تسجّل الضفة الغربية منذ مطلع العام الجاري ارتفاعاً لافتاً في مستوى الجرائم الجنائية، في ظل انتشار فوضى السلاح، وزيادة مستويات الجريمة، ومؤشرات فقدان الأجهزة الأمنية السيطرة على هذا الوضع، ما بات تحدياً إضافياً يواجه السلطة الفلسطينية في الحفاظ على النسيج الأمني والمجتمعي داخل الضفة الغربية.
وتتحمل إسرائيل جزءاً كبيراً من المسؤولية وراء هذه الظاهرة عبر تعمدها تسهيل مرور الأسلحة إلى داخل الضفة الغربية، وهو ما يثير التساؤلات حول حقيقة هذا الأمر والهدف من ورائه، وإذا ما كان يتعلق بمحاولة إسقاط حكم الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ارتفاع نسبة جرائم القتل
أعلن المتحدث باسم جهاز الشرطة الفلسطينية العقيد لؤي إزريقات تسجيل زيادة بنسبة 43% في جرائم القتل خلال عام 2020، مقارنة بذات الفترة من العام الماضي بإجمالي 43 جريمة قتل، مقابل 25 حالة سجلت في عام 2019.
فيما كشف اللواء عبدالإله الأتيرة، مستشار رئيس الوزراء الفلسطيني، لـ"عربي بوست" أن عدد حالات القتل المسجلة في الضفة الغربية بما فيها مناطق القدس الشرقية "وصلت هذا العام إلى 59 جريمة قتل باستخدام السلاح غير المرخص".
هذه الأرقام رغم خطورتها، إلا أنها لا تعكس بالضرورة خطورة الحالة الأمنية بصورتها الكاملة، فإحصائيات جهاز الشرطة اقتصرت فقط على رصد حالات القتل، دون التطرق إلى ظاهرة انتشار السلاح بين العائلات وداخل المخيمات، وما ينجم عنه من ارتفاع في جرائم السرقة والسطو المسلح، وجرائم الشرف والثأر بين العائلات التي تتم بعيداً عن إطاره القانوني والقضائي.
كما شهدت الأسابيع الأخيرة سلسلة متلاحقة من حوادث إطلاق النار بين الفلسطينيين، راح ضحيتها قيادات وكوادر كبيرة من حركة فتح، كان آخرها مقتل المقدم في جهاز الأمن الوقائي عبدالسلام حنايشة في جنين على يد مجهولين، وسبقه مقتل خليل الشيخ شقيق عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حسين في مدينة رام الله أثناء فضّه إحدى المشكلات العائلية.
إسرائيل المسؤولة عن انتشار السلاح
وأضاف اللواء عبدالإله الأتيرة لـ"عربي بوست" أن السلاح المنتشر في الضفة الغربية يقع ضمن نطاقين: الأول سلاح شرعي للأجهزة الأمنية وحركة فتح، والثاني سلاح مهرّب خارج نطاق سيطرة الحكومة والذي تديره بعض العشائر وتجار المخدرات، وبعض العصابات.
وأوضح أن هذه العصابات تقوم بنشر الفوضى "بأوامر من مشبوهين في الداخل والخارج، بهدف إضعاف دور الحكومة والأجهزة الشرطية في ضبط الأمن في المخيمات وقرى الضفة الغربية"، على حد قوله.
وأكد أن مصدر السلاح المهرب يأتي بشكل رئيسي من إسرائيل، عبر عمليات تهريب منظمة تشرف عليها المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، تحديداً في مناطق (ب، ج) التي لا تتمتع الحكومة الفلسطينية بصلاحيات الوصول إليها بشكل كامل، بسبب التعقيدات الأمنية.
وذكر العقيد لؤي إرزيقات لـ"عربي بوست" أن الشرطة الفلسطينية ألقت خلال الفترة الماضية القبض على شبكات متعددة من تجار الأسلحة، وأثناء التحقيق تم التوصل إلى نتائج أولية تشير إلى أن تهريب الأسلحة يتم عبر نقاط حدودية بين مهربين فلسطينيين وإسرائيليين، يتركز عملهم في المناطق المصنفة (ج) ثم يقومون ببيع الأسلحة إلى المواطنين في المخيمات ومدن الضفة الغربية.
وأضاف: "قدمنا توصيات لرئيس السلطة بتغليظ العقوبة المفروضة على هذا النوع من التجارة الغير مشروعة، ونأمل حتى بداية العام القادم أن نقلص كميات الأسلحة التي يتم تهريبها، حتى يتم حصر الأسلحة غير المرخصة داخل القرى والمخيمات، بما يحقق الأمن والسلم الأهلي ويحفظ المجتمع من فوضى السلاح".
وفي الأول من أيلول/سبتمبر 2020 أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس قراراً بقانون يتم بموجبه تعظيم العقوبة المفروضة على حيازة السلاح غير المرخص أو استعماله أو تصنيعه أو تهريبه بفرض غرامات مالية والسجن لمن يثبت تورّطه في هذه الجرائم، الأمر الذي يعكس خطورة ما تمر به الضفة الغربية من تفشي السلاح غير المرخص وقلق السلطة الفلسطينية من هذا الوضع.
ما هدف إسرائيل؟
يطرح اتهام السلطة الفلسطينية لإسرائيل بالمسؤولية عن الوقوف خلف تهريب الأسلحة إلى داخل الضفة الغربية الكثير من التساؤلات عن أهدافها الكامنة وراء زج الضفة الغربية بالأسلحة، في ظل توتر العلاقات السياسية بين الطرفين، التي ترجمت إلى خفض السلطة مستوى التنسيق الأمني مع إسرائيل بسبب صفقة القرن الأمريكية، وزيادة الحديث الإسرائيلي عن التحضير لمرحلة ما بعد الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
حسن خريشة، نائب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، قال لـ"عربي بوست" إن ظاهرة انتشار السلاح في الضفة نتيجة لتجارة بين شخصيات نافذة في السلطة وتجار السلاح الذين يهربونه من إسرائيل، وتكديس السلاح بالشكل الذي نراه الآن في المخيمات الفلسطينية، مرتبط بحسابات داخلية والتحضير لوراثة الرئيس الحالي محمود عباس.
وتراقب إسرائيل عن كثب ما يجري في الضفة الغربية من احتدام الصراع بين قيادات اللجنة المركزية لحركة فتح، التي تتهيأ لأي فرصة سانحة للانقضاض على منصب الرئاسة الفلسطينية، وقد باتت حديثاً شاغلاً للأوساط الفلسطينية والدولية في حال اضطر الرئيس محمود عباس لترك منصبه تحت أي ظرف كان، سواء بسبب وضعه الصحي، ووصوله لمنتصف الثمانينات من العمر، أو في حال تم فرض أحد الأسماء من قبل الإدارة الأمريكية والإسرائيلية، كما ألمح بذلك السفير الأمريكي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، قبل أسابيع قليلة عن ترشيح محمد دحلان لهذا الموقع.
علاء الريماوي، الصحفي الفلسطيني من الضفة الغربية، قال لـ"عربي بوست": "إننا بتنا نلحظ بصورة لا تخطئها العين وقوف إسرائيل خلف عمليات تهريب السلاح بشكل جليّ في السنوات الخمس الأخيرة، حيث تقف مسؤولية إسرائيل عن هذا الملف عبر عدة أشكال أبرزها، تسهيل عمليات تهريب وتجارة السلاح، والسماح بتكوين جماعات مسلحة على شكل (ميليشيات) تديرها وتوجهها إسرائيل لخدمة أهدافها الأمنية".
انتشار السلاح بين رجال فتح
وأكد أن هناك ظاهرة أصبحت واضحة في الضفة الغربية، وتتمثل بالسماح للعشائر والعائلات بحمل السلاح لتكوين سلطة موازية كبديل محتمل للأجهزة الأمنية، خشية أن يؤدي أي ظرف سياسي غير متوقع، مثل تغيير محتمل في القيادة الفلسطينية، إلى اشتباك مسلح بين عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية والإسرائيلية، كما تسعى إسرائيل من وراء ذلك لإنهاك الحالة الفلسطينية بالمشاكل الداخلية، لثنيها عن أي خطوات خارجية قد تضر بالمصالح الإسرائيلية مستقبلاً.
ويأتي هذا في وقت يجري فيه صراع خفي بين أقطاب حركة فتح، لدرجة أن كل قطب له ميليشياته المدججة بالسلاح لاستخدامه في أي صراع قد ينشب بعد رحيل عباس في إطار "معركة الخلافة".
وكانت تقارير أمنية صدرت عن جهاز "الشاباك" الإسرائيلي قد كشفت عن أن قطعاً من السلاح الخاص بالسلطة الفلسطينية، قد انتقلت خلسةً لجهة غير معلومة، وأن الجهاز يبحث عن المكان الذي خرجت إليه هذه الأسلحة والغاية منها.. وذلك في تلميح إلى أن قوىً بالسلطة وفتح، تزيد وتيرة جمع السلاح لتقوية نفوذ كل منها.
ويقول الباحث في معهد "الأمن القومي" الإسرائيلي عنان وهبة إن هناك أقطاباً في فتح مثل: جبريل الرجوب، وحسين الشيخ، ومحمود العالول، لهم قوة داخلية في "فتح" لكنهم يفتقدون التزكية والدعم الإقليمي والأمريكي، أما محمد دحلان فهو الذي يمتلك هذا العامل. لكنّ وهبة يشدد على أن محمود عباس لن يُستبدل الآن، وإنما الحديث يدور عن ترتيب المرحلة التي تليه بعد لحظة رحيله عن السلطة.
جرائم إطلاق النار في ازدياد
على مستوى آخر، تسجل الضفة الغربية بشكل متزايد معدلات جرائم إطلاق النار التي تستهدف منشآت ومؤسسات مدنية كالبنوك والصرافات المالية، إذ شهدت العديد من حالات إطلاق النار من مجهولين استهدفوا مصارف ومحلات حوالات مالية في أنحاء متفرقة خلال العام الجاري.
وطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان الحكومة الفلسطينية بضرورة اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد مطلقي النار، والحد من ظاهرة انتشار السلاح، واتخاذ خطوات للعمل على فرض سيادة القانون، لما له من آثار وتداعيات تهدد السلم الأهلي في الضفة الغربية.
تواصَل "عربي بوست" مع العميد غسان نمر، المتحدث باسم الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، للتعليق على ظاهرة ارتفاع مستوى جرائم إطلاق النار وانتشار السلاح غير المرخص، لكنه اكتفى بالقول إن "هنالك اهتماماً من أعلى المستويات من الأجهزة الأمنية والحكومة الفلسطينية لمعالجة هذه الظاهرة"، دون إعطاء مزيد من التفاصيل.
يوسف الشرقاوي، اللواء والخبير المتقاعد والمختص في الشؤون الأمنية والعسكرية، قال لـ"عربي بوست" إن "انتشار السلاح بهذا الشكل في الضفة الغربية أضعف بشكل كبير من مسؤولية السلطة الفلسطينية على القيام بدورها، حيث لم تعد قادرة على مواجهة جماعات ضغط موازية كقيادات متنفذة في السلطة، أو من خلال ظهور "سلطة العشائر"، ما يؤدي بالضرورة إلى سعي إسرائيل لتمزيق الوحدة الجغرافية للأراضي الفلسطينية، وترك مسؤولية الأمن والإشراف عليه لجماعات تعينها، وتوجهها إسرائيل من الخارج".