كانت مفاجأة للجمهور المتابع لأسعار الذهب الانخفاض المدوي للسعر الذي بلغ ما يقارب 20% من قيمته في بداية أزمة كورونا، لاسيما أن جمهور غير المتخصصين اعتادوا سماع جملة أن المعدن الأصفر هو الملاذ الآمن للأفراد والشركات في أوقات الأزمات، ليس فقط للحفاظ على قيمة مدخراتهم، بل وتحقيق بعض المكاسب أيضاً.
ويعرف المتخصصون أن هذا الانخفاض في بداية الأزمة كان تقليدياً، وهو ذات السيناريو الذي يحدث مع كل أزمة، فقد حدث هذا الانخفاض سابقاً مع الأزمات الاقتصادية الكبرى عامي 1998 و2008، كما حدث مع بداية أزمة كورونا، حيث يندفع المستثمرون إلى البيع للحصول على السيولة ومواجهة عدم التزام عملائهم بالسداد، فتنخفض الأسعار لوفرة المعروض وشح السيولة، ثم سرعان ما ترتفع الأسعار مرة أخرى بعد الحزم الاقتصادية المساندة التي تتبارى من خلالها الدول الكبرى والمؤسسات الدولية في توفير السيولة، لمنع إفلاس الشركات وانهيار الدول، وحين تتوفر السيولة يرتفع معدل التضخم، وتتآكل قيم المدخرات، فيتحول الذهب إلى ملاذ آمن للحفاظ على القيم، لا سيما بعد اتجاه أسعاره نحو الارتفاع.
وقد تتداخل عوامل أخرى بخلاف توافر السيولة في تعزيز ارتفاع سعر الذهب، وعلى حسب قوة هذه العوامل واستمراريتها تستمر الموجات الصعودية لهذا السعر، وربما ترتفع الأسعار بنسب قياسية وإلى حدود غير مسبوقة إذا كانت العوامل المعززة لهذا الارتفاع بخلاف الأزمة حادة ومستمرة، مما يفقد الأفراد والمؤسسات نسبة لا يستهان بها من ثقتهم بالأوراق النقدية، فيكون الذهب ملاذهم الآمن.
وبالفعل اجتمعت ثلة من العوامل القوية إضافة إلى أزمة كورونا وتداعياتها الكبرى خلال الفترة الماضية، لتدفع أسعار الذهب إلى ارتفاع تاريخي وغير مسبوق حيث تخطى حاجز 2000 دولار للأوقية، مقارنة بنحو 1517 دولاراً في بداية العام، محققاً مكاسب بلغت نحو 30%، وهي أعلى مستوياته منذ أكثر من 6 أعوام.
وقد عزا الخبراء هذه الارتفاعات واستمراريتها إلى مجموعة من العوامل، هي:
1- استمرار تطبيق السياسات الاقتصادية التوسعية، فغالبية الحكومات في العالم ضخت أموالاً عن طريق البنوك المركزية لتوفير السيولة وإنعاش الاقتصادات بنسبة فائدة منخفضة جداً، بالإضافة إلى انخفاض العائد من السندات الأمريكية إلى أقل من -1% خلال عشر سنوات. علاوة على العديد من الإجراءات المالية والاجتماعية، فلم يعد الحديث عن عودة التوازن للموازنة العامة أمراً ذا أولوية في الوقت الراهن.
2- اختفاء المنافس التقليدي للذهب وهو أسعار الفائدة المرتفعة والأرباح الموزعة من الشركات، كنتيجة لتداعيات أزمة كورونا، وعادة ما ترتفع أسعار الذهب العالمية في حال خفض الفيدرالي الأمريكي الفائدة على الدولار، حيث يعتبر المستثمرون أن الأرباح من الذهب تكون أكبر، بالإضافة إلى هبوط الدولار الأمريكي لأدنى مستوى في عامين محققاً أسوأ أداء شهري في عشر سنوات، واتجاه كبير لدى المستثمرين للتخلص من الدولار وشراء الذهب كملاذ أخير للأفراد والمؤسسات، الذين اندفعوا في عمليات شرائية محمومة نقدياً أو عن طريق صناديق التداول.
3- بروز مشترين تقليديين مثل البنوك المركزية والصناديق الاستثماريةوصناديق التأمينات، وهو ما عوض انخفاض طلب الأفراد على الذهب كمجوهرات والذي قدر بنحو 40%.
4- حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي العالمي، سواء نتيجة الصراع التجاري الصيني الأمريكي، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق وهو الأرجح حالياً، بالإضافة إلى انخفاض أسعار النفط وتخمة المعروض منه وتنامي المخزونات الأمريكية، علاوة على اقتراب الانتخابات الأمريكية، والتخوف من إعلان الرئيس الأمريكي إمكانية تأجيلها، واستمرار بؤر الصراع المسلح في الكثير من مناطق العالم.
5- استمرار غموض المشهد حول الاقتصاد العالمى، بسبب جائحة فيروس كورونا، لاسيما بعد التحذيرات المتتالية لمنظمة الصحة العالمية بشأن اقتراب موعد الموجة الثانية من انتشار الوباء، وتحسب بعض الاقتصاديات الكبرى من احتمالية معاودة الإغلاق، كما عززت توقعات بمزيد من إجراءات التحفيز لإنعاش الاقتصادات التي تضررت من جائحة كورونا جاذبية المعدن النفيس كملاذ للتحوط من التضخم.
6- نشر بيانات أمريكية اقتصادية سلبية أُضيفت إلى الشكوك بشأن انتعاش سريع للاقتصاد العالمي، ومن أهمها تسجيل أكبر انكماش اقتصادي أمريكي فيما لا يقل عن 73 عاماً، ارتفاع عدد طلبات إعانة البطالة الأمريكية، والتي بقيت فوق مستوى 13 ضعف معدلها الأسبوعي قبل الجائحة، ووصلت إلى 70 ضعفاً في ذروتها في الأسبوع الأخير من مارس/آذار الماضي. ومنذ بدء تفشي الجائحة، فقد الاقتصاد الأمريكي نحو 22 مليون وظيفة حتى نهاية مايو/أيار الماضي، استعاد ثلثها تقريباً في يونيو/حزيران.
مستقبل أسعار الذهب خلال الفترة المقبلة
يشير تحليل مجموعة العوامل السابقة والتي تسببت في موجة ارتفاع أسعار الذهب إلى أن العالم الآن في حالة محفوفة بالمخاطر، كونت مزيجاً مثالياً انصهر وتكامل ليصب في صالح التوقع باستمرار سلسلة الصعود السعري، فلدينا أسعار فائدة مخفضة، ودولار ضعيف، وتوترات تجارية وجيوسياسية، ويدعم كل ذلك حالة عدم التأكد من المستثمرين حول الاتجاهات الاقتصادية في الوقت القريب، لذا فإنهم سيفضلون الانجذاب نحو الأصول منخفضة المخاطر، بما يؤكد أن سعر الذهب مستعد للحفاظ على قوته على الأقل خلال فترة من 6 إلى 12 شهراً المقبلة. وتنعكس هذه التوقعات على سلوك المستثمرين الذين يكدسون أموالهم حالياً في الذهب.
ويدعم هذا الرأي بنك غولدمان ساكس الذي قال أمس إنه لم يعد يتوقع إبرام اتفاق تجاري بين الصين وأمريكا قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020 ، بينما حذر بنك مورغان ستانلي من أن تبادل فرض الرسوم الجمركية بين البلدين قد يزج بالاقتصاد العالمي في حالة ركود بحلول منتصف العام المقبل، مما يؤكد دور الذهب كملاذ آمن في مواجهة تقلب الأسواق المالية التي تعاني من تراجع نتائج الشركات.
أما عن الانخفاض في سعر الذهب الذي حدث مؤخراً فيشير الخبراء إلى أنه لا يعدو كونه جني أرباح اعتيادياً يحدث في أعقاب سلسلة من الارتفاعات المتوالية، وسرعان ما تنتهي هذه الموجة ونعود إلى أوضاع الارتفاع مرة أخرى، فلا يشترط غالباً أن يأخذ الارتفاع شكل الخط المستقيم إلى أعلى، فمن المنطقي أن يواجه هذا الخط ببعض الانكسارات المحدودة قبل بلوغ الذروة.
ولهذه الأسباب يتوقع خبراء اتحاد المصارف الأوربية أن يرتفــع سعر الأونصة ليتراوح بين 2100 و2300 بنهاية العام الحالي، فيما توقـــع خبراء غولدمان ساكس أن يصل سعر الأونصة إلى 2300 دولار في غضون نهاية العام الجاري، بينما بنك أوف أمريكا فتوقع أن يرتفع السعر إلى 3 آلاف دولار في غضون 18 شهراً المقـبلة، لذلك لن يتــوقف المــعدن الأصفر عــن مفاجأتنا أبداً.
هل الوقت مناسب الآن لشراء الذهب:
طالما أن التوقعات تصب في طريق الارتفاع المستمر لأسعار الذهب خلال الفترة القادمة، فمن المنطقي أن يكون النصح بالشراء في الوقت الحالي هو الملائم للباحثين عن الحفاظ على قيم مدخراتهم، ولكن يجب أن نفرق هنا بين عدة نقاط، على رأسها أن تسارع وتيرة الارتفاع في السعر لن يكون بنفس وتيرة الفترة السابقة، وبالتالي فالوقت ملائم للاستثمار طويل الأجل وليس للمضاربات السريعة.
النقطة الثانية: أن جني الأرباح عن طريق المضاربة السعرية سواء في السلع أو الأسهم يحتاج إلى الكثير من المتابعة والدراسة والتأني، علاوة على خلفية اقتصادية جيدة على الأقل لمعرفة الوقت المناسب للدخول والخروج من الأسواق، لاسيما في ظل فترات جني الأرباح والتي تبدو لغير المتخصصين أنها بداية لمرحلة انخفاضات سعرية.
النقطة الثالثة: التي يجب التأكيد عليها، هي اختيار الوعاء الاستثماري، فالسبائك من أفضل طرق الاستثمار في الذهب، إلا أنها تناسب صغار المستثمرين، ورغم ازدياد صعوبة حفظ السبائك مع زيادة وزنها وكميتها، فإنها من أكثر الأنواع محافظة على القيمة، أما بالنسبة للطبقة الوسطى من المستثمرين فربما تكون صناديق الاستثمار في الذهب بأنواعها المختلفة الأكثر تناسباً في هذا الإطار.
تعتبر بعض العملات والأسهم من قطاعات معينة وبعض المعادن النفيسة بخلاف الذهب، وتنويع المحافظ الاستثمارية، ملاذات آمنة يلجأ إليها المستثمرون في أحوال الأزمات، ولكن في أحوال الركود الاقتصادي الطويل، تنخفض القيمة السوقية لمعظم الاستثمارات، وهنا يبرز الذهب كأحد أكثر الملاذات أمناً، لعدم ارتباطه بظروف السوق العامة حال الشدائد، وهذا ما يفسر اتجاه البنوك المركزية حول العالم إلى زيادة احتياطاتها من الذهب، علاوة على إقبال المستثمرين على اكتنازه خلال الفترة المقبلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.