بينما تتقاضى القيادات 20 ألف دولار شهرياً.. لماذا تتوقف السلطة الفلسطينية عن دفع رواتب موظفيها مجدداً؟

عدد القراءات
601
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/24 الساعة 13:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/24 الساعة 13:57 بتوقيت غرينتش
موظفو السلطة الفلسطينية / رويترز

يعاني الاقتصاد الفسطيني حالياً من أزمات متداخلة ناتجة عن عدد من العوامل، التي أهمها تفشي فايروس كورونا، وسياسات الإغلاق التي اتُّخذت للحد من انتشاره. هذا، وبالإضافة إلى ذلك، فإن السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة أعلنت عن وقف تسلُّم أموال المقاصة – عوائد الجمارك والضرائب التي تجنيها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية مقابل نسبة منها – بسبب إعلان إسرائيل نيتها ضم معظم الضفة الغربية، حيث جاءت تلك الخطوة في سياق وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة وإسرائيل.

 وأريد أن أنوه هنا بأن السلطة الفلسطينية كانت قد امتنعت مسبقاً عن تسلم أموال المقاصة لمدة 8 شهور، من فبراير/شباط وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2019، بسبب إقدام إسرائيل على خصم جزء من تلك الأموال بحجة أن السلطة الفلسطينية تمول الإرهاب من خلال دفع رواتب لعوائل الشهداء والأسرى. وانفرجت تلك الأزمة بقبول السلطة تسلم جزء من المقاصة في أكتوبر/تشرين الأول 2019، مع استمرار المطالبة بالباقي وإحالته للجان الفنية للتفاوض عليه مع الجانب الإسرائيلي.

وما كاد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية يتنفس الصعداء مع انفراج هذه الأزمة حتى دخل في دوامة أزمة كورونا المستمرة. ولم يطل الوقت حتى عادت السلطة الفلسطينية بعدها لوقف تسلُّم أموال المقاصة مجدداً، كما أسلفنا بداية.

تحظى أموال المقاصة بأهمية بالغة للسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني من ورائها؛ كونها تشكل أكثر من 65% من موازنة السلطة الفلسطينية، وخصوصاً في ظل تراجع المساعدات والمنح الخارجية للسلطة الفلسطينية. وتذهب معظم موازنة السلطة الفلسطينية لتغطية رواتب جهازها البيروقراطي والأمني المتضخم، حيث يفوق عدد موظفي القطاع العام الفلسطيني 150 ألف موظف، عدا عن المتقاعدين والحالات الاجتماعية والأسرى وغيرهم ممن يتلقون معاشات دائمة من السلطة الفلسطينية.

وتدرك السلطة حساسية وخطورة توقف إسرائيل عن تحويل أموال المقاصة؛ لأنها تستخدمها كأداة عقاب للسلطة الفلسطينية إذا ما خالفت التوجهات الإسرائيلية. ففي عام 2014 مثلاً، قررت إسرائيل وقف تحويل المقاصة للسلطة الفلسطينية بسبب قيام السلطة بالانضمام لعدد من المنظمات والمعاهدات الدولية. وبشكل عام، فإن وسائل العقاب المالي تعد من أنجع الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وهذا ناتج عن تضخم الجهاز البيروقراطي الفلسطيني وارتباطه الوثيق بمصادر تمويل خارجية أو تتحكم فيها إسرائيل. وحسب دراسات، فقد انقطعت رواتب موظفي السلطة الفلسطينية أو تعثرت 10 مرات منذ عام 1994.[1]

إلا أن الجديد في آخر مرتين من انقطاع الرواتب هو قيام السلطة الفلسطينية باستخدام هذه الوسيلة؛ وذلك للضغط على إسرائيل أو الاحتجاج على سياساتها. يبدو هذا الأمر غريباً بشدة، إذ إن السلطة تستخدم سلاح عدوها نيابة عنه ضد نفسها. فكما أشرنا سابقاً، تقوم إسرائيل بوقف تحويل أموال المقاصة للسلطة كخطوة عقابية، فما المنطق في أن نواجه الاحتلال وسياساته بعقاب أنفسنا؟

تعبر هذه الخطوة، في الواقع، عن إفلاس سياسي خطير لدى قيادة السلطة الفلسطينية. فقد كانت السلطة الفلسطينية فيما سبق تلوح بورقة الذهاب للأمم المتحدة ومجلس الأمن ثم بالانضمام للمنظمات الدولية كرد على تعنت إسرائيل في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، هذا في ظل أن استراتيجيتها الوحيدة هي العمل السلمي من خلال المفاوضات. لم تعد تلك الخطوات تجدي نفعاً في ردع إسرائيل أو في إقناع الشعب الفلسطيني بدور السلطة في مواجهة السياسات الإسرائيلية؛ لذلك انتقلت السلطة إلى العزف على وتر وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل ووقف التنسيق الأمني معها. فقد أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس نيته ما يقارب 30 مرة وقف التنسيق الأمني، إلا أن ذلك لم يحدث البتة.

وبعد الإعلان عن "صفقة القرن" ثم إعلان الحكومة الإسرائيلية نيتها ضم أجزاء من الضفة الغربية أعلنت السلطة الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل. ومع أن إسرائيل قد تجاوزت وتنصلت من كل الاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية بشكل أو بآخر، إلا أن خطوة السلطة غير منطقية بالمطلق. فالسلطة الفلسطينية نشأت ضمن "اتفاق أوسلو" وما تبعه، مما يعني أن وقف الاتفاقيات مع إسرائيل يجب أن يتضمن حل السلطة ذاتها. ولكن السلطة اكتفت بوقف تسلُّم المقاصة ووقف التنسيق الأمني.

ولكن التنسيق الأمني لم يتوقف فعلياً، وفي تقديري أن مسألة وقف التنسيق الأمني مستحيلة. فقعب إعلان السلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني أدلى الوزير حسين الشيخ رئيس هيئة المدنية، المكلفة بالتنسيق مع الإسرائيليين، بتصريح أكد فيه أن الأجهزة الأمنية ستمنع أي أحد من تنفيذ عمليات ضد إسرائيل، وأنها ستجد وسيلة لمنع من يستطيع الوصول لإسرائيل لتنفيذ عملية، حيث إن السلطة ليست عدمية ولا تريد الفوضى. والسؤال هنا هو ماذا يعني التنسيق الأمني أكثر من ذلك؟

وفي المحصلة بقيت الخطوة الوحيدة للتعبير عن وقف العمل بالاتفاقيات هي عدم تسلُّم أموال المقاصة. وهنا عاد الشعب الفلسطيني، وخصوصاً موظفي السلطة، لدوامة الأزمات الاقتصادية. قد لا تبدو هذه الأزمة مهمة في ظل الأزمات السياسية، وقد لا تبدو مهمة لقيادة وكبار موظفي السلطة الذين لا يؤثر عليهم توقف الرواتب بضعة شهور؛ الذين يتقاضى بعضهم رواتب تصل إلى أكثر من 20 ألف دولار شهرياً حسب بعض البيانات. من المؤكد أن هذا الرقم كارثي في بلد الحد الأدنى للأجور فيه هو 1450 شيكلاً إسرائيلياً، أي ما يعادل قرابة 400 دولار أمريكي.

ومما يزيد الطين بلة أن غالبية الموظفين غارقون في القروض والشيكات البنكية، وبالكاد تكفي رواتبهم الأصلية للوفاء بالتزاماتهم الشهرية من قروض ومعيشة. ففي عام 2019 كتب الفلسطينيون شيكات بقيمة 11.4 مليار دولار، بلغت نسبة الشيكات المرتجعة، أي التي عجز أصحابها عن سدادها، نحو 1.125 مليار دولار.

 وقد زادت نسبة الشيكات المرتجعة بشكل كبير خلال العام الجاري نتيجة للأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي مُني بها الفلسطينيون. تُظهر هذه الأرقام حجم الانخراط الشعبي في الديون والقروض، كما تظهر أيضاً أن الموظفين هم الفئة الأكثر غرقاً وتأثراً في الديون، فالسياسة الائتمانية تقوم على ضرورة أن يكون المقترض موظفاً أو يكفله موظف حتى يتمكن من الحصول على القرض.

وعندما تعجز السلطة الفلسطينية عن سداد رواتب موظفيها، فإنها بذلك تزيد الضغوط والأعباء الاقتصادية عليهم.  وهنا أريد أن أقتبس كلاماً لأحد الموظفين عن الصعوبات الحياتية التي يواجهها جراء عدم سداد السلطة لفاتورة رواتبها، حيث كتب على صفحته الشخصية على فيسبوك:

"بالنسبة لصبر الموظفين فعلاً صمدنا وصبرنا… بس يا أخي حد يفهم جرة الغاز تصبر وفاتورة الكهربا كمان بالنسبة لإيجار الدار مش راضي يصبر أما القرض تبع البنك فهو حالف ما يصبر وبالنسبة للشيكات لسا ما حسمت قرارها… أما مصاريف البيت من حليب وبامبرز وأكل وديواليك هيني بحاول أقنعهم يصبروا… أما صحابي اللي داينوني فهم الوحيدين اللي صبروا بس مثلاً غرفة نومي والله راحت ضحية صبر صاحب البيت ع الإيجار… عن أي صبر تتحدثون؟! يمكن صبر فقوعة… الله يصبرنا بس…".

ربما يعكس هذا الموظف حال عشرات آلاف الموظفين الذين يتحملون هذه الصعوبات وحدهم تقريباً؛ نتيجة إفلاس السلطة الفلسطينية السياسي وعدم امتلاكها لأية أوراق ضغط على إسرائيل. وعن جدوى خطوة عدم تسلُّم أموال المقاصة، فنحن لم نرَ لها أية فائدة ولا نتيجة، فالسلطة تراجعت سابقاً عن عدم تسلُّم أموال المقاصة عام 2019 دون أن تحقق هدفها في تسلُّم أموال المقاصة كاملة، بدون خصم ما يذهب للشهداء والأسرى. ولم نرَ أنها أوقفت الضم أو أجبرت إسرائيل على التراجع عن سياساتها الاستيطانية والتوسعية.

كان من المنطقي لو أن السلطة الفلسطينية تقوم بعدم دفع رواتب موظفيها حتى تزيد الضغط الشعبي لعله ينفجر في وجه إسرائيل، ولكن السلطة لا تريد انفجارا شعبيا؛ لأن هذا الانفجار والفوضى الناتجة عنه سيوجه في البداية ضد السلطة الفلسطينية ذاتها. والسلطة الفلسطينية غير معنية بحالة فلتان وفوضى قد تفقدها السيطرة على الوضع، وهذا ما عبرت عنه تصريحات الوزير حسين الشيخ. ولذلك تقوم السلطة بسداد جزء من رواتب الموظفين مما يبقيهم قادرين على إيجاد قوت يومهم، من خلال الاقتراض من البنوك المحلية أو الدول المانحة.

إن الخطير في خطوة السلطة الفلسطينية هذه هي أنها تأتي بنتائج عكسية على المستوى الشعبي. فأزمة رواتب الموظفين لا تبقى محصورة في الموظفين بل تمتد لتشمل كافة القطاعات الاقتصادية؛ لأن الاقتصاد الفلسطيني برمته يعتمد بشكل رئيسي على دعامتين اثنتين للإبقاء على دوران عجلته، وهما: رواتب موظفي السلطة الفلسطينية، والأجور التي يجنيها العمال الفلسطينيون في السوق الإسرائيلية. وتوقف إحدى هاتين الدعامتين عن ضخ المال في السوق يعني ركوداً لمجمل الاقتصاد الفلسطيني، وخصوصاً في ظل الأوضاع الحالية المأزومة أصلاً بفعل فيروس كورونا وتوقف قطاع السياحة وهشاشة قطاعي الزراعة والصناعة الفلسطينيين.

ونتيجة لذلك، فإن الفلسطينيين في الضفة الغربية سيصبحون متقبلين لأطروحات السلام الاقتصادي، وستزداد حالة الاغتراب على المستوى الشعبي، بحيث تصبح القضايا الوطنية غير ذات معنى بالنسبة للموظف والعامل الغارق في ديونه وشيكاته وتأمين قوت يومها. هذا في ضوء أن قرار وقف تسلّم أموال المقاصة يمس الموظف بالدرجة الأولى قبل أي أحد، ولكنه لا رأي ولا علاقة له باتخاذ ذلك القرار أو التراجع عنه، كما أنه أيضاً لا يرى أي جدوى أو نتيجة لتلك الخطوة على المستوى الوطني.

وعليه، فإن السلطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية فشلها السياسي في مواجهة الاحتلال، وتتحمل جزءاً كبيراً من عملية تشويه الاقتصاد الفلسطيني وجعله مربوطاً بمصادر تمويل خارجية تتحكم فيها إسرائيل، حيث إنها عملت على بناء جهاز بيروقراطي ضخم جداً وإغراق الشعب في الديون والشيكات من خلال منطق الاقتصاد النيوليبرالي. ولذلك فإنها لا تستطيع أن تسحق طبقات كاملة من الشعب الفلسطيني بحجة الثوابت والقضايا الوطنية بينما كبار مسؤوليها وموظفيها تزداد امتيازاتهم وأرباحهم.

على السلطة الفلسطينية أن تجد وسائل نضال أخرى تواجه بها إسرائيل غير سيف الموظفين المشلول المنهك الذي تضرب به إسرائيل فترتد الضربة بشكل قاصم على الشعب الفلسطيني.

المصادر:

[1] رواتب موظفي السلطة مجددًا.. إشكالية الأزمة وجذورها

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

كريم قرط
باحث في الدراسات السياسية والاستراتيجية
باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية برام الله
تحميل المزيد