عن مواجهتي الأولى مع الغاز المُسيل للدموع

عدد القراءات
791
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/24 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/24 الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش

استنشقت الغاز المُسيل للدموع للمرة الأولى في عام 2012. كُنت حينها داخل ميدان التحرير في وسط العاصمة القاهرة، حيث اجتمع نصف مليون مُحتج مصري قبل عامٍ واحد لإعلان الانتصار على الدكتاتور العسكري حسني مبارك، الذي تنحّى رسمياً عن منصبه في الرئاسة بعد 30 عاماً من حُكم البلاد. وفي أعقاب ذلك، فاز محمد مرسي من جماعة الإخوان المسلمون بالانتخابات وحاول منح نفسه سلطات استبدادية واسعة، مما دفع بحشود كبيرة وصحفيين كُثر إلى العودة للميدان.

وكانت قنابل الغاز المسيل للدموع التي استنشقتها في ذلك اليوم تحمل العبارة التالية بحروف كبيرة: "صُنع في الولايات المتحدة الأمريكية".

وكان الغاز مُؤلماً ويُجبرني على إغلاق عيوني. كُنت أركض دون جدوى. كان الألم يتسلّل إلى أنفي وحلقي. كُنت أشعر بغصةٍ جافة في حلقي. لكنّني عُدت من أجل المزيد في اليوم التالي مع قناع N95، ولكنّه لم يُساعدني كثيراً. وظلّت القصبة الهوائية مُلتهبة لأيام.

ومن خلال تلك الذكريات حاولت تحليل الاحتجاجات التي اجتاحت المدن الأمريكية، وواجه المحتجون فيها الغاز المسيل للدموع وعنف الشرطة. إذ تبدو مشاهد أفراد شرطة مكافحة الشغب وهم يتقدّمون سريعاً في الشوارع للهجوم على المحتجين شبيهةً للغاية بالأيام الأولى للاحتجاجات في مصر.

وحينها، كان العديد من المصريين يُنكرون الأحداث إبان تكشُّفها. إذ كان محمد فهمي، الفنان الشهير بلقب "جنزير"، في ميدان التحرير منذ اليوم الأول. وقال لي إنّ الناس كانوا رافضين لما سيحدث: "كنا نقول أشياء مثل (مصر ليست تونس)". ويتذكّر بوضوح الضجة المُدوية التي صاحبت أول قنبلة غاز حلّقت في الهواء.

وأردف: "كان الناس يُحدّقون بها وهي تُحلّق في الهواء قبل أن تسقط على الأرض. ولم يُدركوا ماهية تلك القنبلة حينها". وأطلقت الشرطة المصرية، والجيش المصري من بعدها، الكثير من تلك القنابل لدرجة أنّ مخزونهم أوشك على النفاد – قبل أن ينجحوا في شراء المزيد من الولايات المتحدة.

وكان جنزير يُقارن ببانكسي وشيبرد فيري على صفحات New York Times الأمريكية، رغم أنّه يكره أن يُطلق عليه اسم "فنان شارع". ناهيك عن أنّ فنّه الاحتجاجي عرّضه للاعتقال، فقرّر الفرار إلى الولايات المتحدة حيث يُقيم حالياً لتجنّب أن يصير سجيناً سياسياً أو أسوأ من ذلك. لكنّ الأسابيع القليلة الماضية كانت أشبه بالديجا فو (وهم سبق الرؤية).

واندلعت انتفاضات مصر نتيجة سلسلةٍ من حوادث وحشية الشرطة التي التقطتها الكاميرا، إلى جانب أشياء أخرى. إذ احتشدت مجموعةٌ كبيرة على فيسبوك حول قضية مُروّعة وضحيتها المدعو خالد سعيد، قبل تنظيم أول التجمعات الاحتجاجية. لكنّها ما كانت لتتحوّل إلى ثورةٍ كاملة بدون محاولات الشرطة المصرية العنيفة لقمع المحتجين السلميين، مما منح المحتجين شرعيةً أكبر وزاد أمد الاحتجاجات.

وخلال الأسبوع الماضي، شاهدت فيديوهات تتسرّب من أمريكا للشرطة المسلحة وهي تضرب المحتجين بالغاز، وتصدمهم بالسيارات، وتُطلق عليهم الرصاص المطاطي. وكما كان الحال في مصر، تختبر تلك الأعمال القمعية صبر المحتجين وأساليبهم.

وفي مصر، قال جنزير: "أتذكر وقائع بعينها حيث شعر شخصٌ بضرورة مخاطبة الشرطة والوقوف أمام أفرادها للتأثير في قلوبهم. لكن ذلك لم ينجح. إذ لن تستطيع مخاطبة قلوبهم أو أرواحهم".

وكان يُفكّر حينها أنّ "ضباط الجيش من المستحيل أن يُطلقوا النار على المدنيين"، لكن لم يمض الكثير من الوقت قبل أن يسمع أصوات الطلقات الحية في الهواء.

مصر ليست تونس، وأمريكا ليست مصر كذلك. وليست داليا فهمي، الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية بجامعة لونغ آيلاند، متحمسةً لهذه المقارنة أيضاً. وقالت في إشارةٍ إلى حالة الاعتقال الأمريكية: "هل تُوجد وحشية شرطة مستهدفة في مصر؟ نعم. ولكنّ الاستهداف يأتي على أسس أيديولوجية. لا يُمكن القول إنّ 10% من سكان مصر هم من ذوي البشرة السمراء، ولكن 60% من المصريين مُعرضون للسجن". كما تختلف مصر عن أمريكا كثيراً في ما يتعلّق بالتاريخ والتفاوتات الاقتصادية. إذ اشتعلت الاحتجاجات هنا على خلفية 400 عام من استعباد ذوي البشرة السمراء، ونزع حق الاقتراع، والعنف الرسمي.

لكن داليا تُدرك سبب هذه المقارنة في عقول البعض، إذ أوضحت في إشارةٍ إلى مقاطع الفيديو التي وثّقت عنف الشرطة قبل الثورة: "تحدّثنا كثيراً عن ميلاد صحافة المواطن إبان الربيع العربي. ولهذا السبب سارع مبارك إلى قطع الإنترنت عن البلاد، وكأنه المفتاح السحري لحل المشكلات. ويُمكن تحقيق هذا النوع من التوازي. إذ كانت صحافة المواطن هي أقوى الحلول في مواجهة خطاب الدولة أثناء الربيع العربي، وهي وسيلتنا الوحيدة لتحقيق العدالة في الوقت الحالي".

علاوةً على أوجه الشبه الأخرى كذلك، إذ قالت داليا، في إشارةٍ إلى خطاب مُحامي الرئيس الأسبق الذي نشره دونالد ترامب في إحدى التغريدات: "وصف ترامب المحتجين في العاصمة يومها بالإرهابيين. وصُدِمت حين شاهدت ذلك. هذا هو ما حدث في مصر بالضبط. وهذا هو الخطاب الذي تستخدمه الأنظمة الاستبدادية، أليس كذلك؟ إنّهم يُهدّدون أمن الدولة، لذا فهم إرهابيون". وفي مصر، بدأ مؤيدو النظام في الشعور بارتياحٍ أكبر تُجاه عنف الدولة ضد المحتجين.

ولا تختلف كثيراً العوامل التي دفعت بالناس إلى الثورة في مصر والولايات المتحدة، لكن ردود الأفعال الأولية متشابهةٌ تماماً تقريباً. قوةٌ غير متكافئة دون سببٍ واضح، وهجومٌ على الصحافة، وجلسات تصوير بلا معنى، ومطالبة الناس بعدم تصديق ما تراه عيونهم: وأيّ شخص مطلع على طريقة تمسّك الأنظمة الاستبدادية الشرق أوسطية بالسلطة سيُلاحظ أوجه الشبه بسهولة. وهذا أصاب الكثير منا -الذين عاشوا تلك الذكريات- بالقلق حيال ما سيحدث لاحقاً.

وأردفت داليا: "الجميع يكتبون: توقّفوا عن الحديث حول الربيع العربي. ولكن كما أقول لتلاميذي، يجب أنّ نتذكّر أنّ هناك رابحاً وخاسراً في السياسة دائماً". ودرست داليا أساليب تنافس الأنظمة على السلطة أثناء الثورات، وأوضحت أنّ الربيع العربي يحمل دروساً يُمكن أن يستفيد منها الحراك الحاصل داخل أمريكا اليوم: "من السذاجة الاعتقاد بأنّ الربيع العربي سيحدث، ثم يحصل الناس على ما يستحقونه ببساطة. ومن السذاجة أيضاً الاعتقاد بأنّ سلسلةً من الاحتجاجات ستُؤدّي إلى تغييرٍ هيكلي". وحين تتذكّر أسباب فشل الثورة المصرية، تُدرك أنّ الأمر مُتعلّق بما حدث في أعقاب الاحتجاجات وليس إبانها.

وحينها، كان جنزير يتظاهر طوال النهار ويُنتج فنه الاحتجاجي طوال الليل. ويتساءل الآن بعد فوات الأوان حول الكيفية التي كان يُمكن بها استغلال تلك الطاقات العاطفية المُتفجّرة في ميدان التحرير، إذ قال: "ظهرت المشكلات الحقيقية حين بدأ التعب يُصيب المحتجين، وبدأت مبادئهم ومعتقداتهم تتعرّض للتلاعب نتيجة الحاجة لعودة الأوضاع إلى طبيعتها". وهنا بدأت الثورة تنهار في مصر، لأنّ "عليهم توفير الطعام لعائلاتهم، وعليهم تسديد الإيجار".

وفي حالة مصر، عادت الغالبية العظمى من الناس إلى المنزل عقب تنحّي مبارك. وظنّ الكثيرون أنّ أيام الدكتاتورية العسكرية انتهت. ولكن بقاء غالبية البنية التحتية السياسية في البلاد على حالها؛ مكّن الجيش من إعادة تثبيت حكمه سريعاً. وفشلت ثورة مصر، لكن جنزير يعتقد أنّ الأمريكيين يمضون على الطريق الصحيح لتوسيع نطاقهم: "الأمر لا يتعلّق بالقليل من رجال الشرطة السيئين. ولا يتعلّق بترامب، بل يتعلّق بتحويل النظام بالكامل".

وقالت داليا: "فشلت الثورة المصرية تماماً كما فشلت حركة "احتلوا وول ستريت". لم تكُن هناك خطةٌ استراتيجية -وهنا يأتي دور أدب العلوم السياسية- ولم تظهر شخصيةٌ قيادية جذّابة، ولم يجرِ تشكيل ائتلاف، ولم تكُن هناك رؤية اختمرت لعدة سنوات قبل اندلاع الثورة. لذا شهدت فترة ما بعد الثورة سلسلةً من وقائع الاقتتال الداخلي".

لكنّها أوضحت أنّها تشهد إشارات متداخلة هذه المرة: "لدينا أشخاص يُنادون بقطع تمويل الشرطة، وبدأ هذا الأمر في الحدوث فعلياً. لذا فربما تمضي الأوضاع في طريق النجاح. ولكن غياب القيادة والرؤية والخطة سيُؤدّي إلى الفشل كما حدث مع الربيع العربي وحركة احتلوا، لذا فربما تكون هذه مجرد لحظة عابرة".

وعلى غرار الكثيرين، شاهدت الاحتجاجات خلال الأسابيع الماضية بمشاعر الأمل، ولكنّني لن أستطيع القضاء على شكوكي تماماً، إذ شعرت بهذا الأمل من قبل حين أحسست بأنّ مصر تغيّرت لفترةٍ قصيرة. وللمرة الأولى في حياتي داخل المقاهي حينها حلّت النقاشات حول هوية الفائز بأول انتخابات رئاسية حقيقية محل الجدل الساخن حول فريق كرة القدم الأفضل في البلاد.

لم يعُد أحدٌ في مصر يتحدّث عن السياسة الآن، وما يزال معطفي الذي ارتديته في الاحتجاجات بميدان التحرير تفوح منه رائحة الغاز المسيل للدموع إلى يومنا هذا.

– هذا الموضوع مُترجم عن مجلة Slate الأمريكية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أيمن إسماعيل
كاتب في مجلة Slate الأمريكية
كاتب في مجلة Slate الأمريكية
تحميل المزيد