لم تعد بوك نو أونغ من ولاية كاشين في ميانمار إلى منزلها منذ عام 2011. ذلك أن القرى الثلاث التي أمضت فيها طفولتها قد دُمرت. وقالت أونغ: "ضربت الحرب جميع الأماكن التي عاشت فيها أسرتي. أشعر بأن مسؤوليتي الاشتراك في جميع الأمور المتعلقة بالسلام".
برزت بوك نو أونغ، التي يبلغ عمرها الآن 21 عاماً، وهي بوصفها متحدثة رسمية بين الشباب النازحين بسبب النزاع. عندما وصلت أونغ سان سو تشي إلى السلطة عام 2016، تعهّد حزبها، حزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، بإعطاء الأولوية لإنهاء الصراع في ميانمار. ومع ذلك، فما تزال الجماعات العرقية المختلفة مستمرة في القتال من أجل زيادة الاستقلالية الفدرالية.
في ولاية راخين، يتصاعد الصراع بين جيش ميانمار، المعرف باسم تاتماداو، وجيش أراكان المتمرد. وعلى مستوى البلاد، فإنَّ ما يقدر بـ 241 ألف شخص مثل بوك نو أونغ ما يزالون في المخيمات، بما في ذلك أكثر من 97 ألفاً في ولاية كاشين، بحسب صحيفة The Guardian البريطانية.
عشرات الآلاف من النازحين يبحثون عن صوت لهم
وتعد مخيمات المشردين داخلياً الدليل الأوضح على استمرار الصراع في ميانمار. ومع اقتراب موعد الانتخابات العام المقبل، فقد تسارع الزخم السياسي لإعادة المهجرين إلى ديارهم.
وتعد ولاية كاشين، التي تشارك حدوداً مع مقاطعة يونان الصينية، منطقة استراتيجية لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وهي استراتيجية تنمية عالمية تشتمل على ممر اقتصادي بين الصين وميانمار. وفي شهر مارس/آذار التقى مسؤولو مقاطعة يونان، مع مؤتمر كاشين المعمداني القوي وجرى تشجيع دعم عمليات العودة واتفاق السلام، مع إشارة الوفد الصيني إلى أنَّ الاستقرار من شأنه أن يجلب الاستثمار والتنمية.
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول، عرض جيش ميانمار (تاتماداو) وقفاً قصيراً من جانب واحد لإطلاق النار، امتد هذا الوقف وصولاً إلى الـ31 من شهر أغسطس/آب، ليشمل ثلاثة جيوش عرقية شمالي ميانمار بما في ذلك جيش استقلال كاشين.
وبعد فترة وجيزة من هذا الإعلان، وقعت أول عملية إعادة منظمة، إذ رافق الجيش مجموعة من النازحين العائدين إلى قرية نام سان يانغ، على الرغم من تعطيل الألغام الأرضية قبل أسابيع فحسب. ومنذ ذلك الحين جرت محادثات بين الحكومة ولجنة كاشين للمخاوف الإنسانية (Kachin Humanitarian Concern Committee)، وهي مجموعة يرأسها زعماء الكنيسة وتتوسط في عمليات العودة. ولم يشترك أي شخص من النازحين في هذه الاجتماعات.
وقد وجدت دراسة استقصائية أجرتها الأمم المتحدة على 1123 من النازحين داخلياً في كاشين أنه بينما كانت لدى 65٪ منهم نية طويلة المدى للرجوع إلى ديارهم، فإنَّ 5٪ منهم فقط كانوا يشعرون أنَّ بإمكانهم فعل ذلك، وقد ذكرت المخاوف الأمنية بوصفها السبب الرئيسي لذلك.
النازحون يرفعون صوتهم
وفي أوائل شهر يونيو/حزيران جمع الناشط المخضرم لوم زوانغ (30 عاماً) 43 شاباً من النازحين في عاصمة الولاية، ميتكينا، لمناقشة آرائهم بخصوص العودة. وقال نوانغ لات (31 عاماً)، الذي حضر ذلك الاجتماع إلى جانب بوك نو أونغ: "اضطررنا بشكل عاجل إلى تشكيل مجموعة للتفكير بعمق في عودتنا ورفع صوتنا".
كتبت المجموعة بياناً، نُشر على موقع فيسبوك، نص على أنَّ العودة لا يمكن لها أن تحدث إلا عند ضمان الأمن والكرامة، وعند استشارة الأشخاص [المعنيين] وعندما تكون لهم حرية تحديد موعد العودة دون استخدام الضغط أو القوة. ونصّ البيان أيضاً على أنه يجب عدم استخدام النازحين لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
ولم يكن ناونغ لات، وهو من قرية نام سان يانغ، جزءاً من هذه المجموعة التي عادت، وهو حريص على العودة إلى منزله، لكن فقط عندما تكون الظروف مناسبة. وعندما استؤنف القتال منذ 8 سنوات، لم يتخيل قط أن يعيش في مخيم لمثل هذا الوقت الطويل. إذ قال لات: "كنت أظن في البداية أنَّ الحرب ستستمر بضعة أشهر. وبعد حوالي 3 سنوات، أصبح كل شيء غير يقيني. تساءلت عن سبب حدوث ذلك، ولماذا لم نتمكن من العودة".
والآن، فإنَّ ناونغ لات من بين أكثر من 38 ألفاً من النازحين الذين يعيشون في مناطق خارج نطاق الحكومة. ومع محدودية فرص الحصول على التعليم العالي والوظائف، فإنَّ كثيراً من الشباب يغادرون إلى الصين بحثاً عن الرزق، حيث يكونون عرضة للاتجار والإيذاء.
لا عودة تحت الضغط
وقال لات: "كلما زادت مدة بقائنا في مخيمات النازحين داخلياً، زادت المشكلات التي نواجهها. لا أريد للعودة أن تحدث تحت الضغط. لا أقول إننا لا نريد العودة، في الحقيقة، نحن حريصون على العودة في أقرب وقت ممكن. لقد مرّت 8 سنوات على نزوحنا وقد فقدنا الكثير من الأشياء المتعلقة بتعليمنا وتطويرنا، لكن لن نعود إلا بعد حصولنا على ضمان أمني".
تريد بوك نو أونغ ضماناً بإزالة الألغام الأرضية. وقالت: "حالياً، يبدو الأمر كما لو كانوا يريدون لنا البقاء في منزل لم يكتمل بناؤه. عندما تمطر، فسوف تتسرب المياه. لن نقيم في هذا البيت قبل اكتمال بنائه. ينبغي أن تكون هناك ثقة".
وأضافت بوك نو أونغ: "أود لو أزال كلا الجيشين (تاتماداو وجيش استقلال كاشين) الألغام الأرضية من أرضنا، ولا أريد العودة إلا بعد أن يكون لدينا سلام رسمي".
وفي شهر يونيو/حزيران، نظم النشطاء عرضاً درامياً عاماً لإحياء الذكرى الثامنة للحرب. وأبلغ باو لو، وزميلته في التنظيم، سينغ نو بان، السلطات، ومع ذلك ظهرت الشرطة قبل لحظات من العرض مدعية أنَّ ثمة حاجة إلى تصاريح إضافية. نُقل الحدث وعُرض، لكنَّ باو لو وسينغ نو بان وجهت إليهما تهمة تنظيم مظاهرة من دون تصريح. ويواجهان الآن عقوبة السجن لمدة 3 أشهر كحد أقصى في هذه القضية المستمرة.
استهداف الناشطين
هذه الحادثة واحدة من حوادث كثيرة واجه فيها النشطاء تهماً جنائية. ففي شهر أبريل/نيسان من العام الماضي، حُكم على لوم زوانغ وزميليه الناشطين زاو جات ونانغ بو، بالسجن 6 أشهر بتهمة التشهير بالجيش من خلال قيادة مظاهرة تطالب بممر آمن ووصول المساعدات الإنسانية لألفي قروي محاصرين أثناء فترة من تصاعد القتال.
وقالت بوك نو أونغ لصحيفة The Guardian البريطانية، إنَّ الخوف يجعل الناس مترددين في التصرف: "بعض الناس يخافون من الانخراط في السياسة.. لا يريد والديّ أن أشارك لأنهم يخشون من تعرضي للقتل أو الاعتقال".
وقال لوم زوانغ، الذي أطلق سراحه أثناء عفو رئاسي سنوي، إنَّ إلقاء القبض على النشطاء يمثل "تهديداً نفسياً". وقال باو لو إنهم لن يتراجعوا. وقال لو: "حتى لو ألقي القبض علينا [أنا وسينغ نو بان] فلن يتوقف الشباب. لدينا الكثير من الناس الذين يستطيعون أخذ مكاننا".
وقالت سينغ نو بان إنَّ هذه الاعتقالات "تدفعنا لدفع المزيد". وقال لوم زوانغ: "ينبغي أن نمارس حريتنا في التعبير. إذا لم نعبر عما يحدث، فلن يعرف أحد. يستطيع جيل الشباب أن يتغير.. لسنا خائفين من أن نقود حركة".