في رواية للكاتب هاجيمي إيساياما تدور الحكاية حول البشر في زمان ومكان ما، قابعَين داخل مدينة محاطة بأسوار عالية؛ وذلك لحمايتهم من هجوم العمالقة آكلي البشر خارج تلك الأسوار عليهم.. ومع استمرار الرواية نبدأ باكتشاف أن العدو الحقيقي لأولئك البشر ليسوا العمالقة وإنما بعض البشر الذين يعيشون بينهم، والذين لا همَّ لهم سوى أكل العمالقة لكل البشر عداهم، وهم ذوو النفوذ والسلطان والحكم والمتحدثون باسم الدين لأجل مصالحهم، وأن ما يجري من ظلم وتفرقة واضطهاد وعنصرية داخل تلك الأسوار أشد وطئاً على البشر من هجوم العمالقة عليهم.
والحقيقة الصادمة هي أن أولئك العمالقة بالخارج ما هم إلا بشر مثلهم وقع عليهم العقاب الظالم من بعض البشر المتسلطين، محوِّلين إياهم إلى عمالقة منذ أزل بعيد، وأن هذا السر قد دفنته العائلة المالكة ورجال الكنيسة عن طريق محو ذاكرة المواطنين لذلك الماضي؛ حتى يستطيعوا حصرهم داخل تلك الأسوار المزعومة وتلك المدينة الموهومة بشعار "الأمان والسلام داخل الأسوار". فيبدأ البشر بالانقلاب على أولئك الحكام وتوعية بقية المواطنين بالواقع وبحقيقة عدوهم.
فما أشبه الواقع بتلك الرواية! فنحن نرى في كثير من الدول العظمى -كأمريكا التي هي موضوع مقال اليوم- شعارات السلام الوهمي والديمقراطية المزعومة والقوى العظمى لحماية الأمريكيين من (العمالقة) الأعداء خارج أمريكا. فهي من هي، الدولة ذات القوة العسكرية والسلاح النووي والنفوذ الاقتصادي والهيمنة السياسية، بلد الديموقراطية والأمان.
ولكن مع استمرار (الرواية) الأمريكية نكتشف حقيقة أن العدو الحقيقي هم بعض البشر بينهم، القانطين داخل (أسوار) مدينتهم العظمى، وأن الديمقراطية والأمان ما هما إلا واقع لذوي النفوذ والحكام ورجال الدين وبعض أصحاب البشرة البيضاء، بينما ما هي إلا وهْم يحيط ببقية المواطنين وأصحاب البشرة السمراء بالأخص، الذين لم يهنأوا داخل (أسوار) أمريكا وعانوا داخلها أشد مما عانوه من (العمالقة) خارجها. فنرى سلسلة تاريخية من التفرقة والعنصرية في أبهى صورها بين البيض والسود، أو كما يسمون (الأفارقة الأمريكيين). ولكن الحكام قد (محوا ذاكرتهم)؛ حتى يتوهموا الأمان والكمال ويعتقدوا أن فقط العدو هو من بالخارج، وأن الخطر يأتي من كل ما هو ليس بأمريكي.
والأدهى والأمَرُّ أن غالبية تلك الجرائم كانت بيد أصحاب النفوذ وحامي المواطنين من قوات الشرطة البيض ضد مواطنين سود. والذين قد تم (محو ذاكرتهم) بدورهم؛ حتى ينسوا الماضي ويظنوا أن أولئك السود هم العدو الحقيقي (هم آكلوا البشر)، فيُذيقونهم عقاباً ظالماً، محوِّلين إياهم لأعداء (عمالقة)! فهل سيشهد التاريخ عودة السود كأعداء (عمالقة)، ليأكلوا ظالميهم ويردّوا الصاع صاعين لما يقع عليهم من ظلم منذ الأزل؟!
جاء على لسان الأمم المتحدة وشبكة حقوق الإنسان الأمريكية، أن "التمييز في الولايات المتّحدة يتخلّل جميع جوانب الحياة ويمتدّ إلى جميع الأعراق غير البيضاء". وصورة من صوره هي صعود حركة اليمين البديل (alt-right)، وهي عبارة عن تحالف قومي أبيض يسعى إلى طردِ الأقلّيّات الجنسيّة والعرقيّة من الولايات المتحدة.
فما نراه اليوم من (مظاهرات وانقلاب شعبي لإسقاط الحكومة الأمريكية) رداً على الاضطهاد والعنصرية ضد السود ما هو إلا تاريخ يعيد نفسه. فالجريمة التي ارتُكبت في حق (جورج فلويد) ليست حالة فردية أو استثنائية؛ بل هي استمرار لسلسلة من الجرائم العنصرية على مر التاريخ الأمريكي.
(لوس أنجلوس.. 1965): توقيف رجال شرطة بيض للشاب أسمر البشرة ماركيت فراي، ثم مشاجرة مع أقربائه، مما أدى إلى تمرد بمعزل (جيتو) في لوس أنجلوس.
(نيوآرك .. 1967): مشادة بين شرطيين أبيضين وسائق أجرة من أصول أإفريقية تؤول إلى أعمال شغب في نيوآرك بولاية نيوجيرسي.
(ديترويت.. 1967): أعمال عنف في ديترويت بعد تدخل للشرطة بشارع تقطنه غالبية من ذوي الأصول الإفريقية.
(اغتيال مارتن لوثر كينغ.. 1968): على أثر اغتياله انفجر العنف في 125 مدينة. وفي واشنطن حينذاك حيث كان ذوو الأصول الإفريقية يشكلون ثلثي سكان المدينة، أُضرمت حرائق ووقعت أعمال نهب، وصولاً إلى منطقة تبعد نحو 500 متر فقط عن البيت الأبيض.
(ميامي.. 1980): اندلعت أعمال العنف بعدما تمت تبرئة أربعة شرطيين بيض؛ لقتلهم سائق دراجة نارية أسود تجاوز إشارة المرور.
(لوس أنجلوس.. 1992): أشعلت تبرئة أربعة شرطيين بيض لقتلهم رودني كينغ سائق سيارة من أصل إفريقي، اضطرابات امتدت إلى سان فرانسيسكو ولاس فيغاس وأتلانتا ونيويورك.
(سينسيناتي..2001): قتل شرطي أبيض خلال مطاردة الشاب تيموثي توماس. تلت الحادثة أربعة أيام من أعمال الشغب.
(فرغيسون.. 2014): أدى مقتل الشاب مايكل براون برصاص أطلقه شرطي أبيض إلى أعمال عنف استمرت عشرة أيام، بين أصحاب البشرة السمراء وقوات الأمن التي استخدمت بنادق هجومية وآليات مصفحة.
(بالتيمور.. 2015): توفي فريدي جراي، بعد إصابته بكسور في فقرات العنق عند نقله بشاحنة صغيرة للشرطة. أدت القضية ونشر تسجيلات فيديو إلى توقيفه، بسبب نظرته التي لم تعجب الشرطة، إلى أعمال شغب ونهب في المدينة. أعلِنت حالة الطوارئ واستدعت السلطات الجيش والحرس الوطني.
(شارلوت.. 2016): جرت تظاهرات عنيفة بولاية كارولاينا الشمالية بعد مقتل كيث لامونت سكوت عند خروجه من آلية بينما كان يطوقه شرطيون. قالت قوات الأمن، إنه جُرح بالرصاص بينما كان يرفض تسليم سلاحه. لكن أقرباءه يؤكدون أنه لم يكن يحمل سوى كتاب بيده وينتظر بسلام ابنه عند موقف للحافلات. وبعد تظاهرات استمرت عدة ليالٍ، أعلن حاكم الولاية حالة الطوارئ وطلب تعزيزات من الجيش والحرس الوطني.
(مينيابوليس.. 2020): صدامات بين متظاهرين والشرطة، وأعمال عنف بعد وفاة جورج فلويد في أثناء توقيفه من قبل الشرطة. أوقف الشرطي الأبيض ديريك تشوفين الذي يظهر في تسجيل فيديو وهو يثبّت فلويد على الأرض بساقه، والآخر يخبره "لا أستطيع التنفس"، اتهم "بالقتل غير العمد". فاندلعت المظاهرات وامتدت المواجهات إلى مدن نيويورك وفيلادلفيا ولوس أنجلوس وأتلانتا وأيضاً حتى 25 ولاية، بل خارج أمريكا أيضاً إلى 11 دولة؛ وهو ما دفع المسؤولين في بعض المدن، ومنها ميامي وشيكاغو، إلى منع التجول. وامتدت وصولاً إلى البيت الأبيض حيث اختبأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قبو محصن للطوارئ.
فهل سينتبه العالم ومنظمات حقوق الإنسان الغافلة أو المستغفلة إلى ما يحدث داخل أمريكا! وكذا الشعب الأمريكي نفسه لإدراك ما وراء غيمة السلام المزعوم الذي يحيطهم؟! أم سيظل العالم قابعاً في وحل العنصرية والتمييز إلى الأبد! ولكن يمكننا القول إن تلك الانتفاضات تعطي بعض الأمل، فالعجيب أن أغلب المتظاهرين من أصحاب البشرة البيضاء أو يجب أن نقول هم من البشر الذين ما يزال لديهم من الإنسانية ما يجعلهم يؤمنون بأن لا فرق بينهم ليتفرقوا بسبب لون بشرة!
في الصورة عمل فني تشريحي ضد العنصرية للفنان ديفيد فارغاس تحت عنوان :
" تحت الجلد جميعُنا الشيء نفسه"
"Under the skin we are all the same"
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.