يتابع المراقبون أخبار المواجهة -الهابطة جداً- بين الرئيس ترامب ومستشار الأمن القومي السابق السيد جون بولتون، بعد أن أصدر الأخير كتابه "الغرفة التي شهدت الأحداث". سجالات علنية لا يمكن تخيّل حدوثها في قمة الهرم السياسي في أقوى دولة في العالم، إلا إذا كانت هذه السجالات دليلاً على بداية الانحدار والهبوط في دوائر اتخاذ القرار السياسي الأمريكي.
ذكَّرتني هذه السجالات وأنا أرجع بذاكرتي إلى أيام احتلال العراق عام 2003، عندما كان السيد بولتون من ضمن مَن يسمون بالصقور الذين، أصرّوا على الغزو مع نائب الرئيس ديك تشيني ورامسفيلد وباول وكوندليزا رايس. وكان بولتون صاحب نظرية "المثلث السُّني"، والذي تم فيه وضع العرب السُّنة في خانة الأعداء المباشرين، ولم نعلم رؤوس ذلك المثلث إلى الآن، ثم أَكملت السيدة رايس الصورة بنظرية "الفوضى الخلاقة"، والتي صار تفسيرها أصعب من تفسير نسبية آينشتاين.. فكيف هي الفوضى الخلّاقة بعد ما آلت إليه الأمور في العراق؟
بعد سبعة عشر عاماً اعترف ترامب بأن غزو العراق بتلك الأفكار وتلك الطريقة كان أكبر خطأ ترتكبه الولايات المتحدة في تاريخها، وهو اعتراف صريح بأن مثلث السيد بولتون حديث خرافة، كنظرية الفوضى الخلّاقة.
ورجوعاً لموضوعنا، ومن خلال تتبُّعنا لما حصل حول السماح بنشر الكتاب من عدمه، الكتاب الذي أثار حفيظة الرئيس الأمريكي، وهو ما دعاه لوصف السيد بولتون بأنه "غبي وممل ويفتقر إلى الكفاءة". علماً أن منصب الأخير بين عامي (2018-2019) هو منصب حساس جداً، وقد يفوق في صلاحياته منصب وزير الخارجية، وكان أشهر من شغلوه هنري كيسنجر وبريجنسكي.
لقد أجبرت محتويات الكتاب الرئيس على النزول من عليائه، ليقول إن بولتون سيدفع ثمناً باهظاً لخرقِهِ القانونَ بنشره معلوماتٍ سرية وبكميات هائلة تضر بأمن الدولة، ولكن موافقة المحكمة العليا على نشر الكتاب ذهبت بأحلام السيد ترامب أدراج الرياح.
وقد قال السيد بولتون في كتابه الذي ملأه بالسخرية من ترامب وإدارته، وأظهر فيه الرئيس كتاجر ورجل أعمال، وطالب للسلطة أكثر مما هو سياسي، ولا يعرف إلا القليل عن بعض الحقائق في العالم، وجاهل بأبسط الحقائق الجغرافية، ومستبد بقراراته، ومتعصب لوجهة نظره، وأنه لا يُلقي بالاً لأي أمر سوى تحقيق رغبته في النجاح في الانتخابات القادمة، والفوز بفترة رئاسة ثانية مهما كان الثمن. ويصفه بولتون بأنه زعيم متهور، قليل الاطلاع بشكل مدهش، حتى إنه لم يكن يعلم أن بريطانيا قوة نووية، رغم أنها كذلك منذ عام 1952.
ويذكر بولتون الكثير من المواقف المضحكة التي وقع فيها ترامب، إذ يسرد في كتابه أن ترامب سأل الرئيس الروسي بوتين ذات مرة: هل فنلندا دولة تابعة لروسيا؟ علماً أنها دولة مستقلة، وعضوة في الأمم المتحدة. ويقول بولتون إن حضور ترامب لجلسات المعلومات الاستخبارية لم يكن مفيداً على الإطلاق، لأنه لا يعرف أي شيء، ولا توجد في أطروحاته ومداخلاته أي علاقة بالمواضيع المطروحة!
ويَذكر السيد بولتون في كتابه أحداثاً عن التلون السياسي للسيد ترامب، فيقول إنه فرَضَ عقوبات على مسؤولين صينيين متورطين في احتجاز الأقلية المسلمة "الإيغور"، ومعاملتها معاملة سيئة. وعندما اعترض الصينيون وغضبوا تراجع ورحّب بالإجراءات الصينية، وقال إنهم يقومون بالأمر الصحيح، وهو ما يجب فعله، أي أعطاهم الضوء الأخضر للانتهاك والتعذيب، وهي العملية التي أدانها سابقاً، وذلك على أن يقفوا معه في حملته الانتخابية.
ويصف السيد بولتون عقلية السيد ترامب بالعقلية التي تُهيمن وتستبد بها المصالح التجارية قبل السياسية. فالعقوبات الاقتصادية تهيمن على معظم قراراته، حتى إنه هدَّد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي الـ(NATO)، في حالة عدم تسديد بعض الدول ما عليها من التزامات مالية، وهذا يعني انهياراً لا يقل في نتائجه عن تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو عام 1991.
ولم يَسلَم الرجال المقربون من السيد ترامب من لسانه السليط، فوصف وزير الخارجية الحالي بومبيو بأنه رجل ينضح قذارةً.
لقد كان رد ترامب قاسياً جداً على بولتون، فوصفه بالرجل الفاسد، وأنه تم استدعاؤه وتوبيخه، وسيدفع الثمن باهظاً، لأن الكثير مما ذكره غير صحيح.
الولايات المتحدة بلد منفتح على الصحافة والإعلام، والإعلام المضاد، ولكن أن تصل الأمور إلى تلك الحدود فهي مسألة يمكن أن يُنظر إليها من زاوية حجم تفكك مراكز القرار في أمريكا، وسيؤدي بالسياسة الأمريكية إلى اتخاذ قرارات متضاربة، قد تؤدي إلى خلخلة المواقف العسكرية الأمريكية تجاه مسائل مصيرية، كما حدث في عملية غزو العراق.
كتاب بولتون الأخير أكبر من مجرد كتاب يروي كواليس البيت الأبيض أو يُفشي أسرار الأمن القومي الأمريكي، كما لا يجب التعاطي معه فقط باعتباره كتاباً فاضحاً لممارسات ترامب الدخيلة على السياسة الأمريكية.
إن ذلك الكتاب وموقف كاتبه لهما أدلة على تفسُّخ في المنظومة السياسية التقليدية في أمريكا بشكل عام، والحزب الجمهوري بشكل خاص، وذلك بصدد ما يتردّد عن نية الصقر الجمهوري جون بولتون عدم التصويت لصالح ترامب في الانتخابات القادمة، وأنه سيبحث عن مرشح جمهوري آخر للتصويت له. هذا التصريح يضاعف من حجم الشرخ والهوة بين قادة الحزب الجمهوري، ويضاعف من حظوظ الحزب الديمقراطي في الظفر بالمكتب البيضاوي في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادمة. إذ إن عدم امتثال جمهوريٍّ حتى النخاع مثل بولتون لقرار الحزب يعني بطبيعة الحال وجود تيار كبير بالفعل داخل الحزب الجمهوري لا ينوي التصويت لترامب، ولَربما التصويت للمرشح الديمقراطي من أجل الإطاحة بالأخير من كرسي الرئاسة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.