حقق كارلوس غصن نجاحاً ساحقاً في اليابان نظراً لأنه كان أجنبياً عصف أسلوبه المختلف بعالم الشركات اليابانية الذي كان يعتريه العفن، ولكن تجاهله لأعراف عالم الأعمال ربما كان السبب في سقوطه.
هذا الرجل الذي اعتبر منقذاً لشركات متعثرة لدرجة أن حياته تحولت إلى قصة خلدتها كتب الرسوم، موقوف منذ الإثنين 19نوفمبر/تشرين الثاني 2018، ويواجه تهماً بارتكاب مخالفات مالية، بما فيها إخفاء دخله الهائل.
ويبدو من المرجح أن الشركات التي أنقذها — نيسان وميتسوبيشي –ستستغني عنه كرئيس لمجلس إدارتها، وأصبح إرثه كمنقذ للشركات في مهب الريح.
كارلوس غصن أنجح رئيس مجلس إدارة أجنبي في اليابان
ولغاية أحداث هذا الأسبوع الدراماتيكية، كانت كل الروايات المتعلقة به تتحدث عن تفاؤل غير محدود.
قال كوسوكي ساتو الخبير الاقتصادي البارز في معهد أبحاث اليابان إن "غصن هو على الأرجح أنجح رئيس مجلس إدارة أجنبي في اليابان". وأضاف "ما فعله لم يكن له مثيل في تاريخ الشركات اليابانية".
ولكن كل هذه الروايات تبخرت مساء الإثنين.
في مؤتمر صحافي بعد ساعات من توقيف كارلوس غصن ، عرض الرئيس التنفيذي لشركة نيسان هيروتو سايكاوا الذي اختاره غصن بنفسه، رواية معدلة عن تاريخ غصن المولود في البرازيل، قللت من دوره في تغيير مصير الشركة اليابانية.
وأشار سايكاوا إلى "الجانب المظلم" من عهد غصن، وقال أنه جمع قدراً مفرطاً من السلطة في يده وأصبح بعيداً عن العمليات اليومية للشركة. ورفض سايكاوا الانحناء اعتذاراً كما هي الحال في أي مؤتمر صحافي تقر فيه أية شركة يابانية بارتكاب موظفيها مخالفات.
لكن نجاحاته وراتبه "الخيالي" أثارا الغيرة والأحقاد داخل عالم الشركات اليابانية
سارع الإعلام الياباني، الذي دأب على مدح غصن لدوره في إنقاذ شركة نيسان وإنعاش قطاع صناعة السيارات في البلاد، إلى انتقاده.
وأشارت صحيفة "نيكاي" المالية اليومية إلى أنه لم يقطع إجازته عند اندلاع فضيحة تفتيش في نيسان في 2017، بينما وصفت صحيفة يوميوري شيمبون المدراء التنفيذيين في نيسان بأنهم "طماعون".
ونقلت الصحيفة اليومية عن موظفين قولهم إن " كارلوس غصن يقول الصواب، ولكن في النهاية كل شيء يتعلق بالمال".
فضائح الشركات ليست جديدة على اليابان، غير أن هذه القضية التي تركزت على الإثراء الشخصي تركت مرارة.
قال جيف كينغستون مدير الدراسات الأسيوية في جامعة تيمبل اليابانية "غصن ضحية عجرفته ونجاحه". وأضاف "لقد تم تحويله إلى بطل بسبب ثقافة الشركات المتعفنة في اليابان، حيث أنه لم يكن يرحم، وهو الآن يدفع الثمن".
وصرح لوكالة الأنباء الفرنسية أن غصن "داس على الأعراف الثقافية اليابانية بأساليبه بادعاء المجد، كما أن راتبه الهائل أثار الغيرة والأحقاد عليه".
وكان راتبه هائلاً بالمعايير اليابانية وأدى إلى انتقادات له حتى على مستوى الحكومة في فرنسا.
وقال روبرت دوجيريك مدير معهد الدراسات الآسيوية المعاصرة في جامعة تمبل اليابانية إن كارلوس غصن "صنع أعداء وتسبب في غيرة المؤسسة اليابانية لأنه بطريقة ما انتهك أعراف المدراء التنفيذيين".
وأضاف أن "غصن كان يعيش حياة رئيس تنفيذي في حين كان معظم المدراء اليابانيين أكثر تواضعاً".
وهناك من يعتبر اعتقال غصن "خسارة" للشركات اليابانية
ربما كان أسلوب كارلوس غصن المتكبر وليس كونه أجنبياً هو ما جعله مختلفاً عن باقي المدراء اليابانيين.
وسواء من خلال تنفيذه إعادة هيكلة شاملة للشركات، الذي أكسبه لقب "خافض التكاليف" أو قراره الاحتفال بزواجه الثاني في قصر فرساي على أسلوب حفلات ماري أنطوانيت، فقد كانت شخصية غصن مناقضة لشخصية مدراء الشركات اليابانية.
ويأتي سقوط هذا الأجنبي البارز في الوقت الذي تعاني منه اليابان من نقص الأيدي العاملة وتسعى إلى جلب العمال المهاجرين الأجانب.
وتسبب ذلك في استياء في بعض الأوساط بوصفه خروجاً على سياسة الهجرة اليابانية المتشددة التي ضمنت تجانس المجتمع الياباني نسبياً.
وقال ساتو إن قضية غصن توضح الصدام الحضاري الأساسي في قطاع الشركات اليابانية. وصرح أن "من أسباب حدوث ذلك أن الشركات اليابانية ليست لديها ثقافة منح المدراء التنفيذيين رواتب هائلة".
وأضاف "بعد هذه القضية قد تتردد الشركات اليابانية في قبول قادة أجانب في المستقبل".
ولكن جيني كوربيت من مؤسسة الدراسات الاسترالية اليابانية، قالت إن ذلك سيكون خسارة لعالم الشركات اليابانية.
وقالت "بالنسبة للشركات التي تحتاج إلى التغيير، فيبدو أن الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي وجود أجنبي". وأضافت "بعد كارلوس غصن ربما تصبح الشركات التي تحتاج إلى هذا النوع من التغيير أكثر تردداً بتعيين أجانب للقيام بذلك".
ثلاث جنسيات و"نجاح" باهر في إنقاذ الشركات المتعثرة
يحمل كارلوس غصن ثلاث جنسيات هي البرازيلية والفرنسية واللبنانية، وهو ينحدر من أصول لبنانية لكنه وُلد في البرازيل عام 1954.
وعندما كان في السادسة من عمره عاد رفقة والدته إلى لبنان حيث عاش هناك ودرس المرحلتين الابتدائية والثانوية في مدرسة كاثوليكية، ثم انتقل إلى باريس ليدرس الهندسة في مدرسة "البوليتكنيك" المرموقة وتخرج منها 1974 كما تخرج من كلية التعدين عام 1978.
بدأ كارلوس غصن مسيرته المهنية فور إنهاء دراسته الجامعية في فرنسا في مصنع الإطارات لشركة ميشلان الفرنسية المرموقة.
وخلال فترة قصيرة تولى كارلوس غصن إدارة أحد مصانع الشركة وفي أواسط ثمانينيات القرن الماضي تولى إدارة مركز أبحاث تطوير الإطارات الصناعية في الشركة.
وفي عام 1996 اتصل به رئيس شركة رينو التي كانت تعاني من خسائر مستمرة، فكان أول قرار اتخذه غصن عند انتقاله إليها إغلاق مصنع الشركة في بلجيكا وتسريح 3300 عامل لذلك انتعشت الشركة وزادت مبيعاتها خلال فترة قصيرة.
وكانت الحكومة الفرنسية تملك 80 بالمئة من أسهم الشركة عام 1992 وبعد أقل من عقد من الزمن تراجعت هذه الحصة إلى أقل 16 في المئة وأصبحت سيارات الشركة هي الأكثر مبيعاً في أوروبا الغربية.
ومع النجاح الكبير الذي حققته رينو في ظل إدارة غصن اتخذت الشركة خطوة جريئة للغاية واشترت حوالي 45 في المئة من أسهم شركة نيسان اليابانية مقابل 7 مليارات دولار وأوفدت غصن إلى اليابان لتولي مجلس إدارتها هناك.