أيام معدودة تفصل العراق عن إجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة والمثيرة للجدل، فى 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، وهي الانتخابات التي جاءت بعد احتجاجات هائلة مناهضة للحكومة العراقية، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وتأجلت مرتين عن موعدها المفترض في العام الماضي.
وكان المحتجون طالبوا الحكومة بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، بدلاً من موعدها الأصلي المقرر في أبريل/نيسان 2022، اعتراضاً منهم على النخب السياسية العراقية التي تحكم البلاد من بعد الغزو الأمريكي في عام 2003.
وبينما كانت تحاول هذه النخب السياسية خاصة الشيعية، تأجيل الانتخابات أكثر من مرة، لاستعادة توازنها بعد الاحتجاجات، أو ما يطلق عليها العراقيون "انتفاضة تشرين"، كان رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، والذي تولى منصبه في مايو/أيار 2020، بعد استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي في نهاية عام 2019، نزولاً عن رغبة المحتجين، منشغلاً بتأمين ولاية ثانية له في المنصب، من خلال القيام بالعديد من المناورات الداخلية والإقليمية.
خلاف بين الفصائل السياسية والمسلحة الشيعية
استطاع الكاظمي خلال ما يزيد قليلاً عن عام فى منصبه، أن يحصل على الدعم الإقليمي والدولي، وهو ما سنفصله لاحقاً، في محاولة لانتزاع فترة ولاية ثانية لمدة أربع سنوات، لكن هذا لا يعنى ضماناً كاملاً لتولي المنصب لفترة مقبلة، فيجب على الكاظمي الحصول على الدعم الأكبر والأصعب: دعم الفصائل السياسية والمسلحة الشيعية.
وفقاً لعدد من المسؤولين والسياسيين الشيعة الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، فهناك انقسام كبير داخل الأوساط السياسية الشيعية والفصائل المسلحة المقربة من إيران، حول مسألة منح مصطفى الكاظمي فترة ولاية ثانية.
مسؤول حكومي شيعي يقول لـ"عربي بوست": "عندما يتحدث الكاظمي عن استقلاليته التامة عن الأحزاب الشيعية، فهذا الأمر يكون غير حقيقي، الرجل يعقد التحالفات والتفاهمات من حين لآخر مع النخب السياسية الشيعية، لضمان استمراره في منصبه".
يقول المصدر السابق لـ"عربي بوست"، إنه فى البداية حاول الكاظمي التحالف مع أكثر السياسيين الشيعة علمانيةً مثل حيدر العبادي، كي لا يتم احتسابه على الإسلام السياسي الشيعي، لكنه أدرك أن حيدر العبادي حتى مع تحالفه مع رجل الدين عمار الحكيم، يمثلان قوى سياسية ضعيفة، فاختار الانضمام إلى مقتدى الصدر.
وبحسب المسؤول الحكومي الشيعي، فإن رغبة الكاظمي في التحالف مع مقتدى الصدر، تأتي من منطلق تأمين قوة دافعة له فى البرلمان، فتحالف سائرون بزعامة رجل الدين الشيعي والسياسي البارز مقتدى الصدر، هو أكبر كتلة برلمانية في برلمان 2018، كما أن التحالف مع الصدر يوفر له حماية فى مواجهة الفصائل المسلحة الشيعية الموالية لإيران والمناهضة للكاظمي، فرجل الدين مقتدى الصدر يسيطر على واحدة من أكبر الفصائل الشيعية المسلحة فى العراق: سرايا السلام.
لكن فى المقابل، ينافس تحالف مقتدى الصدر فى البرلمان، تحالف فتح بقيادة هادي العامري، رئيس منظمة بدر المقربة من إيران، ويضم تحالف العامري أغلب الممثلين السياسيين للفصائل المسلحة العراقية المقربة من إيران والتي تعمل تحت قيادة هيئة الحشد الشعبي العراقي.
يقول مصدر سياسي مقرب من هادي العامري لـ"عربي بوست": "العامري لا يوافق على منح الكاظمي ولاية ثانية، ولا يقبل تحالف الصدر أو حيدر العبادي مع الكاظمي، لكن فكرة أن الإيرانيين يوافقون على منح الكاظمي ولاية ثانية، تزيد من الضغط على العامري للقبول بالأمر الواقع".
وبحسب المصدر ذاته، فإن كتائب حزب الله العراقية، وهي فصيل مسلح شيعي مقرب من إيران، تنضم لتحالف فتح في البرلمان، يوافق على منح الكاظمي ولاية ثانية، فيقول: "في البداية كانت الكتائب رافضة لهذا الأمر، لكن كما قلت سابقاً، بعد موافقة إيران على الكاظمي، أعلنوا قبولهم، على عكس عصائب أهل الحق، والنجباء، يرفضون تماماً الأمر".
فصيل عصائب أهل الحق والنجباء، من ضمن الفصائل المسلحة الشيعية الموالية لإيران في العراق، وكان عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، قد أعلن مراراً وتكراراً رفضه للكاظمي فى منصب رئيس الوزراء، وإلى الآن ما زالت وسائل الإعلام المحسوبة على الخزعلي تنتقد الكاظمي بشكل مستمر.
يقول قائد شبه عسكري فى فصيل عصائب أهل الحق لـ"عربي بوست": "لن نوافق إطلاقاً على منح الكاظمي ولاية ثانية، ولا علاقة لنا بموافقة الإيرانيين، لذلك سنخوض الانتخابات بشكل مستقل عن تحالف فتح، وسنكون غصة في خاصرة الكاظمي، إذا استطاع الاستمرار فى منصبه".
اجتماع لحسم الخلاف
فى الأيام القليلة الماضية، وعندما زادت الخلافات والانقسامات، بين البيت الشيعي حول مسألة استمرار مصطفى الكاظمي فى منصبه كرئيس للوزراء، توصلت النخب السياسية الشيعية العراقية، إلى عقد اجتماع يضم كافة الأحزاب السياسية والتي تضم ائتلاف دولة القانون بقيادة نوري المالكي، تحالف فتح، حركة عطاء، سائرون، ائتلاف النصر بقيادة حيدر العبادي، حزب الفضيلة الإسلامي، وتحالف القوى الوطنية بقيادة عمار الحكيم، من أجل بحث المسألة السابق ذكرها.
مصدر سياسي شيعي مطلع على هذا الاجتماع قال لـ"عربي بوست": "فى هذا الاجتماع حاولت النخبة السياسية الشيعية، التوصل إلى حل في مسألة السماح للكاظمي بالاستمرار فى منصبه، وتوصلوا إلى فكرة أن يتعهد الكاظمي بالتوقيع على وثيقة بالانضمام إلى إحدى الكتل البرلمانية الكبرى في البرلمان المقبل".
لكن وبحسب المصدر السابق، فإن نوري المالكي وحيدر العبادي رفضا هذا الأمر، فيقول: "فشل الاجتماع في تحقيق غايته، وهو حسم أمر منح الكاظمي ولاية ثانية من عدمه".
الكاظمي ومبادراته الجديدة للعراق
مصطفى الكاظمي الذي جاء من رئاسة جهاز المخابرات الوطني العراقي، وعمل في الصحافة في السابق، حاول منذ توليه منصب رئيس الوزراء، أن يظهر بصورة مختلفة تماماً عن أسلافه، الذين كان ينظر إليهم في أغلب الأوقات على أنهم ضعفاء، واقعون تحت سلطة الأحزاب السياسية الشيعية.
جاء مصطفى الكاظمي المستقل، وغير المحسوب على أي تيار أو جماعة سياسية، لتحقيق مطالب المحتجين وانتفاضة تشرين، وحاول في نفس الوقت، تحديد رؤية جديدة للعراق في عهده، ومحاولة الخروج من تبعية بلاده للجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومحاولة دمج بغداد في محيطها العربي الخليجي، وبناء صداقات استراتيجية مع البلاد العربية.
حاول تحقيق جزء من هذه الرؤية من خلال مشروع "المشرق الجديد"، وبناء علاقات وثيقة مع كلا من الأردن ومصر، هذا المشروع الذي من المفترض أن يضمن للعراق علاقات اقتصادية وسياسية جديدة، تعيده إلى قلب الأحداث في الشرق الأوسط.
يقول سياسي عراقي شيعي بارز لـ"عربي بوست"، إن الكاظمي أراد أن يصبح "مخلص العراق من النزاعات والتصعيد المستمر بين طهران وواشنطن"، مضيفاً أنه منذ اليوم الأول له في منصبه وهو يسعى لضمان ولاية ثانية وربما ثالثة.
وعلى ذكر الصراع بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والولايات المتحدة، والذي كان العراق مسرحاً دائماً له، حاول مصطفى الكاظمي تجنيب بلاده هذا الصراع الذي كان آخذاً في التصعيد، خاصة بعد اغتيال الولايات المتحدة للجنرال الإيراني البارز، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في يناير 2020، بواسطة طائرة بدون طيار، بالقرب من مطار بغداد الدولي.
واصل رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، تعزيز دور العراق الإقليمي، من خلال استضافة بغداد سلسلة من المحادثات بين الخصمين الإقليميين الشرسين، إيران والمملكة العربية السعودية، لتهيئة الأجواء بينهما لبداية انفراجة جديدة يكون للعراق، والكاظمي بصفة خاصة الفضل بها.
يقول مصدر مقرب من رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، لـ"عربي بوست": "الكاظمي يتمتع بعلاقة جيدة للغاية مع ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، هذه العلاقة أعطت الكاظمي سبباً قوياً للتوسط بين الرياض وطهران، الوساطة التي رحب بها البلدان".
ويضيف المصدر ذاته، قائلاً: "المحادثات الإيرانية السعودية، أعطت ثقلاً للكاظمي لدى الإيرانيين، واستطاع من خلالها كسب ثقتهم إلى حد ما، بعد أن كانوا مجبرين على الموافقة على توليه المنصب".
توج مصطفى الكاظمي دوره في رسم صورة إقليمية جديدة للعراق في ظل رئاسته لمجلس الوزراء، بعقد مؤتمر قمة بغداد في شهر أغسطس/آب الماضي، والذي كان يهدف من خلاله إلى جعل العراق محطة للتعاون الاستراتيجي بين بلدان المنطقة.
ومن خلال إلقاء نظرة على القادة الذين حضروا قمة بغداد، مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، العاهل الأردني الملك عبد الله، والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وهو الممثل الوحيد لأوروبا في هذه القمة، يمكن استنتاج مدى الدعم الإقليمي والدولي الذي استطاع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي انتزاعه، من أجل تمهيد طريقه لولاية ثانية.
يقول مصدر مقرب من الكاظمي، لـ"عربي بوست": "في البداية عندما طرح السيد الكاظمي أمر قمة بغداد، كان من الصعب التأكد من شأن حضور الأمير محمد بن سلمان، أو الرئيس الإيراني الجديد، إبراهيم رئيسي، لكن الكاظمي من خلال اتصالاته وعلاقاته الجيدة بجميع الأطراف الإقليمية، استطاع تأمين حضور تمثيل رفيع المستوى للدول الخليجية وإيران".
تجدر الإشارة إلى حضور كل من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ونائب رئيس الدولة وحاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ووزيري الخارجية السعودي والإيراني.
وبحسب المصدر المقرب من رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، فإن الشخصيات السابق ذكرها، كانت حتى وقت قريب جداً من انعقاد القمة لم تؤكد حضورها، فيقول: "كان هناك قلق كبير من فشل هذه القمة، لكن في النهاية تمكن الكاظمي من إنجاحها بشكل لائق، ففي اللحظات الأخيرة قرر عدد من القادة العرب الحضور، وبذلك استطاع الكاظمي إظهار دعمهم له أمام الجميع".
الدعم الأمريكي
لا يخفى على أحد أن منصب رئيس الوزراء في العراق، والذي يكون من نصيب المكون الشيعي، حسبما تم التعارف عليه منذ عام 2005، يجب أن يكون بموافقة واشنطن وطهران. ويتمتع الكاظمي بعلاقة طيبة مع الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن.
يقول سياسي عراقي شيعي بارز مقرب من هادي العامري رئيس منظمة بدر، ورئيس تحالف فتح في البرلمان العراقي: "الكاظمي صديق الأمريكان الوفي، منذ اليوم الأول له وهو ينفذ كافة مطالبهم في العراق، حتى عندما ضغطت عليه الفصائل المسلحة لإخراج القوات الأمريكية من العراق، نفذ رغبة الأمريكان، التي تتنافى مع مطلب الفصائل".
منذ اليوم الأول لتوليه منصبه، دخل مصطفى الكاظمي في صراع كبير مع الفصائل المسلحة الشيعية في العراق، والموالية لإيران، من أجل إخراج القوات الأمريكية من العراق. وتجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء يمكنه طلب هذا الأمر بشكل قانوني ومباشر من الولايات المتحدة، فقد فعل رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، الأمر نفسه في عام 2011، ووافق الرئيس الأمريكي حينها، باراك أوباما على سحب عدد كبير من القوات الأمريكية في العراق، ثم عاد جزء من هذه القوات في عام 2014، لمساعدة العراق في حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
يقول قائد شبه عسكري في فصيل كتائب حزب الله العراقية، وهو أحد أكبر وأهم الفصائل الشيعية المسلحة المقربة من إيران في العراق، لـ"عربي بوست": "في البداية رفض الكاظمي مطالبة واشنطن بسحب قواتها، طمعاً في كسب تأييد أمريكي له، ثم عندما اشتد الخناق عليه داخلياً، قال إنه شكل لجنة تنسيق مع الولايات المتحدة لجدولة الانسحاب الامريكي من العراق، ثم الآن لا شيء، ولم ينسحب الأمريكان".
وبحسب المصدر السابق، فإن الفصائل المسلحة العراقية المقربة من إيران، والمناهضة للكاظمي في كثير من الأحيان، ترى أن الكاظمي يستخدم بطاقة الانسحاب الأمريكي من البلاد، لكسب ولاية ثانية، فيقول: "يقول الكاظمي إنه اتفق مع الأمريكان على الانسحاب بنهاية العام الحالي، نعلم أنها مناورة لكسب ولاية ثانية، في رأيي الشخصي، إذا كان يستطيع ضمان حدوث الانسحاب بنهاية العام بالفعل، فلمَ لا؟ (منحه موافقة الفصائل المسلحة على ولاية ثانية)".
الدعم الإيراني
أما فيما يخص الدعم الإيراني لمصطفى الكاظمي، للحصول على فترة ولاية ثانية، فيمكن القول إنه قد حصل على موافقة ضمنية، بزيارة مفاجئة وغير مخطط لها مسبقاً، قام الكاظمي بزيارة طهران في توقيت حساس للغاية، قبيل أسابيع من الانتخابات البرلمانية العراقية، فسر الكثيرون في إيران والعراق، سبب الزيارة بأنها لضمان الحصول على دعم المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، لضمان ولاية ثانية للكاظمي.
ونتيجة لهذه التفسيرات والأقاويل، لم يرغب آية الله علي خامنئي، في التورط في موقف محرج، وهو لم يدعم من قبل بشكل مباشر أي رئيس وزراء عراقي، بل إنه لا يعلن دعمه مباشرة وبشكل صريح لأي مرشح رئاسي داخل الجمهورية الإسلامية.
لذلك لم يحظ الكاظمي بمقابلة آية الله علي خامنئي، على غير العادة، ولكنه حصل على رسالة بخط اليد من القائد الأعلى للجمهورية الاسلامية، بحسب مصدر مقرب من مكتب خامنئي، كان قد تحدث لـ"عربي بوست"، في تقرير سابق.
يقول مسؤول أمني إيراني، ومقرب من القيادة العليا في طهران، لـ"عربي بوست": "الكاظمي ليس برئيس الوزراء المفضل لدى القيادة الإيرانية، لكن نستطيع القول بصراحة، إنه استطاع تحقيق بعض المكاسب الهامة لإيران، وعلى رأسها المحادثات مع السعودية".
وعن سبب عدم كون مصطفى الكاظمي مرشحاً لرئاسة الوزراء، مفضلاً لدى الجمهورية الإسلامية يقول المسؤول الإيراني البارز في حديثه لـ"عربي بوست": "ترى طهران أن الكاظمي لم يحقق الهدف الأهم وهو طرد الأمريكان من العراق، كما أنه في صراع دائم مع فصائل المقاومة العراقية".
وبحسب المصدر ذاته، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كانت تفضل رئيس القضاء العراقي، فائق زيدان، لتولي منصب رئيس الوزراء العراقي، فيقول: "السيد زيدان يتمتع بعلاقات طيبة مع النخب السياسية الشيعية، لكننا لا نستطيع الجزم بأنه يستطيع الحصول على دعم كامل من جميع التيارات السياسية الشيعية".
إلى الآن، وحتى قبل أيام قليلة من الانتخابات البرلمانية في العراق، لم يتم حسم مسألة حصول مصطفى الكاظمي على ولاية ثانية، بين النخب السياسية والمسلحة الشيعية، وبالرغم من الدور الاستثنائي الذي لعبه الكاظمي، على عكس أسلافه، والذي يؤهله للفوز بولاية ثانية، إلا أنه من المحتمل أن تحمل نتائج الانتخابات المقرر إجراؤها في 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، الكثير من المفاجآت التي من الممكن أن تغير موازين القوى في البرلمان الجديد.