للإرهاب وجوه عدَّة وأشكال قد تختلف في ملامحها إلا أنها تتشابه في نَفَسِها الخبيث وجوهرها المتآكل، ويستعين أولئك الممارسون لهذه الأشكال أدوات مختلفة يسخرونها لإرهاب من يستهدفونهم.
وبرغم أن الإرهاب السياسي والديني والعرقي من أشهر أنواع الإرهاب في العالم إلا أني أجزم بأن الأكثر انتشاراً هو الإرهاب الأسري والإرهاب الوظيفي، لاسيما أنها (منطقياً) من الأنواع التي تُمارس في الخفاء ولا توجد عليها رقابة كافية، بل والمؤلم أنها سبب رئيس في تأهيل الفرد ليكون جاهزاً للانخراط في الأنواع الشهيرة، كما نلحظ من خلال استقراء الأحداث اليومية، فالموظف الفاقد لكرامته والذي يصل لمراحل الإحباط والسلبية التي تنزع منه طموحه وتطلعاته يجد نفسه قد خسر كل شيء، بل ويتعدى ذلك إلى بعض الأمراض السيكولوجية التي تصل إلى تبنيه أفكاراً للانتقام من المجتمع حيث يراه نسخة طبق الأصل من تركيبة عمله.
وإن كان الإرهاب الأسري يظهر بشكل أوضح من خلال سلوك الطفل والمراهق، ويسهل اكتشافه في الجهات التي يكون فيها المرء فعالاً ونشطاً، وأصبح الوعي به منتشراً نسبياً تحت عدة مفاهيم مثل (العنف الأسري، حقوق المرأة، حقوق الطفل) وله عدة منظمات تهتم بمتابعته وعلاجه وأيضاً الوقاية منه..
لكن الإرهاب الوظيفي للأسف نوع من أعنف الممارسات وأقذرها وأكثرها تهشيماً للإنتاج العام؛ فهو مخلب شبق يدسّ سمومه الإنسان ويرهقه جسدياً ونفسياً ما يجعله تحت تأثير ضاغط يدمر قواه ويغتال مهاراته وينال من قوامه النفسي، ما يجعل منه عنصراً سلبياً في إدارته، فبدلاً من دور البناء الذي يتوقعه المرؤوسون من قياداتهم إلا أنهم يجدون أنفسهم مشاركين مكرهين في دفع عجلة الهدم خوفاً من سوط السلطة والصلاحية الذي يرفعه الرئيس؛ حيث ينتهج بعض الرؤساء في مقار العمل أساليب منظمة يستغلون من خلالها جهل مرؤوسيهم بالأنظمة واللوائح ويتم تجنيدهم بشكل أو بآخر لإنجاز مهام تصب في تحقيق مصالح شخصية.
بل ويصل الحال إلى تطبيق عقوبات مخالفة للأنظمة تصل إلى حجز الراتب أو الفصل التعسفي أو الحرمان من امتيازات الموظف العام كالانتدابات وخارج الدوام من خلال تجاهل تكليفه بها، وكذلك إصدار تعاميم لقرارات مخالفة للأنظمة لتطبيقها، ويصل الأمر إلى تضليل قيادات عليا ليقوموا بفرض التجاوزات وكأنها ضرب من العمل القانوني، ولنا أن نتخيل استمرار بعض التجاوزات لأعوام، ما يؤسس الخطأ ليصبح عُرفاً تتناقله الأجيال ومتى استيقظ موظف (مطلع) على الأنظمة يتفاجأ بسيل عرم من الاتهامات يحيله مجرماً خارجاً عن القانون متجاوزاً للأنظمة، بل يواجه بتفسير مغلوط للأنظمة ومعاقبته وتهديده بشكل يضعه أمام مواجهة صعبة مع (إرهابيين) من نوع جبان لا يستطيع الاعتماد على نفسه، وليس لديه سوى رصيد مغْبرّ من العناد والأمان من العقاب وعندما يصرّ الفرد على تطبيق الأنظمة تكون الحرب على هذا الإرهاب ثمنها المستقبل.. ونظراً لتمسكه بالأنظمة يجد الطريق إلى العدالة طويلاً.
إن الإرهاب الوظيفي لا يفترس الموظف فقط، بل تتعدد فرائسه التي ينهش فيها ويهلكها، فممارسة هذا النوع تنشر ثقافة التجاوز بشكل منظم وتوهم الجميع بمشروعيته، وهنا يتم تهميش الأنظمة ويتحول العمل إلى مزاجية تنتهك من خلالها حقوق الإنسان جمعاء من خلال الحطّ من الكرامة وتقييد الحرية ويصبح رقيقاً تابعاً لرئيسه خوفاً وإذعاناً، ويفقد الثقة في القانون ويتحول ولاؤه للمدير بدلاً من المؤسسة أو الجهاز.
كذلك نجد فريسة أخرى وهي (التنمية) التي تتعطل تلقائياً باستنساخ الأجيال ليصبح العقل الجمعي في المنظومة متوقفا عند فكر المسؤول وأتباعه الوارثين للإدارة من ضحاياه، فيصبح التطور والإصلاح مجرد شعارات يتم استغلالها بذات الطريقة لتحقيق المصالح الخاصة.. وتعددت الأسماء والإرهاب واحد.
ضحية أخرى أكثر إيلاماً وهي تقوية هذا الفساد وتحسينه باسم التقنية ومواكبة التطور، فتأتي البرامج والآليات التكنولوجية ليتم تجنيدها لصالح نفس الأهداف مستغلين الدعم السخي من الدولة التي توجه بتوفير سبل التطور وإمكاناته للأجهزة الحكومية، فيبدأ الإرهابي الخائن للوطن بانتهاز الفرصة ليكون له السبق في امتلاك تقنية تزيده قوة وضراوة.
لست هنا لأقول كلاماً مبالغاً فيه، فخبرتي المتواضعة في البحث الاجتماعي وإلمامي الأكاديمي والعملي بقضايا الدفاع الاجتماعي وجدت بين ناظري وسمعي ما هو بالخطورة الكافية لتدمير الإنسان وإحباطه وجعل الكفاءات تقف في مؤخرة الركب وتضع المقدمة لمن هم على عهد الولاء من الجبناء والضعفاء المغلوب على أمرهم.
وأكبر الدلائل على انتشار هذا الإرهاب ما نراه في ردهات المحاكم الإدارية التي تنظر في التجاوزات التي تطال الموظف من الجهاز التابع له، وحتى المواطن الذي يتحرى الخدمة التي تفي بحاجاته وضروراته أمام هذه الأجهزة التي نجد منها ما أصبح بمثابة ملكاً خاصاً للبعض.
ومما يبعث التفاؤل في بلادنا أنها برغم ضربات الإرهاب السياسي والمذهبي وكذلك الوظيفي.. فهي ثابتة شامخة تنادي بتنمية الإنسان والاستثمار فيه وقد أسست لكل ذلك كيانات مدعمة بالكوادر والدعم المالي الكافي لواجه ويقي المجتمع ومقدراته وإنسانه من أخطار الخونة.. ولكننا في الحقيقة بحاجة لرفع وعي الموظف في أجهزة الدولة بأهمية تطبيق الإرادة الملكية الكريمة التي شرَّعت الأنظمة وسنت القوانين ليس من باب المواطنة فحسب، بل من باب الدين أيضا والضمير الإنساني الذي يؤهل كل منا ليكون ذا دور إيجابي في عمارة هذه الأرض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.