كان عبد العزيز يصلي مع أبنائه الأربعة في مسجد لينوود الذي شهد فصلا من فصول مجزرة نيوزيلندا عندما سمع صوت طلقات البنادق. وبدلاً من الجري بعيداً عن الصوت الصاخب، ركض تجاه سفاح نيوزيلندا ، وأمسك بأول ما وصلت إليه يده، وكانت ماكينة بطاقات ائتمانية، وألقاها على سفاح نيوزيلندا .
فأسقط الرجل البندقية، والتقطها عبد العزيز. ويستدعي عبد العزيز الموقف ويقول لصحيفة The New York Times الأمريكية: "ضغطت الزناد، ولم يكن هناك شيء (لا رصاص)". وفرَّ القاتل إلى سيارته، حيث كان بحوزته أسلحة أخرى، فتبعه عبد العزيز وألقى بالبندقية على السيارة، محطِّماً الزجاج.
وتضيف الصحيفة الأمريكية: "ربما تكون أفعال عبد العزيز، التي روى تفاصيلها هو وآخرون في اللقاءات الصحفية، هي ما دفعت القاتل إلى أن يتعجل ويفر بدلاً من أن يعود لقتل مزيد من الناس. بعد دقائق، تمكن شرطيان من مدينة أخرى، تصادف وجودهما في المنطقة، من جعل سيارة المشتبه فيه تصطدم بالرصيف واحتجازه، وانتهت أبشع مجزرة جماعية في التاريخ الحديث لنيوزيلندا".
شجاعة المصلين والشرطة تمنع وقوع مزيد من الضحايا
لم تصدر السلطات أي رواية مفصلة عن استجابة الشرطة لمجزرة يوم الجمعة 15 مارس/آذار 2019 التي حدثت في مسجدين بمدينة كرايست تشيرش، وأكدت أن الشرطة تمكنت من القبض على المشتبه فيه بعد 36 دقيقة فقط من تلقي أول مكالمة استغاثة.
لكن اللقاءات مع عشرات الناجين، وتحليل مقطع الفيديو الذي سجله القاتل والمقطع المصور لاعتقاله الذي سجله أحد المارة، كل هذا يشير إلى أن العنف انتهى بعد أن أفلت القاتل قبل أن تصل الشرطة إلى المسجد الأول بوقت قليل، وبعد التصرفات الشجاعة التي حدثت في المسجد الثاني.
لولا الشرطيان، اللذان لم يُكشف عن هويتهما، وعبد العزيز، الذي يملك متجر أثاث في نيوزيلندا بعد أن فر منذ ربع قرن من أفغانستان، كان من الممكن أن يكمل إرهابي مجزرة نيوزيلندا القتل. كان لدى المشتبه فيه بندقيتان أخريان في سيارته حسبما قالت الشرطة، بالإضافة إلى قنبلتين منزليتي الصنع.
قالت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن: "من المؤكد أنه كان ينوي استكمال هجماته". كان هذا بعد اعتقال برينتون تارانت (28 عاماً)، الذي كان يعمل مدرباً شخصياً سابقاً في أستراليا، ويُزعم أنه وزع بياناً رسمياً للكراهية المتطرفة البيضاء قبل أعمال العنف.
قالت الشرطة إن عدد القتلى بمسجد النور في وسط مدينة كرايست تشيرش وصل إلى 42 قتيلاً، و7 آخرين بمسجد لينوود، ويُرجع البعض قلة عدد القتلى في مسجد لينوود إلى قرار عبد العزيز مواجهة القاتل. (ماتت ضحية أخرى في المستشفى).
الشرطة "لم تتأخر" عن الاستجابة لنداء الإغاثة
لم يُحدَّد الموعد الدقيق الذي دخل فيه القاتل إلى مسجد النور الذي كان مليئاً بالمصلين من أجل أداء صلاة الجمعة. لكن الشرطة تقول إنهم تلقوا أول اتصال لطلب النجدة الساعة 1:41 بعد الظهر، وأن أول رجال شرطة وصلوا إلى مكان الحادث بعد 6 دقائق فقط.
يوضح المقطع الذي صوره القاتل والذي كان يذاع مباشرة على موقع فيسبوك، رجلاً يحاول إيقاف القاتل داخل المسجد، لكنه أطلق عليه النار وأرداه قتيلاً.
بعد 6 دقائق من إطلاق أول رصاصة، انطلق بعيداً بسيارته. وبعد 3 دقائق، يمكنك أن تسمع صوت صافرة الإنذار في الفيديو وهو يقود متجهاً إلى المسجد الثاني.
ثم يعلو صوت صافرات الإنذار، ثم يبتعد مرة أخرى، وهو ما يشير إلى أن إرهابي مجزرة نيوزيلندا ربما أفلت من الشرطة، وفي حين كانت الشرطة والخدمات الطبية تتسابق لتصل إلى مسجد النور، كان هو يبتعد.
كان أقرب قسم شرطة على بُعد أقل من كيلومترين من المسجد، أو ما يزيد قليلاً على ميل، لكن ربما كان الضباط الذين استجابوا أبعد من ذلك.
هناك 827 مجنداً بدوام كامل في مقاطعة كانتربري، وهي منطقة ريفية على الساحل الشرقي للجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا، والتي تضم كرايست تشيرش، وتضم 612 ألف مواطن، مقارنةً ببوسطن التي تضم 617 ألف مواطن، وتوظف أكثر من 2100 شرطي بدوام كامل.
قال كريس كاهيل مفتش المباحث الذي يرأس اتحاداً عمالياً محلياً، لضباط الشرطة، إن نحو 30 ضابطاً من ضباط خط المواجهة في المتوسط يوجدون بشوارع كرايست تشيرش في وقت الغداء بأي يوم جمعة.
وأضاف أنه عندما وردت أول مكالمة من متصل مذعور، أرسل مسؤول الاتصالات جميع الضباط الموجودين إلى مسجد النور.
ووصلوا إلى مكان مجزرة نيوزيلندا في 6 دقائق
وقال إن ضباط خط المواجهة في نيوزيلندا ليسوا مسلحين، ولا يرتدون للحماية سوى سترات مقاومة للطعن، لذا فمن الممكن أن من استجابوا لضرب النار عادوا إلى مركز الشرطة، لجلب أسلحة مثل مسدس غلوك أو بندقية M4 نصف آلية، ودروع من صناديق سياراتهم.
قالت الشرطة إن هناك وحدة تكتيكية خاصة وصلت إلى المسجد بعد 4 دقائق من وصول أول ضباط، أو بعد 10 دقائق من مكالمة الاستغاثة الأولى.
وقال كاهيل: "في الظروف العادية يستغرق الأمر وقتاً أطول، إذ يتجه أعضاء الفريق إلى قسم الشرطة من أجل التجهيز"، مضيفاً أنه في يوم الجمعة، تصادف أن دورة تدريبية كانت تُجرى في وسط المدينة، وكانوا يرتدون عدتهم بالفعل.
وذكر أنه "بالنسبة لأي شرطة في العالم، الوصول إلى مكان حادث مجزرة نيوزيلندا في 6 دقائق ووصول الفريق المتخصص في 10 دقائق، يعد نجاحاً".
ووافقه فيما قاله باتريك سكينر، ضابط سابق في مكافحة الإرهاب بالمخابرات الأمريكية، والذي يعمل الآن في قسم شرطة أمريكي.
وقال: "رأيي أن استجابة الشرطة كانت سريعة على المستوى التكتيكي"، مشيراً إلى أن الضباط كانوا يسرعون إلى موقف عنيف كان لا يزال يتكشف، ويشجعه أفراد يتبنون التعصب والكراهية.
لكنه ما زال ليس سريعاً بما يكفي. وصل الضباط إلى المكان على مشهد مرعب، والموتى والجرحى بأعداد تفوق قدرة الشرطيين العاملين عادة.
نهر من الدماء خارج المسجد
قال بول بينيت المسعف الذي دخل المسجد بصحبة الشرطة: "كان هناك نهر من الدماء يسيل خارج المسجد"، مضيفاً: "لقد كان يتدفق حرفياً من بين ألواح الطين الناضج".
لم تصرح السلطات إلا بالقليل عما حدث بعد ذلك. ولم يتضح متى وصلت سيارات الإسعاف، وأفادت تقارير مستشفى كرايست تشيرش بأنها تلقت بعض الضحايا المصابين في سيارات أقاربهم. لكن بينيت ومسعفين آخرين قالوا إن سرعة الاستجابة أنقذت أرواحاً.
ثم هاجم إرهابي مجزرة نيوزيلندا مسجد لينوود، الذي يبعد نحو 4 أميال (6.4 كيلومتر) شرق مسجد النور.
قال كاهيل: "كان المسجد الثاني هو مصدر الحيرة الحقيقية"، مضيفاً: "كانت المكالمات تأتي من أحد المساجد، ثم مكالمات أخرى تقول مسجداً آخر، فيقول الناس: ماذا؟ هل تقصدون هذا المسجد أم ذاك؟".
قال لطيف علبي، الإمام الذي يصلي بالناس في مسجد لينوود، إنه سمع صوتاً خارج المسجد في نحو الساعة 1:55 ظهراً، لذا توقف ونظر من النافذة. فرأى رجلاً بعدة عسكرية، ويرتدي خوذة، ويحمل بندقية. ثم رأى جثتين على الأرض.
فصاح في الجمع الذي كان يقدَّر بنحو 80 شخصاً بأن ينبطحوا. وفتح القاتل النار من النافذة، واستمر في إطلاق النار.
مطاردة الإرهابي بماكينة صرافة صغيرة
ركض عبد العزيز تجاهه وألقى ماكينة الصراف الآلي، التي كانت بحجم صخرة كبيرة صوبه. كلا الرجلين كان قصير القامة وقوي البنية. قال عبد العزيز متذكراً: "أطلق عليَّ 5 أو 6 طلقات، كنت أحمي رأسي بين السيارات".
وهو يتتبع القاتل، وجد البندقية، فالتقطها وحاول إطلاق النار عليه، لكنها كانت فارغة.
قال عبد العزيز إن أطفاله كانوا يصيحون باسمه لكي يعود، وبدا القاتل متهيجاً، متوعداً ويقول: "سأقتلكم جميعاً".
في مسجد النور، عاد القاتل إلى سيارته وأحضر سلاحاً آخر وعاد إلى الداخل ليقتل المزيد. لكن في لينوود، بعد أن ألقى عبد العزيز البندقية على سيارته "كالسهم" كما قال، ابتعد سفاح مجزرة نيوزيلندا بسيارته.
قال عبد العزيز: "كان الأمر كما لو أن عقلي لا يعمل، لقد كان رد فعل تلقائياً، مثل أي شخص. كنت مستعداً للتضحية بحياتي لإنقاذ حياة أخرى".
وصلت الشرطة إلى المسجد بعدها بوقت قصير، حسب ما قاله عبد العزيز والناجون الآخرون.
وفي هذه الأثناء، كانت السلطات بدأت إغلاق مداخل المنطقة ومخارجها، والبحث عن القاتل.
قالت الشرطة إنها ألقت القبض على المشتبه فيه بالساعة 2:17 بعد الظهر، لكنها لم توضح كيف عثرت عليه، ونجحت في إلقاء القبض عليه دون تبادل لإطلاق النار.
ضباط من خارج المدينة اعتقلوا السفاح
أكد المسؤولون أن الضباط الذين نفذوا الاعتقال كانوا من مدينة لينكولن، وهي مدينة تبعد 20 كيلومتراً عن وسط كرايست تشيرش. أفادت تقارير صحف محلية بأن الضباط تصادف وجودهم في كرايست تشيرش يوم الهجوم.
يوضح مقطع فيديو سجَّله أحد المارة على بُعد 4 كيلومترات من مسجد لينوود، مقدمة سيارة الشرطة مثبَّتة في الجزء الأيمن من سيارة رياضية، وترفعها إلى أعلى بعد أن علقت السيارة بالرصيف في أحد الشوارع المحاطة بالأشجار. وما زالت العجلة الأمامية لسيارة المشتبه فيه تدور.
كان صندوق السيارة مفتوحاً، ويوجد شرطي ممسكاً بمسدس في يده ويقترب من باب السائق الجانبي الذي كان مفتوحاً هو الآخر. والضابط الآخر الذي كان مسلحاً ببندقية، يدور حول مقدمة السيارة ليؤمّن عمل زميله.
ثم أخرج الضابط الأول الذي ما زال يمسك بمسدسه، بندقية من السيارة بيده الأخرى، ثم ألقى بها على جانب الطريق. ثم جذب المشتبه فيه في مجزرة نيوزيلندا إلى خارج السيارة، وألقى الضابطان القبض عليه.
ليس من الواضح ما إذا كان الضباط أو القاتل يقولون أي شيء بعضهم لبعض أو لا، أو إذا كان المشتبه فيه يحاول القتال.
وُجِّهت إلى تارانت تهمة القتل يوم السبت 16 مارس/آذار 2019. ومن المتوقع توجيه مزيد من التهم إليه.