بحسب بيان البنك المركزي المصري عن ميزان المدفوعات الصادر في مايو/أيار 2023، وصلت تحويلات المصريين بالخارج خلال النصف الأول من العام المالي 2022-2023 إلى 12 مليار دولار مقابل 15.6 مليار دولار في نفس الفترة من العام المالي الماضي.
بالتالي هناك انخفاض في تحويلات العاملين بالخارج بمعدل ٢٣٪، وهو أمر مقلق حتى إن بعض التقارير تشير إلى قيام برلمانيين بالتقدم بطلب إحاطة لرئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي وعدد من المسؤولين، لتوضيح أسباب انخفاض تحويلات المصريين في الخارج وتداعياتها السلبية على الاقتصاد.. نحاول في هذا التقرير الوقوف على طبيعة التراجع وبعض الأسباب المفسرة له.
تراجع رسمي لصالح السوق غير الرسمية
بمراجعة تطور تحويلات المصريين في الخارج ووفقاً لبيانات البنك الدولي، فإننا نتحدث عن زيادات كبيرة مرتبطة بفترات تغييرات سياسية مهمة؛ حيث ارتفعت ارتفاعاً كبيراً بعد الثورة من ١٢.٤ مليار دولار في ٢٠١٠ إلى ١٩.٢ مليار دولار في ٢٠١٢ ثم تذبذبت في السنوات التالية حتى ٢٠١٦.
تفسر بعض الدراسات أن الطفرات هنا ترتبط إما بالأمل وتحمل المصريين جزءاً من المسؤولية بعد الثورة، أو انهيار قيمة العملة في ٢٠١٦ بعد التعويم الكبير الذي قاد الجنيه للانخفاض بنسبة تزيد على ١٠٠٪ أمام الدولار، وهو ما دفعها لزيادة كبيرة في التحويلات في العام ٢٠١٧، ويرتبط التراجع الحالي بمعدلات التضخم التي شهدها عام 2023 جراء السياسات الكلية.
كجزء من الإحساس بالمسؤولية هو زيادة التحويلات لمواجهة الزيادة الكبيرة في الأسعار والتضخم بعد عقد صفقة القرض والتعويم الذي تم في نوفمبر ٢٠١٦، لكن المفارقة هذه المرة أنه وبالرغم من التعويم الكبير الذي حصل نهاية العام ٢٠٢٢ ومطلع عام 2023 فإننا إزاء تراجع رسمي في التحويلات.
يشير مقال بجريدة الشروق في مارس/آذار ٢٠١٦، للخبير الاقتصادي عمرو الشنيطي، بعنوان "المصريون بالخارج.. الكنز المفقود" إلى أنه وبناء على مسح شامل أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام ٢٠١٤، فإن ثلثي العاملين بالخارج يعتمدون على التحويلات البنكية لتحويل الأموال لمصر، أما الثلث الآخر فيكون من خلال الأصدقاء والوكلاء، ولذلك فإن الحجم الحقيقي لتحويلات المصريين بالخارج يفوق الرقم الرسمي بالنصف في المعتاد.
لماذا تتراجع التحويلات؟
بالبحث عن تفسير لتراجع تحويلات المصريين بالخارج الأخير تجدر الإشارة إلى عدة أسباب، منها الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وغير الرسمي، وأيضاً رسوم التحويل الباهظة التي تضيفها البنوك الرسمية وشركات الصرافة التابعة لها.
بالإضافة لما سبق يتكبد الأهل معاناة كبيرة ومشقة في زحمة البنوك في مدن الريف المعقل الأساسي للمهاجرين، فمن الوارد أن يقضي الأهل قرابة نصف يوم أو يوم كامل في الشمس الحارقة من دون كرسي مريح لتسلّم حوالة، لدرجة أن البعض يضطر لدفع رشوة فقط للحصول على رقم في كثير من البنوك التي لا تتواجد سوى في مدن الريف.
صحيح أن البنك يفترض أن تحافظ على السرية فيما يتعلق بالتعاملات المالية، لكن مع انتشار الأمية في الريف وبالذات لدى كبار السن من الأهالي ومع كون العاملين في البنك من نفس القرى، وكذلك يقوم البعض بإعطاء الفيزا وأرقامها السرية لشخص يجيد التعامل مع ماكينات الصراف الآلي ومع الزحام الشديد، فالجميع يرى بعضهم بعضاً أثناء السحب ويتعرفون على معاملاتهم المالية؛ مما يؤثر بالسلب على ثقة المصريين بالخارج في عمليات التحويل الرسمية.
لما سبق ينخفض أثر وميزة تحويلات المصريين بالخارج من خلال البنوك، كما أنها ومن حيث الجدوى الاقتصادية فالتحويلات الرسمية غير مجدية بالمرة، إذا ما احتسبت بتضييع الوقت والانتقالات والرسوم، مقارنة بالسوق غير الرسمي الذي تتم فيه المعاملات بمنتهى السهولة وتصل الأموال حتى المنزل أو يداً بيد.
كما قد يكون الفارق في سعر العملة حافزاً لزيادة التحويلات غير الرسمية، كما يتعلق أيضاً بالتضخم والتوقعات لأسعار العملة، فإذا كانت العقود الآجلة للنفط والذهب تشير إلى أن الدولار قد يتجاوز ٥٠ جنيهاً بنهاية العام في مصر، فإن المصريين في الخارج قد يترقبون حتى نهاية العام لزيادة تحويلاتهم سواء الرسمية أو غير الرسمية.
لكن لتعويض التضخم المرتفع الواقع على ذويهم، فإن تفضيلهم للتحويلات غير الرسمية يتزايد حتى نصل لنهاية العام أو لمرحلة استقرار العملة، وهي مرحلة غير متوقعة في الأفق المنظور، وبالتالي فإن الانخفاض في التحويلات قد يكون بسبب احتفاظ المصريين بأموالهم في الخارج لحين استقرار أسعار الصرف، وقد يكون هناك زيادة في التحويلات غير الرسمية، والتي من الصعب حصرها، كل ما سبق يشير لفشل سياسات الدولة المصرية في استقطاب هذه الأموال.
ففي الوقت الذي تطلق فيه الحكومة عدة برامج للتحول للرقمنة والميكنة في محاولة للقضاء على الاقتصاد غير الرسمي أو دمجه في الاقتصاد الرسمي، فإنها تسقط العديد من الاعتبارات والفئات، ومنهم المصريون في الخارج الذين لم يتم تقديم أي تسهيلات مغرية لهم بالشكل الذي يجعل التحويل الرسمي خيارهم الأول.
استهداف أموال المصريين بالخارج
في هذا الإطار يمكن الإشارة أيضاً إلى سبب جديد للتراجع، وهو تزايد اهتمام الدولة والمقربين من النظام بمسألة التحويلات، ويأتي ذلك بالتوازي مع أزمة النقد الأجنبي وتراجع الاستثمارات، وهو ما أدى لظهور تخوفات كبيرة لدى المصريين في الخارج من استهداف السيطرة على أموالهم والاحتيال عليهم بطرق عدة.
البعض من الجاليات المصرية المقربة من النظام في الولايات المتحدة الأمريكية اقترح فرض تبرع على كل مصري مقيم بالخارج بمبلغ ٢٠٠ دولار لدعم الاقتصاد المصري، فبحسب تقارير لموقع صدى البلد أطلق المصريون في أمريكا في يناير/كانون الثاني 2023 مبادرة "كن إيجابي يا مصري"، بهدف دعم الاقتصاد المصري، وذلك من خلال تحويل 200 دولار من كل مصري بالخارج إلى البنك المركزي المصري.
كما دعا النائب عمرو هندي، عضو مجلس النواب، المصريين بالخارج لدعم الاقتصاد الوطني قائلاً: "المصريين بالخارج يصل عددهم تقريباً إلى 14 مليون لو كل شخص استثمر 200 دولار شهرياً هيفرق هذا المبلغ مع الوطن ويعود بالنفع على المواطن نفسه".
هذه المبادرات التي استبشر بها الإعلام المصري المقرب للنظام فتوقع أن حصيلة تحويلات المصريين بالخارج قد تصل إلى ٢٠٠ مليار جنيه باعتبار أن هناك ١٠ ملايين شخص على الأقل قد يقومون بتحويل ٢٠٠ دولار.
فيما انتشرت تصريحات منسوبة لبعض المسؤولين تشير إلى احتمالية فرض ضرائب واستقطاعات جديدة على أموال التحويلات، حيث بحسب تقرير طالب بهاء الدين أبو شقة وكيل مجلس الشيوخ المصري، في ٦ مارس/آذار 2023 بضرورة توافر منظومة قانونية بنصوص محددة وحاكمة من الدولة بالنسبة للمقيمين بالخارج، تكون الدولة على علم بمرتبات جميع العاملين بالخارج وأماكن عملهم، تمهيداً لتحصيل ضريبة جديدة عليهم، وأن يكون للدولة نسبة مئوية من رواتبهم كحق مقابل تربيتهم وتعليمهم قبل أن يسافروا.
هذه التصريحات أثارت بلبلة حتى إن "أبو شقة"، وكيل مجلس الشيوخ المصري، عاد ليوضح مقصده بعبارات أشد إثارة للقلق بأن حديثه لأبناء مصر بالخارج لم يكن بقصد إجبارهم على دفع الأموال، لكن من باب رد الجميل والوفاء للدولة التي لم يتأخّروا عنها من قبل، والتاريخ يشهد على مواقفهم الوطنية وإيثارهم لبلدهم على ما سواها.
تعديلات قانونية لجذب أموال المصريين بالخارج
قد سبق أن قامت الحكومة المصرية بعدة تعديلات قانونية ومبادرات تستهدف جذب أموال المصريين بالخارج، ليس آخرها مشروع إنشاء الشركة الاستثمارية للمصريين في الخارج، والتي سبقتها مبادرة سيارات المصريين في الخارج ومشروعات سكن المصريين في الخارج والشهادات الاستثمارية المخصصة لهم، إلا أنه لا تتوفر أية بيانات دقيقة تشير إلى إحداث تلك المبادرات زيادة كبيرة في تلك التحويلات.
ومن الواضح أن الإجراءات الحكومية المصرية لجذب أموال المصريين بالخارج لا تعدو كونها محاولة حكومية للاستفادة من تلك الأموال واستغلالها، وهو ما يولد حالة من الخوف والقلق في ضوء انعدام الثقة لدى غالبية المصريين بالخارج في الحكومة وأدائها الاقتصادي، وكذلك سياساتها في كافة المجالات.
إذ يغلب على قرارات المصريين بالخارج الحسابات العقلانية الدقيقة فيما يتعلق بالمال الذي لا يكتسبونه بسهولة كما أنهم يقارنون أداء الحكومة المصرية بأداء حكومات البلدان المضيفة، ويدركون الفرق الشاسع سواء في السياسات أو معاملة المواطنين، بالإضافة لذلك هناك خوف حقيقي لدى هؤلاء من مصير المودعين اللبنانيين.
في التحليل الأخير، فإن تركيز الحكومة مع تحويلات المصريين بالخارج كمصدر لحل أزمتها المتعلقة بالعملة وعجز ميزان المدفوعات، وما أثير حول استهداف تلك التحويلات سواء بالاستقطاع أو الضرائب أو التبرعات، أدى ذلك لتراجع كبير في التحويلات الرسمية، وليس بالضرورة أن تكون هذه التراجعات لصالح غير الرسمي، وإن كان جزء كبير منها يذهب عبر تلك الطرق.
لكن زيادة التحويلات مرتبطة بالزيادة إما في أعداد المصريين في الخارج أو زيادة أجورهم، وكلاهما أمر غير معلوم، لكن المعلوم أن البنوك في البلدان المضيفة أيضاً تستهدف أن يحتفظ هؤلاء بأموالهم لديها أطول فترة ممكنة، وللمفارقة فإن العديد من هذه البنوك تقدم لهم تسهيلات وضمانات أفضل بكثير مما تقدمه الحكومة والبنوك المصرية من فرص استثمارية وفوائد ومشروعات سكنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.