بعد زيارته للجزائر ثم للمغرب أواخر شهر يوليو الماضي وأثناء زيارته للأردن دعا عقيلة صالح إلى تشكيل مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية في ليبيا، ثم تسارعت وتيرة الأحداث قليلاً باجتماعات مكوكية بين مسؤولين روس وأتراك وأمريكيين للدفع باتجاه التهدئة واستئناف عمليات إنتاج النفط، ثم زيارة لوزيري دفاع تركيا وقطر واتصالات أمريكية بروسيا للتوصل لتهدئة وصولاً لبيان حكومة الوفاق الوطني في العشرين من أغسطس الجاري، نحاول في هذا الموضوع البحث في ما وراء اقتراح عقيلة صالح سرت مقراً موحداً للحكومة؟ هل انطفأت نار الحرب؟ هل تعقد صفقة قريباً؟ أين حفتر والعسكريين وما دورهم في المستقبل؟
عقيلة صالح واقتراح سرت مقراً موحداً للحكومة
منذ الهزائم المتتالية لقوات حفتر في الغرب الليبي في أبريل الماضي ويبدو معسكره شديد التفكك، كما أن حلفائه الإقليميون والدوليون يبحثون عن بديل له، فبينما صعدت مصر نجم عقيلة صالح وبدت معتمدة أكثر على شيوخ القبائل الليبية كما بدا في لقاءات السيسي بشأن ليبيا عقب سلسلة الهزائم تلك، فإن روسيا بدأت تبحث عن بقايا نظام القذافي وتتوجه شركاتها الأمنية الفاعلة على الأرض الليبية مثل فاغنر للسيطرة على عملية تأمين حقول النفط في محور سرت والجفرة المعروفة بمنطقة الهلال النفطي مستفيدة من عملية وقف إنتاج النفط التي قام بها حفتر سابقاً في يناير الماضي.
منذ تلك الهزائم قاد عقيلة صالح سلسلة جولات مكوكية للوصول لتهدئة حقيقية في مناخ بدت فيه حكومة الوفاق وحلفائها الأتراك متحفزين لإنهاء المعركة والسيطرة على سرت والجفرة سلماً أو حرباً، فكانت زيارته للجزائر في 13 يونيو ثم في 18 يوليو وللمغرب في 27 يوليو ثم للأردن في التاسع والعشرين من الشهر ذاته بداية لإطلاق سلسلة محفزات للتهدئة، ومحاولات لتعديل اتفاق الصخيرات والترويج لمبادرته التي كررها في أكثر من مناسبة، التي تتضمن مجلساً رئاسياً جديداً، وحلاً سياسياً، ينتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، معتبراً إياها تروم إيجاد حل للأزمة في بلاده لا يتعارض مع اتفاق الصخيرات.
في الأردن خلال لقاء جمعه في عمَّان برئيس البرلمان الأردني عاطف الطراونة، اقترح عقيلة صالح إقامة حكومة موحدة وهو المطلب الذي كان موجوداً في اتفاق الصخيرات ورفض صالح والأعضاء المنشقون عن البرلمان والمتخذون من طبرق مقرا له إعطائها الثقة ولاحقاً برروا أن صالح كان يحضر اتفاق الصخيرات بصفته الشخصية وليس بصفته السياسية. لكن الجديد هذه المرة هو أنه يقترح أن يتم تغيير مقر الحكومة ليكون في سرت وهو حل يبدو جيداً وخروجاً من مأزق مساعي الطرفين للسيطرة على سرت، لكنه يفتقد لأية لآليات التنفيذ، إذ لكي تقوم حكومة موحّدة يفترض حل كافة المؤسسات المنبثقة عن اتفاق الصخيرات.
إعلان وقف إطلاق النار هل هو بداية لتهدئة طويلة الأمد؟
في السابع عشر من أغسطس الجاري أعلن عن زيارة خاطفة لوزيري دفاع تركيا وقطر للتباحث مع مسؤولي حكومة الوفاق ولمتابعة الخطوات التي اتخذت حتى الآن لإنشاء القاعدة البحرية التركية في مصراتة، والقاعدة العسكرية التركية في قاعدة الوطية الجوية، جنوب طرابلس. بعدها تواصلت الإدارة الأمريكية مع مسؤولين أتراك وروس وليبيين للتهدئة، وفي 21 من أغسطس الجاري أعلنت حكومة الوفاق الوطني الليبية عن وقف فوري لإطلاق النار في ليبيا وتعليق العمليات العسكرية، وجاء في البيان الصادر عن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج "انطلاقاً من مسؤوليته السياسية والوطنية، وما يفرضه الوضع الحالي الذي تمر به البلاد والمنطقة وظروف الجائحة، يصدر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني تعليماته لجميع القوات العسكرية بالوقف الفوري لإطلاق النار وكافة العمليات القتالية في كل الأراضي الليبية".
ثم أعقبه إعلان من عقيلة صالح بذات التاريخ يصبّ في ذات الاتجاه "يطلب رئيس مجلس النواب من الجميع الوقف الفوري لإطلاق النار وكافة العمليات القتالية في جميع أنحاء البلاد"، ويضيف بيان صالح أنه يتطلع لأن يكون هذا الوقف لإطلاق النار مقدمة لجعل سرت مقراً مؤقتاً للمجلس الرئاسي الجديد ولتوحيد مؤسسات الدولة كمرحلة توافقية لاستكمال مسار برلين (5+5) واستئناف إنتاج وتصدير النفط. لكن التصريحات السابقة للمتحدث العسكري باسم حفتر أحمد المسماري التي تسبق الإعلان بساعات قليلة تشير إلى انعدام التنسيق مع حفتر وقواته وحرس المنشآت النفطية سواء من ميليشياته أو من المرتزقة الروس والمقاتلين الأجانب الذين يسيطرون فعلياً على العديد من الحقول النفطية، حيث صرح المسماري في ظهر اليوم نفسه في مداخلة لقناة الحدث أن أية ترتيبات لن تتضمن أكثر من تصدير المخزون النفطي المعد للتصدير في الموانئ ولن تشمل أي إنتاج من الآبار باعتبار وقف إنتاج النفط قراراً لما يسمى "الجيش الوطني الليبي" والقبائل الموالية له.
ورغم الترحيب الدولي والأممي بهذا الإعلان، فإنه يجب التنبه أن هذا الموقف وإن كان قادماً من حكومة الوفاق في موضع قوة، فإنه جاء من الطرف الأضعف في الشرق الليبي وهو البرلمان الذي سبق وأن وصف العسكريون توقيع رئيسه صالح على اتفاق الصخيرات بأنه توقيع شخصي ولا يمثل البرلمان أو عملية الكرامة، ولم يأت من حفتر ولا الناطق الرسمي باسمه، صحيح أنه جاء تحت وطأة انتشار فيروس كورونا بوتيرة متسارعة والضغوط المالية التي فرضها وقف تصدير النفط إلا أن التفاصيل السياسية المختلف عليها في الأزمة الليبية شديدة التعقيد وأعمق من مجرد إعلان وقف إطلاق النار. فقد سبق إعلان وقف إطلاق النار بعد توافق روسي تركي قبيل مؤتمر برلين لكن سرعان من نقضه حفتر متحججا أنه لم يوقع على اتفاق برلين أو موسكو ثم تلاها التصعيد الذي خسر بموجبه معظم المدن في الغرب الليبي.
ما سر ظهور سيف الاسلام القذافي؟
بينما رأي البعض أن ظهور سيف الإسلام القذافي في المشهد الليبي في 2018 بإعلانه نيته الترشح للانتخابات الرئاسية حال انعقادها، يمثل أحد أوراق فرنسا في مواجهة النفوذ التركي والنفوذ الروسي في آن واحد، فإن تحليلات أخرى تشير إلى أن إعادته للظهور مرة أخرى هي إرادة روسية لتصعيده باعتبار أن نظام القذافي كان حليفاً لروسيا، لكن يمثل سيف الإسلام القذافي تياراً يعبر عن بعض القبائل الليبية والفيدراليين وبقايا النظام السابق، وهم مستاؤون من طريقة إدارة حفتر للمعارك والموارد في الشرق والوسط الليبي، ومستاؤون من تدهور الأوضاع بشكل عام جراء توقف إنتاج وتصدير النفط كما أن استياءً متزايداً من نشاط الميليشيات في محيط آبار النفط بدأ في التسرب إلى بعض الداعمين المحليين لحفتر، يعول المسؤولون الروس على عقيلة صالح وبعض رموز نظام القذافي سواء في تأمين مصالح شركاتهم النفطية والعسكرية في ليبيا أو كضامن لأية توافقات مع تركيا لتحجيم النفوذ الأوروبي في ليبيا وهو الهدف الروسي الأهم، يتناقض هذا الهدف مع بعض أهداف الناتو التي ترغب بتوافق يخرج روسيا من ليبيا بشكل كامل ولا يتضمن أية قواعد لها.
لكن إعادة بعض رموز نظام القذافي للظهور ربما سرع من سعي عقيلة صالح وفريق من البرلمانيين التابعين له لبناء مسار متمايز عن المسار العسكري لحفتر وللتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار والتهدئة تمهيداً لحل سياسي، بعدما فشلت عدة محاولات عسكرية لحفتر للسيطرة على العاصمة وكامل التراب الليبي، وأصبح الرجل لا يطمح لأكثر مما كان عليه وضعه عشية الانقلاب الأول لحفتر بأن يكون رئيس برلمان موحد لليبيا بدلاً من أن يصبح رئيساً لبرلمان منشق من ثلاثين عضواً، فيما الأغلبية البرلمانية قابعة في طرابلس، ويحاول الرجل جر الصراع إلى المسائل السياسية والدستورية وهي اللغة التي يجيدها.
في التحليل الأخير فإن التهدئة مطلوبة بقوة للتصدي لجائحة كورونا التي بدأت في الانتشار الواسع بليبيا وتردي الخدمات العامة المتعلقة بالكهرباء والصحة والبنية التحتية وهي نتاج جيد لجهود كبيرة، لكن إن توافقت حكومة الوفاق على بعض مقترحات عقيلة صالح لنقل مقر الحكومة والمجلس الرئاسي إلى سرت فإن هذا قد يعني إنهاءً جزئياً للأزمة باعتبار أن الوفاق بسطت سيطرتها سلماً على سرت والجفرة وحققت هدفا رئيسيا هو استئناف إنتاج وتصدير النفط المصدر الرئيسي للبلاد، وحتى مع الترتيبات المالية المتفق عليها بتجميد الأموال في حساب خارجي للمؤسسة الوطنية للنفط فإن الطرف العسكري في الشرق الليبي قد يعتبر هذا تراجعاً مجانياً من قبل صالح للوفاق، وهو أمر تؤيده تصريحات المسماري وغيرها والتي تصب باتجاه البحث عن دور للعسكريين في الشرق في أي تسوية ممكنة، كما أن تصريحات السراج اللاحقة على إعلان وقف إطلاق النار تروج له باعتباره انتصاراً، ونظل إزاء اتفاقات هشة لا ضامن لها سوى معطيات القوة على الأرض ومصالح الأطراف الإقليمية المتضاربة، لكن تبدو هذه المبادرة الأقرب لبداية الحل خاصة إذا قرأت في ضوء التوافق التركي الروسي الأمريكي الأوروبي على أهمية عودة إنتاج النفط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.