كان هدف هذا المراسل الكتابة عن مطاعم الصين، ولكن بعد 18 عشراً قضاها في الصين اكتشف كيف يعيش مسلمو الإيغور في رعب وخوف من الاضطهاد والاعتقال و"إعادة التعليم" الإجبارية. والتعليم هنا لا يعني الرياضيات والأدب بل الهوية والتاريخ الصيني. بختبرونهم لاحقاً ومن يفشل فإلى السجن وبئس المصير.
يروي جين بونين لصحيفة The Guardian كيف دخل مطعم كريم لأولّ مرةٍ قبل حوالي عامٍ، بهدف الكتابة عنه ضمن دليل الطعام الذي كان يجمعه عن مطاعم الإيغور في "الصين الداخلية"، ذات الطابع التقليدي الصيني في شرق وجنوب البلاد.
ونظراً لأنه قضى عقداً في البحث حول الإيغور -وهي أقلية عرقية ذات أغلبية مسلمة تتركز بصورة أساسية في أقصى غرب منطقة شينجيانغ، خارج الصين الداخلية- كان الغرض من مشروعه إعداد دليل الطعام هذا أن يكون عملاً مسلياً وفرعياً لدراساته اللغوية الاعتيادية.
شعر أنه "يبحث عن كنز"، إذا جاز القول، في ظل ندرة مطاعم الإيغور في المدن الرئيسية للصين الداخلية مثل شنغهاي، وبكين، وغوانزو، حيث يعيش الإيغور مهاجرين وحيث تتكون أغلبية السكان من عرق الهان الصيني -المهيّمن على البلاد، والذي يشكِّل أكثر من 90% من سكان الصين.
في مطعم كريم.. أرز بيلاو وأطراف حديث مهمة وظريفة
بالرغم من أن رحلات بونين من أجل هذا الدليل ربما تضمنت زيارة ما يقرب من 200 مطعم في أكثر من 50 مدينة، علق في ذاكرته مطعم كريم دون غيره. وجد في المطعم أرز بيلاو التقليدي وشعيرية لاغمان؛ وهما طبقان ينتميان لمنطقة آسيا الوسطى ويمثلان وجبات رئيسية في المطبخ الإيغوري، ويجيد مطعم كريم إعدادهما أيما إجادة.
غير أن الأكثر أهمية كان إحساس الدفء والألفة المجتمعية، الذي جعل الجلوس هناك لساعة أو ساعتين إضافيتين سبباً حقيقياً للسرور. كان كريم مضيفاً عظيماً، وكان رواده يتجاذبون غالباً أطراف الحديث فيما بينهم عبر الطاولات، ويتناولون موضوعات مهمة دون أن يفقدوا روح الهزل والدعابة.
يرفضون نزولهم في الفنادق
خلال إحدى الزيارات، تحولت دفة المناقشة نحو التمييز الذي يواجهه الإيغور في هذه المدينة الكبيرة التي يشكل شعب الهان أغلبيتها. ذكر العديد من مرتادي المطعم صعوبة العثور على مكان للإقامة؛ لأن الفنادق المحلية ترفض في كثير من الأحيان استقبال الزوار من أقلية الإيغور بدعوى عدم وجود غرف متاحة. وأشار أحد الجلوس وهو يضحك أن الأمر طال ضابط شرطة من الإيغور ولم يتمكن من الحصول على غرفة في أحد الفنادق. وذكر كريم، وهو متحدث متمرس لعديد من اللغات يمكن بكل سهولة أن يظن من يراه أنه من الشرق الأوسط، كيف أنه أحياناً يذهب إلى فندق ويتحدث الإنكليزية أمام موظفي الاستقبال. وعندما يظنون أنه أجنبي، يخبرونه أن هناك غرفاً متاحة، ثم يغيرون موقفهم بعد أن يطلبوا منه أوراق هويته ويروا كلمة إيغور على بطاقة هويته الصينية.
ويهاجمون مسقط رأسهم بزعم مكافحة العنف بينما هدفهم تدمير الهوية
بيد أن ما سيتضح قريباً أن مثل ذلك التمييز "البسيط" كان أقل المشكلات التي يواجهها الإيغور. فبينما كان مرتادو مطعم كريم يتجاذبون أطراف الحديث في ربيع 2017، كان مسقط رأسهم في شينجيانغ -التي تضم أكثر من 10 ملايين من الإيغور- يخضع بالفعل لما وصفته الدولة الصينية بـ"هجوم شامل" يستهدف التطرف الديني والإرهاب.
بدأت السياسات المتشددة بعد فترة قصيرة من تولي تشين شوانغوا منصب أمين لجنة الحزب الشيوعي في منطقة شينجيانغ، وهو رجل قوي انتهج سياسات مشابهة في التبت. وفي حين بررت الحكومة استخدامها للقوة بأنه جاء استجابةً لعدد من أحداث العنف، زعم منتقدو الحكومة أن التدابير استهدفت تدمير الهوية الإيغورية.
يستخدمون معهم سياسة "التحوُّل عبر التعليم" في المعتقلات
ربما تتجه الأمور نحو الأسوأ بدرجة كبيرة خلال العام القادم، نظراً لأن شينجيانغ تحولت إلى دولة بوليسية أورويلية وعزلت الحكومة مئات الآلاف من الإيغور تدريجياً في معسكرات اعتقال لتنفيذ ما تسميه "التحوُّل عبر التعليم". أُودع آخرون السجون أو "اختفوا".
ولم تقتصر تقارير الشهود التي تتناول الحياة داخل المعسكرات ومراكز الاعتقال على ذكر الظروف المعيشية غير الصحية وحسب، بل أشارت أيضاً إلى تعرض المحتجزين إلى العنف والتعذيب وغسيل الدماغ بشكلٍ منتظم. قال جيمس ميلوارد، وهو باحث تركزت دراسته على شينجيانغ لثلاثة عقود، في مقال نُشر في صحيفة The New York Times في فبراير/شباط 2018: "لم يسبق أن كان القمع الذي تمارسه الدولة في شينجيانغ أكثر قسوة مما بات عليه منذ بدايات 2017".
ومن يعارض تقتله الدولة
وبالنسبة للعديد من أبناء الإيغور يمكن أن يمثل الربيع الماضي بداية لعهد من الخسارة الفادحة؛ خسارة الحقوق، وخسارة سبل كسب العيش، وخسارة الهوية. بل خسر بعضهم حياته أيضاً. كان كريم محل استهداف خاص من الحكومة، كما كان الحال مع غيره من الإيغور الذين عاشوا في الخارج في بلاد ذات أغلبية مسلمة؛ إذ استهدفتهم الحملة القمعية الحكومية استهدافاً خاصاً.
عندما عاد بونين إلى المنطقة في وقت سابق من العام الحالي، علم أن كريم اقتيد والأغلال في يديه إلى السجن، وأنه "مات بعد مدة طويلة من الأشغال الشاقة".
أو على الأقل تلك هي الطريقة الملائمة سياسياً لرواية ما حدث. ويمكننا أيضاً أن نقول إن الدولة قتلته.
الصين تعتبر انتقادها تدخلاً في الشؤون الداخلية
أسكتت الدولة، من جانبها، جميع الانتقادات الموجهة لممارساتها في شينجيانغ. ففي وقت سابق من هذا العام، أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية هوا تشون يينغ، أن المخاوف من سوء معاملة الإيغور "غير مبررة" وأن النقد يصل إلى درجة "التدخل في الشؤون الداخلية للصين".
وفي بيان لا ينسى الصيف الماضي، قال أيليتي سالييف، نائب مدير الدعاية الخارجية في إقليم شينجيانغ تصريحاً مفاجئاً، إذ أشار أن "أسعد المسلمين في العالم يعيشون في شينجيانغ".
بالرغم من أنه من الأفضل أن نترك الإيغور يتحدثون عن سعادتهم الجمَّة هذه بأنفسهم، بات الاستماع إلى أصواتهم صعباً في ظل جهود الدولة الدؤوب على تحويل شينجيانغ إلى حالة من التعتيم الإعلامي البالغ.
وتعتقل الصحافيين وأقاربهم كي لا يتحدثوا
يخضع الصحافيون على وجه التحديد لتدقيق مكثف، وكان أي شخص تمكنوا من إجراء مقابلة معه في حالة خوف بالغ من بطش الدولة لدرجة تمنعه من البوح بالحقيقة. وتعد المخاطر المحدقة وحالات الانتقام كبيرة للغاية مع صحافيي الإيغور في الخارج.
ففي فبراير/شباط، علم أربعة من الإيغور الذين يعملون في إذاعة آسيا الحرّة، التي تبث من الولايات المتحدة أن بعض أقاربهم من الدرجة الأولى في شينجيانغ قد اُعتقلوا. وكان ذلك، حسبما جاء في صحيفة The Washington Post الأميركية، "محاولة واضحة لتخويفهم أو معاقبتهم على تغطيتهم الصحفية".
أفاد العديد من السياح الأجانب في شينجيانغ هذا العام أنهم استُجوبوا أثناء ركوبهم القطار لزيارة المنطقة، وكذلك في نقاط التفتيش بين المدن. وأورد باحثان أكاديميان قصصاً عن رفض منح حق الدخول أو الوصول إلى بلدات كان من الممكن الوصول إليها في السابق، دون إبداء أي سبب حقيقي.
وتحاول منع الأجانب من التحدث حتى مع "أبناء شينجيانغ السيئين"
وأثناء إقامة بونين في مدينة كاشغر الواقعة أقصى غرب شينجيانغ، وهي واحة لا تبعد كثيراً عن الحدود مع قيرغستان وطاجكستان وباكستان، تعرض لمضايقات كبيرة كانت هدفها في الواقع إخراجه من المدينة: "فقد أُغلق النُزُل الذي كنت أقيم فيه فجأة لأسباب تتعلق بـ"السلامة من الحرائق"، ووجدت نفسي على القوائم السوداء في جميع الأماكن الأخرى التي كان يمكنني الإقامة فيها. وبعد مغادرة شينجيانغ، قضيتُ شهراً في مدينة ييوو، وهي مركز تجاري دولي يبعد عن شينجيانغ حوالي 5000 كيلومتر شرقاً، وليست بعيدة عن شنغهاي؛ ولكن حتى هنا لفت تواصلي اليومي مع سكان الإيغور انتباهاً من نوع خاص. ففي مناسبتين، نبهتني الشرطة المحلية إلى ضرورة الانصياع للقانون الصيني وعدم مرافقة أي من (أبناء شينجيانغ السيئين)، وهو وصف مهذَّب يُستخدم للإشارة إلى الإيغور".
وفي الفترة الطويلة التي قضاها بونين لإنهاء أبحاثه اللغوية وإعداد دليل الطعام، كانت أفضل فترة فيها هي تلك التي قضاها وسط "أبناء شينجيانغ السيئين" على حد تعبيره، ومدتها بالتحديد 18 شهراً، سواء في شينجيانغ ذاتها، أو في الصين الداخلية.
خلال تلك المدة، تحدث إلى مئات الإيغور، وأغلبهم من عمال المطاعم الذكور، ورجال الأعمال، وصغار التجّار، وطهاة طعام الشارع، إضافة إلى عائلاتهم.
في أغلب الحالات، لم يتحدثوا عن السياسة، وحتى إذا حدث ذلك، كان جميع من تحدث إليهم تقريباً قد مسّهم القمع في شينجيانغ، وأحياناً كان البديل عن الخوض في السياسة هو ألا نتحدث أبداً، لذا كنا نتعرض في حديثنا لما يحدث هناك.
وبتحليل ما رصده، أدرك في نهاية المطاف أنه لا يستطيع الحديث نيابة عن الإيغور؛ فتلك المهمة يجب بالتأكيد أن تُتَرك للإيغور أنفسهم، في بيئة خالية من الخوف. لكنه تمنى أن يقدم عنهم صورة للقارئ، لمعرفة ولو قدر يسير، طريقة استجابة الإيغور في شينجيانغ وسائر مناطق الصين للوضع الحالي.
ممنوع عليهم التواجد خارج مدنهم والمراقبة باستمرار
في أحد أزقة شينجيانغ، مطعم يشتهر بوجبة شيش كباب الحمام والشاي باللبن. كان يحاول دائماً المرور عليه عندما يكون في المنطقة. وفي آخر مرة مر به، اعتذر لعدم الزيارة منذ فترة طويلة. لكن صاحب المطعم لم يكن غاضباً على الإطلاق، بل عبر فقط عن دهشته من أنه لا يزال في المنطقة. وأخبره: "كنت متأكداً من أنك عدت إلى بلدك".
كان قد مرّ على زيارته السابقة للمطعم حوالي عام، تغيَّرت خلاله أشياء كثيرة. أُجبر أغلب عمال المطعم -حوالي عشرة من العمَّال- على العودة إلى مدنهم التي جاءوا منها في جنوب شينجيانغ، إما من أجل "إعادة تعليمهم" أو "لاعتقالهم في مدنهم". لم يعد هناك شيش الكباب والشاي المعهود في المطعم، ورحل معه أغلب مرتادي المطعم تقريباً. وقال صاحب المطعم إن العثور على عمالة من المطعم الإيغوري قد بات أمراً نادراً الآن، وكان من شبه المستحيل إيجاد بدائل.
والاعتقال مصير من يزور دول الشرق الأوسط
سأله عن ابن أخيه -صديق قديم آخر له- لكنه أخبره أنه في السجن لقضائه من قبل عاماً في بلد في الشرق الأوسط. اعترف الرجل قائلاً "حالتنا المزاجية محطمة".
تبدَّى هذا الشعور بالإحباط أيضاً في السلبية الصريحة التي ظهرت لدى العديد من أصحاب الأعمال من الإيغور. بالرغم من أن الإيغور عامةً يعتبرون أنه من المنافي للذوق أن تبادر بالشكوى حين يسألك شخصٌ عن أحوالك، تكرر كثيراً في الآونة الأخيرة سماعه لشكاوى من أن الأمور ليست على ما يُرام بسبب "تردي ظروف العمل".
عندما صادف بونين العام الماضي شخصاً من معارفه يعمل مرشداً سياحياً، نبهه أنه صار نحيفاً جداً عن آخر مرة. فقال الرجل: "لقد صرنا جميعاً في غاية النحافة خلال العام الماضي".
يرحّلونهم في ليلة وضحاها إلى إقليمهم البعيد 4 أيام في القطار
كان الشعور المستمر بالخوف على نفس الدرجة من الانتشار. ففي إحدى الليالي التي قضاها كاتب التقرير في كاشغر، شاهد 5 أو 6 من رجال الشرطة يسحبون رجلاً سكران في الشارع لا لشيء إلا لأنه لوح بذراعه، دون أن يطرحوا عليه أي أسئلة، ورغم أنه كان في صحبة زوجته وابنه.
في الصين الداخلية، كان من الممكن أن أرى العاملين في المطاعم من الشباب وعليهم أمارات الارتياح والاسترخاء في يوم، ثم يظهر القلق عليهم في اليوم التالي: واتضح لاحقاً أن الشرطة أصدرت أوامر لهم بالعودة فوراً إلى المدن التي جاءوا منها في شينجيانغ – وهي رحلة تستغرق بالقطار ثلاثة إلى أربعة أيام بالنسبة لمعظمهم.
حتى اقتناء الكتب تهمة وشبكة الأصدقاء شُبهة
انتشر خوف أيضاً من المراقبة الدائمة. ذات يوم جالس مدير مطعم شرق الصين، ولم يكن قادراً على تجنب الحديث عن الموضوع، فتحدث إليه عن درجة القمع التي وصل إليها إقليم شينجيانغ، وأخبره عن صديق حُكم عليه بالسجن لعشر سنوات لامتلاكه الكتب "الخاطئة". وبمجرد أن نطقت كلمة "السجن"، بدأ مدير المطعم يومئ برأسه صوب الطاولة خلفه، وهمس: "يوجد شرطي هنا!"، قبل أن يقف ويبتعد.
حذف العديد من أبناء الإيغور جميع جهات الاتصال الأجنبية من حساباتهم على تطبيق WeChat الصيني (المراقب بشدة)، خوفاً على سلامتهم.
تواصل بونين مع صديق في شينجيانغ حذفه من التطبيق، ثم التقاه وجهاً لوجه. ولكنه تمنى لو لم يتواصل معه. كان الغداء صامتاً وغريباً. وكان في جعبتهما الكثير من الحديث، لكن كل شيء بدا محظوراً، ومرت عليهما دقائق كاملة جلسا فيها صامتين دون أن ينطقا ببنت شفة. لم يبدُ أن أحداً يراقبهما، لكن صديقه بدا قلقاً رغم ذلك.
وعندما مرر إليه عينات من كتاب كان أعمل على تأليفه، ألقى نظرة خاطفة عليها ولكنه لم يقلِّب صفحاتها. وعندما سأله عن صديق مشترك إذا كان كان قريباً قال "لم يعد يعرف" ذلك الشخص، قبل أن يضيف: "الآن، أنا لم أعد أعرفك أنت نفسك".
Yoq.. الكلمة الأكثر انتشاراً للتعبير عن رحيل الإيغور
عندما يدور الحديث عن الوضع في شينجيانغ، يعد استخدام الكنايات المهذبة شيئاً أمراً متعارفاً عليه. وكانت كلمة "Yoq"، التي تعني "رحل" أو "ليس قريباً"، أكثر الكلمات استخداماً على الإطلاق.
كانت عبارة "adem yok" (الجميع رحلوا) أكثر ما سمعه بونين العام الماضي. وهي تستخدم لوصف غياب العاملين، والزبائن، والبشر عموماً. وعند الإشارة إلى الأشخاص الذين أُجبروا على العودة إلى مدنهم التي جاءوا منها (من أجل الاعتقال في مدنهم، أو احتجازهم في معسكرات، أو ما هو أسوأ)، وكان المعتاد أن يُقال "عادوا إلى منازلهم".
لا يُشار إلى معسكرات الاعتقال بعبارة صريحة في المعتاد. وبدلاً من هذا، يُقال عن الناس هناك إنهم مشغولون بـ "الدراسة" (oqushta/öginishte)، أو "التعليم" (terbiyileshte)، أو أحياناً قد يقال إنهم "في المدرسة" (mektepte).
وبالمثل، لا يستخدم الناس كلمات على شاكلة "قمع" عند الحديث عن الوضع الإجمالي في شينجيانغ. بل يميلون لقول "weziyet yaxshi emes" (أي "الموقف ليس جيداً")، أو يصفون شينجيانغ بأنها متشددة/صارمة جداً (ching).
وممنوع منعاً باتاً فتح المطاعم التركية
ورغم استخدام الكنايات المهذبة، ليس ثمة طريقة يمكن بها تجاوز ما يحدث، ولا مفر من الحديث عن الموضوع. كان بونين يتجنب الحديث عن السياسة مع أصدقائه، لكنه في كل حوار كان الأمر يتكرر.
عندما سأل بونين صديقاً عما فعل قبل ذلك في نفس اليوم، ذكر اجتماعاً سياسياً كان على جميع الإيغور في المدينة حضوره. وعندما سأله عما إذا كان يواصل محاولة قراءة الكتب في أوقات فراغه، أخبره أن الشرطة اتخذت إجراءات مشددة ضد ذلك أيضاً، وأن قراءة أي كتب يمكن أن يلفت انتباهاً غير مرغوب فيه. وعندما سأله عن طموحاته للمستقبل، أخبرني أنه في أفضل الأحوال سيفضل أن يصبح طاهي طعام تركي في شينجيانغ ويفتح مطعمه الخاص، ولكن لسوء الحظ مثل ذلك التصرف فقط يمكن أن يدخله السجن في شينجيانغ، لأن الدولة تواصل إعاقة أي تواصل بين الإيغور وبين الشعوب التركية والمسلمة الأخرى في الخارج.
"هنا في كاشغر نحن شعب محطَّم"
في مناسبات قليلة، قابل بونين أشخاصاً بلغ اليأس منهم مبلغه حسبما ظهر عليهم، وكل ما كانوا يريدونه هو البوح بكل ما لديهم. المرة الأولى كانت في كاشغر، الخريف الماضي، عندما دعاه موظف أمن عام بملابس رسمية -من الهيئة النظامية ذات المرتبة الأدنى في جنوب شينجيانغ، وأغلب موظفيها من الإيغور- للجلوس على طاولة شاي معه. كان الرجل في وقت الأصيل من ذاك اليوم خارج أوقات عمله، وعاد لتوه من فحص طبي.
وكانت المحادثة التي أعقبت ذلك شديد الوطأة. سأله الموظف عمَّا يعرفه عن تاريخ الإيغور، ثم عن رأيه في الإيغور كشعب. وتبع تلك الأسئلة سؤالٌ طُرح في مناسبات عديدة خلال سنوات إقامة بونين في شينجيانغ، وكأنه ضربٌ من البحث عن شيء من الإقرار الخارجي بهوية الإيغور. لم يكن متأكداً من الطريقة الملائمة للإجابة، فيجيب: "إن شعب الإيغور مثل الآخرين، لديهم الجيد والسيئ".
فرد عليه قائلاً: "أنت تخفي ما تعتقده حقاً. انظر حولك. لقد رأيت كل شيء بعيني رأسك (هنا في كاشغر). نحن شعب محطَّم".
ونظراً لكونه لا يثق في العموم في الأشخاص ذوي الملابس الرسمية في الصين، لم يكن بونين مستعداً لأن يشارك رؤاه السياسية في هذا الوقت، لكنه في تلك اللحظة شعر أن المحادثة كانت "لحظة صادقة من اليأس والابتئاس. أعتقد أن كلماته كانت صادقة. كان موقع عمله قريباً من السوق الليلي لكاشغر، ولكن بعد أيام من مقابلتنا، لم أره هناك أبداً أو في أي مكان آخر مرة أخرى".
الملايين من مسلمو الإيغور محتجزون ويتعرضون للتعذيب والتجويع
محادثة أخرى علقت في ذاكرة بونين، هذه المرة في الصين الداخلية أثناء زيارة مطعم كان قد ارتاده لمرات قليلة قبل ذلك. كان جميع أفراد طاقم العمل القديم قد رحلوا، باستثناء نادل واحد. وبمجرد أن رآه ذلك النادل، ألقى كل شيء وجلس للدردشة معه. يبدو أن إخباره للنادل بأنه مجبر على الخروج من كاشغر أثاره للحديث، فاستمر في قول أشياء عديدة عن الموقف هناك، وفي الواقع جميعها كانت محظورة.
قال إن "ملايين من الإيغور" يُحتجزون في معسكرات، حيث يُطعمون بقايا أرز مخزنة من 15 عاماً ويتعرضون للضرب. (يصعب التحقق من دقة الأرقام، لكن إفادات الشهود أكدت على سوء التغذية والعنف داخل المعسكرات). وقال إن الإيغور في هذه المدينة بالصين الداخلية أُجبروا على حضور اجتماعات سياسية، وأنهم سوف يخضعون قريباً لاختبار عن موضوعات سياسية مثل مؤتمر الحزب التاسع عشر. ومن لا يجتاز الامتحان سيُعاد إلى شينجيانغ.
الشرطة تسألهم: هل تدخن.. هل تحتسي الخمر لم لا؟ هل تصلي؟
وقال: "عندما تتحدث إلينا الشرطة يكونون مرتابين من كل شيء: هل تدخن؟ هل تحتسي الخمر؟ وإن لم تكن تفعل ذلك سوف يسألونك عن السبب. وسوف يسألونك إذا كنت تصلي. وسوف يسألونك إذا كنت ترغب في السفر إلى الخارج، أو إذا كنت قد تقدمت من قبل للحصول على جواز سفر أو تملك جواز سفر. وإذا نظرت إلى الشرطي، سوف يسألك لماذا تنظر إليه، وإذا نظرت إلى الأرض سوف يسألك لماذا تنظر إلى الأرض. وعندما نركب القطار، يكون هناك دائماً غرفة منفصلة يجب علينا أن نعبرها قبل أن يُسمح لنا بمغادرة المحطة، حيث يفحصون المستندات ويستجوبوننا".
استغرب بونين لجرأته، لكنه بدا لي واعياً لخطر ذلك، أو ربما كان قد انتهى إلى أنه سوف يُحتجز إن عاجلاً أو آجلاً. وعندما نُفذت إجراءات صارمة أخرى بعد أسبوع، طالت جزءاً كبيراً من شباب الإيغور في المدينة، كان هذا النادل من بين من أُجبروا على المغادرة "والعودة إلى وطنهم".
من آنٍ لآخر كان بنين يلتقي أشخاصاً في جعبتهم أشياء أكثر إيجابية عن الوضع، لكنه كان يشعر بأنها مزيجٌ من التنافر المعرفي، ومتلازمة ستوكهولم، وخداع الذات، وهو ما دل عليه في أحيان كثيرة مناقضة الذات والغياب الواضح للاقتناع بما تلوكه الألسنة من كلمات.
محادثاتهم غريبة.. وكأنها معدة سلفاً فالكلام مراقب حتى آخر حرف
يستذكر بونين محادثة أثناء رحلة استكشافية شينجيانغ، ويصفها بلحظة من أصعب لحظات "اليقظة الصادمة". كان يحاول موافاة صديق من الإيغور يعمل في مجال السياحة بشينجيانغ. بعد الدردشة لمدة قليلة، ألقى بملحوظة حول تزايد حدة الإجراءات الأمنية في المدينة بدرجة وجدها مبالغاً فيها. كانت لديه هو الآخر شكواه من النظام الجديد، وتحدث عن إجباره على الوقوف وتحري هويته الشخصية سبع مرات أثناء انتقاله لمسافة كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات على دراجته الكهربائية.
ومع ذلك، سرعان ما أضاف قائلاً: "لكن الناس يشعرون بالأمان حقاً الآن. قبل ذلك كنت أقلق لترك ابنتي في المدرسة وحدها، ولكن ليس علي أن أقلق الآن".
كانت تلك الكلمات صاعقة، وبدت مسبقة التحضير، نظراً لأن الحديث كان بصورة شخصية. ثم استمر الصديق العامل في مجال السياحة قائلاً إن هذا كله كان لحماية الناس من الإرهاب، وإنه بمجرد أن تسرع الولايات المتحدة وروسيا بهزيمة داعش، سوف ينتهي كل هذا. "بالرغم من هذا، عندما قلت إن الإرهاب لا يمكن هزيمته بقوةٍ كهذه، سرعان ما اتفق مع ذلك أيضاً" يوضح بونين.
ومن خوفهم يقولون الشيء وعكسه.. ينتقدون ويمدحون
صديق آخر في مدينة أخرى شكا من إجراءات التفتيش العشوائية التي ينفذها رجال الشرطة المحليون فيما يتعلق بالإيغور. أظهر غضباً عند الحديث، إذ قال إن أفراد الشرطة تصرفوا كما لو أنهم هم القانون ذاته، غير أنه أضاف أن المستويات العليا من الحكومة جيدة!
ظاهرة غريبة أخرى حدثت على مواقع الإنترنت في وقت الاجتماع التاسع عشر للحزب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإذ فجأةً بدأ الأصدقاء الإيغور، الذين كانوا لا يكادون يتحدثون لغة المندرين الصينية، في نشر رسائل طويلة بالمندرين الفصيحة يمتدحون فيها شي جين بينغ والمؤتمر. وبعد أشهر قليلة، تبين أن تطبيق WeChat يسمح للمستخدمين بإظهار موقف الشخص من خلال وضع أسمائهم على بيانٍ مُعدٍ باللغة المندرينية أو الإيغورية.
تعهد البيان بالولاء للحزب الشيوعي وقادته، وعبّر عن تصميمهم- ضمن أشياء أخرى – على التمسك بـ"الانسجام بين الأعراق" والوقوف ضد الإرهاب. ثم يمكن نشر ملف الصورة المُستحدَث بسهولة على حساباتهم في أي موقع من مواقع التواصل الاجتماعي التي يختارونها تعبيراً عن الولاء.
يجاهدون لإظهار ولائهم بالأعلام الصينية هنا وهناك
في عديد من مطاعم الصين الداخلية، كان هذا الولاء مرئياً أكثر من كونه لفظياً. فقد كانت القاعدة أن مطاعم الإيغور هي الوحيدة في الشارع التي تُغطى بالأعلام الصينية، وأحياناً باللافتات الحمراء التي تعلن عن التصميم على مكافحة الإرهاب.
وأحياناً كان الديكور الداخلي للمطعم يحتوي على أعلام صغيرة إضافة إلى صور شي جين بينغ أو أطباق عليها صورته، أو شعارات "الانسجام بين الأعراق" مثل تلك التي تنادي بأن تكون جميع الجماعات العرقية في الصين "متلاحمة مثل حبات الرمان".
حتى أن بعض المطاعم كان لديها كتب باللغة الإيغورية عن الرئيس شي جين بينغ وعن الحزب موضوعة في الواجهة.
لم يُعرف ما إذا كانت مظاهر الولاء هذه طوعية أم أن القانون ألزمهم بها، لكنها على الأرجح مثل الرقابة الصينية في العموم، كانت مزيجاً من الاثنين: بعضها استباقي وبعضها إلزامي.
الزواج من عرق الهان والتعليم الصيني الرسمي بطاقة لعدم دخول السجن
يبدو أن الطاعة والاسترضاء أنقذا بعض الأشخاص من السجن والاحتجاز في المعسكرات. فضلاً عن أن عوامل أخرى -مثل المال، والعلاقات، والزواج من عرق الهان والتعليم الصيني الرسمي- اتضح أنها ساعدت أيضاً في ذلك، وإن لم تكن ضماناً نهائياً.
وبخلاف ذلك، كانت رشوة رجال الشرطة أو المسؤولين لتجنب مصادرة جواز السفر أو الترحيل إلى المدينة التي ينحدر منها- خياراً آخر لجأ إليه كثير من الأشخاص، فيما يُعد ثغرةً في نظام تبدو محاولة الفرار منه شبه مستحيلة.
والتركيز في لقمة العيش لتجنب الدخول في معمعة السياسة
بالرغم من ذلك، صارت الاعتقالات والخوف منها حقيقة يومية لا يمكن تجنبها. يمكن القول إن الغالبية يتعايشون ببساطة من خلال التحمل و"التحامل" على النفس. ورغم افتقاد الأقارب، والخسائر المالية، والخوف من أنهم قد يحين دورهم في يوم قريب، بذل كثير من أصدقاء الكاتب ومعارفه جهدهم ليركزوا على إيجاد طريقة لكسب الرزق، ومواصلة القيام بذلك وحسب.
وما يبدو أكثر أهمية للكثيرين في الوقت الحالي هو مستقبل أطفالهم. ويركز من لم ينجبوا أطفالاً على الأهداف الأبسط والأكثر واقعية: مثل التخرج من الجامعة، أو العثور على وظيفة، أو شراء شقة.
ولسان حال البعض "إنه اختبار للعالم الإسلامي كله"
يدير أحدهم متجراً صغيراً في الصين الداخلية، حيث صادرت الشرطة المحلية مؤخراً أرففاً كاملة من المنتجات المستوردة لأنها "لا تحمل ملصقات صينية". ويقول إنه استطاع أن يوقفهم عن مصادرة المزيد عن طريق إخبارهم أنه لا يشعر أنه على ما يرام وأن عليه إغلاق المتجر. ومع خلو نصف الأرفف من البضائع، والتراجع الحاد في العمل، يعتقد الرجل أن المتجر لن يستمر طويلاً حتى يُغلق أبوابه.
ولكن حتى مع وصفه لاستهداف الدولة شباب الإيغور دون تمييز، قال إنه غير خائف. وأوضح: "لقد مررت فعلياً بتجارب كثيرة في حياتي. لذا إذا جاءوا وألقوا القبض عليّ؛ فحسناً. ليحدث ما يحدث".
وعند التطرق للحديث عن الوضع بصورة عامة، أبدى رؤية أكبر وأشمل. إذ قال: "إنه اختبار للعالم الإسلامي في الوقت الحالي. إذا نظرت إلى ما يحدث في سوريا، أو أي مكان آخر، فإن العالم الإسلامي كله يمر باختبار. لكن الله يعرف كل شيء يحدث. علينا فقط أن نتجاوز هذا".
ولمّا كانت الصلاة ممنوعة كلياً على الإيغور، وجد طرقاً لن تلاحظها السلطات، مثل الصلاة سراً أثناء الجلوس على كرسي، أو الصلاة تحت إحدى الأشجار التي تصطف على جانب الطريق.
ورغم الأمل.. لا يزداد الوضع إلا سوءاً
يرى كثيرون أن وجود الأمل ضرورة حتمية، وبأن "الأمور ستتحسن قريباً" بدون إبداء أي سبب لإيمانهم بهذا. يبدو أن البعض يعتقد أن صديقاً أو قريباً سيُطلق سراحه في المستقبل القريب "لأنهم اُحتجزوا لأشهر عديدة بالفعل".
ويبدو أن آخرين يعتقدون أن الموقف سيعود إلى طبيعته "بمجرد هزيمة الإرهاب". في بعض المحادثات التي خاضها بونين في مطاعم الإيغور المنتشرة في الصين الداخلية -التي فقدت مرة أخرى كثيراً من العاملين فيها- أخبروه أن طاقم العمل "سيعود قريباً بمجرد إنهاء تعليمه".
بيد أن الزمن كان قاسياً على هذه الأصوات المتفائلة. ومع تحوِّل الشهور إلى سنة كاملة، وأكثر، لا يزال المحتجزون قابعين في السجون ومعسكرات الاعتقال، والمطاعم تفقد مزيداً من العاملين فيها ومن مرتاديها، ولا يزداد الوضع إلا سوءاً.