ الحديث، مثل الحرب الأهلية في إنجلترا والثورة والحرب الأهلية الأمريكية والثورة الفرنسية والثورة البلشفية، وخرج في كتابه بنتائج مهمة وفهم عميق لأهم الأسباب التي تؤدي إلى اندلاع الثورات. مثلما تحدّث عن الثورات المضادة أو تراجع الحراك الثوري من المطالبة بالديمقراطية إلى الرضوخ لحكم شمولي في مرحلة من مراحل التغير الثوري. بعبارة أخرى يرى برينتون أن الثورات المضادة ليست إلا جانباً من الإرهاصات الثورية في عملية مد وجزر، خاصةً في الفترات الأولى من حياة الثورات.
قارن كثيرون بين انتكاسة ثورات الربيع العربي في بعض بلدان شمال إفريقيا ونظرية برينتون المذكورة التي تقول بتفضيل الشعوب للأمن والاستقرار والمطالب البسيطة من الخبز والوقود والتعليم والصحة، على الديمقراطية في فترة ما من فترات ما بعد الثورة، وهي الشعوب نفسها التي ثارت طلباً للحرية والخبز معاً. ولعل دراسة الأمر من وجهة نظر سيكولوجية تفسر الأمر على أن الشعوب غالباً ما تنقصها فضيلة الصبر على عملية التغيير البطيئة، وأنها تفقد الأمل بسرعة في التغيير وتنسى أو تتناسى أن التغيير السياسي في غالب الأحيان بطيء وتكتنفه صعوبات تتعلق بمراكز للقوى في الدولة تعمل على معارضة التغيير والمشاكسة بغرض الحفاظ على الوضع السابق وجعل التغيير ظاهرياً وليس شاملاً وجوهرياً. ومراكز القوى هذه تشمل الجيش وقوات الأمن الأخرى، وجماعات المصالح الاقتصادية المرتبطة بالأنظمة القمعية، وبعض الإعلاميين من الذين مَهمتهم تلميع نظام الحكم المخلوع، إلخ.
ونظراً إلى أن ثورات الربيع العربي قد قُتلت بحثاً، وجدت أن من الأفضل إلقاء الضوء على ثورات "الربيع الإفريقي" إن جاز لي تسميتها بذلك، وبالتحديد ثورة السودان التي خلعت نظام البشير وزمرته من الإسلاميين وأتت بعبدالله حمدوك رئيساً للحكومة الانتقالية. والثورة الأخرى التي لا توصف في أوساط السياسيين والأكاديميين بالثورة، لكنها ثورة حقيقية بمنظومة الحكم وفي المفاهيم السياسية بإثيوبيا المجاورة للسودان، والتي حدثت بإمساك رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد لزمام الحكم بالبلاد في 2018 خلفاً لرئيس الوزراء السابق هايلي مريام ديسالين، الذي أعلن استقالته بعد أعمال عنف ومظاهرات متفرقة مناهضة للحكومة، بسبب نزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية أورومو، التي ينتمي إلى إليها آبي أحمد، والحكومة حول ملكية بعض الأراضي، لكن المظاهرات اتسعت لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدت إلى مقتل المئات واعتقال الآلاف. كما كشفت عن تململ كبير داخل المجتمع الإثيوبي يطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية.
حمدوك.. شعبية كاسحة لرجل ذي شخصية توافقية..
ثورة السودان التي بدأت في ديسمبر/كانون الأول 2018، بخروج الآلاف في عدة مدن على حكومة البشير الذي حكم السودانيين لما يقارب ثلاثين عاماً، تنقّل فيها من حاكم صوري وتابع لحسن الترابي وتنظيمه خلال العشرية الأولى، إلى حاكم بشراكة مع مجموعة من قيادات الإسلاميين تمردت على سيطرة الترابي في العشرية الثانية، إلى دكتاتور كامل الدسم في العشرية الأخيرة. ومن سخريات الأقدار أن الأسباب التي جاء بها البشير وجماعته للحكم، وكانت مبرراً لهم للانقلاب على الديمقراطية، هي الأسباب نفسها التي أسقطتهم، وهي الوقود والخبز والتضخم الجامح. وأتت الثورة بحكومة انتقالية يرأسها عبدالله حمدوك، بشراكة أشبه بالزواج القسري بعد حمل غير شرعي بين المدنيين الذين يمثّلهم تحالف "قوى الحرية والتغيير" المكون من أحزاب وحركات معارضة لحكم البشير وبعض التكنوقراط أمثال حمدوك، والعسكر الذين يمثّلهم ضابط مغمور هو عبدالفتاح البرهان، وقائد ميليشيا قبلية هو محمد حمدان الشهير بـ(حميدتي).
نظرية الثورة المضادة ومراكز القوى القديمة التي تحدث عنها برينتون تتجلى في ثورتي السودان وإثيوبيا بقوة، ففي السودان كان الغرض من تحرك العسكر ضد البشير منذ اليوم الأول، أن يكون التغيير صورياً بتغيير البشير وتعيين وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش المحسوبَين على الإسلاميين في رئاسة الدولة لفترة انتقالية. وحينما ثار الشعب على هذا التغيير الصوري ولم تنطلِ عليه الخدعة الساذجة، جاءت الخطة (ب) بتعيين الجنرال "البرهان"، مع اتفاق شفاهي بألا يتم المساس بالإسلاميين وامتيازاتهم وشركاتهم، لكن الإسلاميين وقادة الجيش لم يدركوا أن القوى السياسية التي ذاقت الأمرّين من النظام السابق عازمة على أن يكون التغيير جوهرياً، ينزع من الإسلاميين المكاسب كافةً التي نالوها بسبب احتكارهم للسلطة لعقود. وأصبح حمدوك الذي أتت به الثورة ليكون رئيساً للحكومة الانتقالية، بين مطرقة الجيش وسندان الأحزاب السياسية.
ما يميز حمدوك هو شخصيته التوافقية التي تميل إلى إيجاد حلول للمشكلات الآنية للسودان، في مقدمتها توفير الاحتياجات الملحّة من خبز ووقود وسيولة مالية من جانب، وإصلاح علاقات السودان الخارجية والانفتاح على العالم ومؤسساته السياسية والاقتصادية والمالية بعد فترة طويلة من العزلة والعقوبات الاقتصادية. ولعل كثيرين يرون في شخصيته ضعفاً من جهة بطئه في حسم ملفات سياسية واقتصادية، لكن هذه النظرة السطحية لوضع معقد مثل الوضع في السودان، من حيث الشراكة التي تتسم بالمشاكسة بين العسكر والمدنيين من جهة، والتدخلات الخارجية في الشأن السوداني ودعم معسكر خليجي لطرف ضد الآخر من جهة أخرى، بجانب التجربة الشخصية لحمدوك في العمل مع المنظمات الدولية، وما يتطلبه ذلك من "السير بين المتناقضات" ومحاولة تحقيق ما يمكن تحقيقه دون الدخول في مصادمات أو نزاعات سياسية، كلها أسباب تجعل من مهمة حمدوك صعبة، لكنها ليست مستحيلة. ولعل التغيير الوزاري الأخير الذي أجراه نهاية الأسبوع الماضي، يكشف أن الرجل لا تنقصه الجرأة على التغيير، لكنه تغيير يتميز بالحكمة والتوافقية، حيث أراد في هذا التغيير الوزاري ضرب عصفورين بحجر واحد: تغيير الوزراء الموصومين بالفشل من ناحية، وتنزيل بعض بنود اتفاق السلام مع الحركات المسلحة في أطراف البلاد بتقسيم بعض الحقائب الوزارية لصالحهم.
آبي أحمد.. مصادمة مراكز القوى من القوميات والعسكر
صعوبات مشابهة تواجه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بعد توليه السلطة في الجمهورية الفيدرالية البرلمانية، حيث تقع كل السلطات في يد رئيس الوزراء، ومنصب الرئيس منصب تشريفي. فحينما تولى السلطة في مارس/آذار 2018، اعتقدت مراكز القوى القديمة من كبار ضباط الجيش الفيدرالي وعلى مستوى أقاليم إثيوبيا التسعة أن التغيير صوري، وأن تعيين شاب ينتمي إلى الحزب الحاكم منذ أكثر من ربع قرن، والذي تعود جذوره من ناحية والده إلى قومية الأورومو "كبرى القوميات الإثيوبية من حيث العدد وأكثرها تهميشاً في الشراكة السياسية والاقتصادية"، سيهدئ الاضطرابات التي بدأت تتسع منذ العام 2015 وأدّت الى استقالة سلفه هايلا ماريام ديالسين، الذي خلف زعيم البلاد الراحل صاحب الكاريزما والرؤية المستقبلية لتطوير البلاد ملس زيناوي.
بدأ آبي أحمد عامه الأول بالبدء في ثورة إصلاحية داخلية وخارجية، تمكن خلالها في عامه الأول، من إعادة بعض الهدوء والاستقرار بعد اضطرابات داخلية استمرت ثلاث سنوات، كما شملت الإصلاحات الداخلية هيكلة الهيئات ومؤسسات الدولة الديمقراطية، وإطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، وإجراء إصلاحات في النظام الشرطي المعروف بقسوته تجاه المعارضين والمواطنين على حسد سواء، والذي هو واحد من بقايا إرث حكم منقستو الشيوعي القمعي. كما قام آبي أحمد بإقالة رئيس الأركان الذي استمر في منصبه لعقدين من الزمان، ورفع بعض حركات المعارضة المسلحة من لائحة المجموعات الإرهابية في البلاد. وخارجياً كان سعيه إلى "تصفير المشاكل" مع الجيران سمة أساسية لسياسته الخارجية، حيث رفع غصن الزيتون لجيرانه في إريتريا والصومال، بل سعى لتحقيق سلام بين إريتريا وجيبوتي. وغازل الحكومة الجديدة في السودان لدرجة التوسط بين العسكر والمدنيين؛ وهو الأمر الذي أدّى إلى نيله جائزة نوبل للسلام.
هذه الإصلاحات الداخلية والخارجية التي ترقى إلى حد وصفها بـ"الثورة" في المفاهيم وأسلوب الحكم بإثيوبيا، التي اعتادت نظام حكم أبوياً منذ أيام الأباطرة من قومية الأمهرا، مروراً بفترة الحكم الشيوعي الدموية، وحتى فترة ملس زيناوي وسلفه ديالسين التي استمرت ربع قرن من الزمان. وقد تميزت فترات حكم الأباطرة بسيطرة تاريخية لقومية الأمهرا، تلتها فترة الحكم الشيوعي وسيطرة نظام الدرق (Derg) الدموية على البلاد برئاسة منقستو هيلي مريام، الذي تقول مزاعم بأن والده سوداني هاجر إلى إثيوبيا، وفترة حكم ملس زيناوي التي تميزت بقلب الطاولة على قومية أمهرا بواسطة أقلية تقراي التي ينتمي إليها زيناوي. الجديد في حكم آبي أحمد هو أنه ينتمي "من جهة والده" إلى قومية الأورومو التي تشعر بأنها مهمَّشة. وهو أمر جعله بين مطرقة قوميته المطالبة بتغيير حقيقي في أوضاعها الاقتصادية والسياسية، وسندان القوميات الأخرى القوية من أمهرا وتقراي الرافضتين لإبعادهما من مراكز القوى التي سيطرتا عليها لعقود.
التهديدات التي واجهت آبي أحمد من مراكز القوى هذه، تضمنت تفجيراً لموكبه، ومحاولة انقلابية في إقليم أمهرا، تم خلالها اغتيال أبرز رفقائه حاكم الإقليم، واغتيال مدير مشروع سد النهضة، والاضطرابات التي تقع بين الحين والآخر في أقاليم إثيوبيا، خاصةً الأقاليم التي تحتضن قوميات تقراي وأمهرا وأورومو. وكان آخرها الاضطرابات التي حدثت في الأسبوع الأخير من شهر يونيو/جزيران الماضي، بسبب حادثة اغتيال مغنٍّ شهير من قومية أورومو، وأدت إلى مقتل أكثر من 160 شخصاً. ولا ننسى الضغوط السياسية التي يواجهها آبي أحمد من قوميته نفسها، مثل قدوم المعارض الشاب والناشط السياسي الذي ينتمي إلى القومية نفسها جوهر محمد من الولايات المتحدة، وتنظيم أنصاره لمظاهرات متكررة، ورغبته في منافسة آبي أحمد في الانتخابات القادمة. إلى آخر الضغوط الطائفية والحزبية في بلد متنوع الإثنيات ويتميز بكثافة سكانية كبيرة واقتصاد لا يزال يعاني من العلل نفسها التي تعانيها غالبية اقتصادات العالم الثالث.
التحديات التي تواجه حمدوك وأحمد، اللذين يرتبطان بصداقة قوية، تبدو في بعض جوانبها متشابهة، مع الأخذ في الاعتبار خصوصية كل بلد من البلدين. حيث يواجه الرجلان مشاكل مشابهة لمعظم المشاكل التي تواجه قيادات البلدين في مرحلة ما بعد الثورة التي تحدث عنها برينتين. وإذا أخذنا في الاعتبار الأهمية الاستراتيجية لإثيوبيا ودعم الدول الغربية الكبير لها- حتى في أسوأ فترات حكم الشيوعية فيها- نجد أن الغرب الذي منح آبي أحمد جائزة نوبل للسلام بعد عام واحد فقط من حكمه للبلاد، سيدعم النهج الديمقراطي في إثيوبيا، التي تُعتبر واحدة من قلاع المسيحية في القارة الإفريقية. وعلى الرغم من الدعم السياسي الكبير لحمدوك من الاتحاد الأوروبي والدول الصانعة للقرار فيه مثل ألمانيا وفرنسا، فإن المصادفة السيئة التي جعلت الثورة السودانية تقتلع نظام البشير في فترة حكم شخص مثل دونالد ترامب في واشنطن تجعل من مهمة حمدوك من الصعوبة بمكان.
وإذا ما كنا من المتفائلين، فسنأمل أن يعبر البلدان إلى شاطئ الديمقراطية وحكم القانون والمؤسسات، ويودّعا إلى الأبد دورة الانقلابات العسكرية والديمقراطيات الضعيفة. وإذا سلكنا درب المتشائمين فسوف نتنبأ لهما بمصير مشابه للرئيس المصري الراحل محمد مرسي، أو حرب أهلية مثل التي تفتك الآن بأهل اليمن.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.