لدى الإعلان عن الاتفاق الإماراتي ـ الإسرائيلي، مؤخراً، خطر على بالي كتاب كان طرحه شيمون بيريز قبل حوالي ثلاثة عقود (مطلع التسعينيات)، واسمه "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، كان ضمّنه شرحاً لفكرته عن التكامل بين "اليد العاملة العربية، والمال الخليجي، والعبقرية الإسرائيلية". وعلى ما تنطوي عليه تلك المعادلة من فوقية وعنصرية، فإنها كانت تخفي في طياتها، أيضاً، مسألتين أساسيتين، الأولى، دعوة الأنظمة العربية للاعتراف بإسرائيل والقبول بها، بغض النظر عن انسحابها من الأراضي المحتلة (1976)، على الأقل، من عدم ذلك. والثانية، طموح إسرائيل لتعزيز مكانتها، أو هيمنتها، في منطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا، من الناحية الاقتصادية، مع تعاون في مجال البنى التحتية (طرق ومواصلات وكهرباء وماء وبيئة ومصارف)، وفي مجال التبادل التجاري، وإقامة مشاريع اقتصادية مشتركة.
وفي الحقيقة فإن شيمون بيريز كان يتوخى وقتها الاستفادة من المناخات الدولية والإقليمية الجديدة، بعد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي (إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق) والإقليمي (بعد حرب إخراج نظام صدام من الكويت)، لإزاحة مكانة القضية الفلسطينية من جدول الأعمال العربي والدولي (في مناخات الانتفاضة الشعبية الأولى 1987 ـ 1993)، ولتعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة، وكل ذلك في مقابل إقامة كيان هو بمرتبة حكم ذاتي للفلسطينيين، وهو ما حصل وفقاً لاتفاق أوسلو (1993).
طبعاً لم يفلح مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، الذي كانت تبنته إدارة كلينتون، أيضاً، رغم كل الجهود التي بذلت وقتها وضمنها انعقاد مفاوضات "متعددة الأطراف" (منبثقة عن مؤتمر مدريد 1991) وتنظيم مؤتمرات "القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، التي عقدت أربعة منها (في الدار البيضاء وعمان والقاهرة والدوحة 1994-1997).
ويمكن إحالة إخفاق ذلك المشروع إلى ممانعة العالم العربي له، على صعيدي الحكومات والمجتمعات، الذي لم يكن ناضجاً أو جاهزاً لقيام هكذا تجمّع من مختلف النواحي، وبحكم التوجّس من إعطاء موقع متميّز لإسرائيل فيه، على حساب مصالح العرب وحقوقهم، لاسيما أن هذا المشروع لم يكن يشترط انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة (عام 1967).
لكن ما يجدر لفت الانتباه إليه هنا هو أن إسرائيل بغطرستها وعنصريتها مانعت أيضاً قيام هكذا مشروع تماماً، مثلما مانعت عملية التسوية، برغم إجحافاتها بالنسبة للفلسطينيين، وهو ما حصل مع اغتيال إسحق رابين (زعيم حزب العمل)، ومع صعود بنيامين نتنياهو إلى السلطة (في المرحلة الأولى 1996ـ1999)؛ علماً أنه بات اليوم أكثر شخص يمكث في منصب رئيس وزراء إسرائيل (في حقبته الثانية الحالية من 2009).
ففي عهد حكومة حزب العمل، رفضت إسرائيل الربط بين التسوية ومسارات التعاون الإقليمي، مدّعية أنه ليس ثمة صلة بين الأمرين، وأن قيام علاقات التعاون الإقليمي بدايةً من شأنها أن تؤسّس لعهد جديد من الثقة بينها وبين جيرانها العرب، ما يعزّز تالياً مسار عملية التسوية. وبديهي، فإن ذلك لم يبد جدياً ولا مقبولاً، فضلاً عن أنه اعتبر بمثابة امتهان للعرب واستخفاف بحقوقهم، فيما فهم بأنه محاولة من إسرائيل لنيل "جوائز" عن احتلالاتها للأراضي العربية.
أما في عهد حكومات ليكود، فإن حكومة نتنياهو (1996-1999) لم تتحمّس لهذا المشروع لرفضها لعملية التسوية جملة وتفصيلاً، وعند الليكود فإن إسرائيل بإمكانها أن تفرض التسوية التي تريد على جيرانها بوسائل القوة، والدعم الأمريكي، من دون حاجة لتنازلات إقليمية (جغرافية)، قد تظهر إسرائيل كدولة ضعيفة، ما يشجّع العرب تالياً على بذل مزيد من الضغوط لنيل مزيد من التنازلات. أما بالنسبة للتعاون الإقليمي، فإن إسرائيل في عهد الليكود ترى أنها تنتمي إلى الغرب وليس إلى الشرق الأوسط، وتعتقد أن بإمكانها أن تعيش من دون علاقات اقتصادية أو حتى تطبيعية مع العالم العربي، الذي تعتبره متخلفاً وفقيراً، وأن كل المطلوب هو اعتراف الدول العربية، وفي إطار الرضوخ للإملاءات والرواية الإسرائيلية!
مؤخراً، ومع مجيء إدارة ترامب إلى البيت الأبيض، أخذ الوضع منحى مختلفاً، إذ بدا أن تلك الإدارة غير معنية بعملية التسوية، بل إنها قطعت علاقتها بها، وأنهت رعايتها لها، وأغلقت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، هذا أولاً. ثانياً، شرع الرئيس ترامب لإسرائيل اعتبارها القدس عاصمة موحدة لها، كما شرع لها الاستيطان، وعدم العودة إلى حدود 1967، والتحرر تماماً من قضية اللاجئين. ثالثاً، اتخذ ترامب سياسة تجاهل القيادة الفلسطينية معتبراً أن إسرائيل وحدها هي التي تقرر ما تعطيهم إياه. رابعاً، أكد ترامب تطبيع الدول العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، من دون صلة بحقوق الشعب الفلسطيني، أو بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967.
في هذا الإطار يمكن اعتبار مؤتمر البحرين (يونيو/حزيران 2019)، الذي شاركت فيه إسرائيل إلى جانب عديد من الدول العربية، كبروفة على فتح مرحلة جديدة، قوامها ليس إقامة علاقات عادية مع إسرائيل فقط، وإنما إقامة علاقات تعاون أيضاً، بعيداً عن الحقوق الفلسطينية والعربية.
السؤال الآن: هل الأنظمة التي تحضّر للتطبيع، المضر، والمجاني، والمهين، جاهزة حقاً للذهاب إلى مباراة مع إسرائيل في مجالات إدارة نظام الحكم، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والثقافة؟ أم أنها ذاهبة لهذا الأمر من موقع التسليم بهامشيتها؟ والقصد أن من خسر المباراة فيما كان يعرف بزمن الصراع العربي – الإسرائيلي، سيخسرها، أيضاً، على الأرجح، فيما قد يصبح زمن السلام أو التطبيع مع إسرائيل، في حال بقيت الأوضاع على ما هي عليه، في مبنى الأنظمة العربية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.