آخر ما يمكن توقُّعه أن يحتاج "كوكب" اليابان، كما يقوله الكثير من العرب، إلى عمالة من الخارج؛ نظراً إلى شغف اليابانيين بالعمل، لكن تقريراً لصحيفة The Guardian البريطانية رصد الحاجة إلى عاملِين من خارج اليابان، بسبب تقلص عدد السكان وشيخوختهم، ما يفتح الأبواب أمام العمال المهاجرين من الدول الآسيوية القريبة من طوكيو.
وبحسب الصحيفة البريطانية، يرُصّ محمد ومُنادي، أصداف الأسقلوب (نوع من المحار) واحدةً تلو الأخرى على قضبان معدنية رفيعة. ولا يسعهما سوى الثرثرة بلغتهما الأم "الجاوية" (نسبة إلى جزيرة جاوة في إندونيسيا) لكسر رتابة العمل. وقريباً ستُستخدم تلك الصدفات في عملية زراعة المحار، وهو تخصص تتميز به هذه المنطقة الواقعة غرب اليابان.
كان الرجلان يجلسان على أرض سقيفة تطل على البحر الداخلي لليابان، ولم يسبق لأيِّهما أن رأى محاراً قبل قدومهما، في أبريل/نيسان هذا العام (2018)، إلى أكيتسو، وهي بلدة ساحلية صغيرة شرق محافظة هيروشيما.
ينتمي الرجلان إلى القوة العاملة الأجنبية المتنامية، التي يرى صانعو السياسة في اليابان أنَّها تمثل حلاً لمواجهة مشكلة تقلُّص أعداد سكان البلاد وشيخوختهم، والانخفاض المستعصي في معدل المواليد.
وتحت ضغط الشركات التي تصارع أسوأ معدل لنقص العمالة منذ عقود، اضطرت الحكومة اليابانية أخيراً إلى تخفيف سياستها الصارمة تجاه الهجرة.
تشريع ياباني يفتح الباب أمام الهجرة
وفي الأسبوع الماضي، وافقت إدارة رئيس الوزراء شينزو آبي على تشريع من شأنه فتح الأبواب أمام ما يصل إلى نصف مليون عامل أجنبي بحلول عام 2025، فيما يصفه البعض بأنَّه نهاية المعارضة اليابانية التقليدية واسعة النطاق للهجرة. ومن المتوقع تمرير مشروع القانون هذا بنهاية العام (2018)، وأن يدخل حيز التنفيذ في أبريل/نيسان 2019.
وقاومت اليابان، التي تمثل واحداً من أكثر المجتمعات تجانساً في العالم، العمالة الأجنبية طويلاً، مع منح استثناءات لأولئك العاملين في مجالات التدريس والطب والهندسة والقانون. ويُشكِّل محمد ومنادي جزءاً من برنامج فني للمتدربين الأجانب تديره الحكومة، من المفترض أن يُزوِّد العمال من البلاد النامية بمهارات يمكنهم اصطحابها معهم إلى بلدانهم بعد 5 سنوات.
يقول المنتقدون إنَّ أصحاب العمل يسيئون استغلال البرنامج من أجل الحصول على العمالة الرخيصة، إذ لا يدفع الكثير منهم أجوراً مناسبة ويجبرون المتدربين على العمل ساعات طويلة. وبالإضافة إلى ذلك، لا يضم البرنامج، الذي وظّف أكثر من 260 ألف عامل أجنبي العام الماضي (2017)، عدداً كافياً من ذوي المهارات المحددة المطلوبة في قطاعات الاقتصاد التي تعاني نقص العمالة.
وبلغ عدد العمال الأجانب 1.28 مليون عامل ضمن إجمالي 66 مليون شخص شكَّلوا القوى العاملة في اليابان لعام 2017، وهو ضعف ما كان عليه الرقم في عام 2012. لكنَّ الكثيرين منهم من طلاب الجامعات أو المتدربين الفنيين مثل محمد ومنادي، الذين لا يُسمَح لهم بالبقاء في البلاد إلى أجلٍ غير مسمى. انخفضت البطالة بنسبة 2.3% في سبتمبر/أيلول 2018، وكان هناك 163 وظيفة شاغرة لكل 100 من الباحثين عن فرصة عمل، وهي أعلى نسبة لتوفر فرص عمل في البلاد منذ أكثر من 40 عاماً.
"ليست سياسة هجرة تقليدية"
وبموجب التشريع الجديد، سينقسم العمال الأجانب إلى فئتين: أولئك الذين يتمتعون بمهاراتٍ في القطاعات التي تعاني نقص العمالة سيُسمَح لهم بالعمل مدة تصل إلى 5 سنوات دون إمكانية إحضار عائلاتهم. أما الفئة الأخرى، فتضم الذين يتمتعون بمهارات أكثر تقدماً، وسيُسمَح لهؤلاء بجلب عائلاتهم وتجديد تأشيراتهم إلى أجل غير مسمى، وربما يتقدَّمون في النهاية بطلب الحصول على إقامة دائمة. لكن يجب على أفراد المجموعتين اجتياز اختبارٍ للغة اليابانية، بحسب الصحيفة البريطانية.
ونفى شينزو آبي أنَّه بصدد التخلي عن سياسة اليابان الصارمة المتعلقة بالهجرة. وقال: "من فضلكم، لا تسيئوا الفهم"، مُحذِّراً من أنَّ نقص العمالة يُهدِّد بعرقلة عودة الاقتصاد الياباني للنمو البسيط من جديد.
وأخبر آبي نواب البرلمان، قائلاً: "لا ننتهج سياسة هجرة تقليدية"، مُضيفاً أنَّ معظم العمال الأجانب سيبقون في اليابان فتراتٍ محدودة، وأنَّ السياسة ستخضع للمراجعة في حال حدث كساد اقتصادي أو خفَّ نقص العمالة في قطاعات معينة. وأردف: "من الخطأ فرض قيمنا على الأجانب. وعوضاً من ذلك، من المهم إنشاء بيئة بإمكان الناس التعايش فيها بسعادة".
لكنَّ بعض الخبراء لا يوافقونه الرأي. فقال هيدينوري ساكاناكا، الرئيس السابق لمكتب طوكيو للهجرة: "أعتقد أنَّ هذا تغييرٌ فعلي في سياسة الهجرة".
معارضة لقرار رئيس الوزراء
وأثارت احتمالية حدوث ارتفاع كبير في عدد العمال المهاجرين رد فعل عنيفاً من الأحزاب المعارضة.
إذ اشتكى حزب "اليابان أولاً" اليميني من أنَّ تدفُّق العمال الأجانب سيفرض ضغوطاً لا تُحتَمَل على خدمات الرعاية الاجتماعيةن وسيؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة.
وأعرب يويشيرو تاماكي، زعيم حزب الشعب الديمقراطي المنتمي إلى تيار الوسط، عن قلقه إزاء الضغوط التي ستشهدها الرواتب والخدمات العامة. لكنَّه أصبح أول زعيم حزب يؤيد انتهاج سياسة للهجرة على النمط الأوروبي يجب، في رأيه، أن تضمن مبدأ الأجور المتساوية نظير الأعمال المتساوية، والسماح للعمال الأجانب بإحضار عائلاتهم إلى اليابان.
يضم الإصدار الحالي من صحيفة Sapio اليمينية سلسلة من المقالات التي تحذر من تصاعد العنف والجرائم الجنسية والصدامات الثقافية، في حين انتُقِدت محطة Fuji TV التلفزيونية الخاصة، بسبب عرضها برنامجاً حديثاً يتناول مشكلة المهاجرين الذين يتجاوزون فترة الإقامة المقررة بالتأشيرة بعد أن شيطن المهاجرين.
لكن، يبدو أنَّ الجمهور الياباني أكثر تسامحاً تجاه المهاجرين. فقد أجرت قناة TV Tokyo وصحيفة Nikkei التجارية استطلاعاً بيَّن أنَّ 54% من الناخبين اليابانيين يؤيدون السماح بقدوم المزيد من العمال الأجانب غير المَهَرَة، مقابل اعتراض 36% فقط. ولاقت تلك الخطوة دعماً كبيراً بشكلٍ خاص لدى الشباب.
وذكرت صحيفة Asahi الليبرالية أنَّ آبي فشل في معالجة "كثير من المخاوف إزاء مبادرته المُتسرِّعة الرامية إلى زيادة عدد العمال الأجانب بصورة كبيرة".
وقالت الصحيفة: "سواء كانوا يُوصفون بالمهاجرين أم لا، فإنَّ الحكومة مسؤولة عن وضع رؤية مقنعة قابلة للتطبيق بخصوص مستقبل المجتمع الياباني، حيث يتسنى للعمال الأجانب والمواطنين اليابانيين العيش معاً في وئامٍ وأمان"، وأضافت أنَّ التغيير "على الأرجح، سيكون له أثر بعيد المدى على المجتمع الياباني".
وظهرت بالفعل آثار تلك التغييرات في مصايد محافظة هيروشيما، حيث ضمَّت عاملاً أجنبياً واحداً من بين كل 6 عمال، وهو المعدل الأعلى في أي من الصناعات باليابان. وفي صفوف الصيادين الشباب في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم، يصل المعدل إلى عامل أجنبي واحد من بين كل عاملين اثنين.
"أماكن كهذه لن تستمر دون عمال أجانب"
في أكيتسو، يفوق عدد عمال المصايد الشباب من الأجانب عدد نظرائهم اليابانيين الأكبر سناً بنسبة 33 إلى 30.
ويمزح تاكاتوشي شيبا، رئيس الجمعية التعاونية للصيادين في أكيتسو، قائلاً إنَّه في سن الـ67 يبدو شاباً نسبياً مقارنةً بزملائه اليابانيين. وقال: "يبدو الأمر كأنَّه فرصة مهدرة، لأنَّ المتدربين يقضون وقتهم في تعلم الوظيفة واعتياد على الحياة هنا، ومن ثَمَّ يضطرون إلى العودة لديارهم بعد سنوات قليلة. لا أظن أنَّ الحكومة أمامها خيارات باستثناء اتخاذ إجراء على وجه السرعة. فأماكن كهذه (المصايد) لن تستمر دون عمال أجانب"، بحسب الصحيفة البريطانية.
يقول محمد ومنادي إنَّهما تأقلما جيداً مع الحياة في الريف الياباني، مع أنَّ كليهما لا يُخطِّط للبقاء أكثر من 3 سنوات، إذ يقضيان أيامهما في التسوق بمدينة هيروشيما المجاورة، ويلعبان كرة الريشة، وبإمكانهما الآن شراء اللحوم الحلال من السوق المحلي. وفي غضون بضعة أشهر فقط، تعلَّما ما يكفي من الكلمات والجمل اليابانية التي تمكنهم من التواصل مع جيرانهما أو المتدربين الآخرين من الصين والفلبين وماليزيا وفيتنام.
قال محمد (27 عاماً)، الذي غادر جزيرة جاوة في أبريل/نيسان 2018، بعدما أنجبت زوجته طفلهما الأول: "أمورنا تسير على نحوٍ جيدٍ مع زملائنا ورؤسائنا اليابانيين، فضلاً عن أنَّنا نتقاضى أجوراً أكثر بكثير مما كنا سنتقاضاه في إندونيسيا".
يتفق محمد مع منادي، وقال في حين يلتقط صدفة أسقلوب أخرى من الكومة الموجودة أمامه: "المشكلة لا تكمن بالعمل، وإنما في عائلاتنا التي نفتقدها. لكنَّنا سعداء هنا".