"عهد القُبح وزمن الرداءة".. هذا هو الوصف الأنسب للحقبة التاريخية التي تعيش فيها مصر حالياً، فالقبح أصبح في كل شيء في الفن والبناء وطرق رصف الشوارع وفي أخلاق العامة وفي الزراعة والصناعة.
ولكي نعرف مدى الإبداع في حقبة علينا قياس مستوى الحريات فيها فكلما زادت الحريات زاد الإبداع وكلما علا صوت القمع غاب الإبداع وتفشى الانحطاط الفكري والخلقي.
ولكي لا نلوم الزمن الذي نعيش فيه فيمكن أن نجزم أن ما يحدث حالياً في مصر من ظواهر هو نتيجة لعملية تجريف كبرى استمرت منذ تولي جمال عبدالناصر وحتى اليوم بعضها مقصود والآخر غير مقصود ولكي نسرد جزءاً من التجريف الفني الذي حصل قد نحتاج مجلدات.
العهد الملكي والرافد الثقافي:
فعلى سبيل المثال كان العهد الملكي مثالاً على التنوع الفكري والثقافي والسياسي وفيه نشأت التيارات الرئيسية التي تحكمت في الحياة السياسية والثقافية والفنية الحديثة وكلهم تربوا في تلك الحقبة فأنتجوا لنا أنواعاً من الفنون والأدب نتدارسها ونتذكرها حتى اليوم.
ومعظم أدباء وكتاب مصر العظام وشعرائها الذين ما زلنا نتذكرهم حتى الآن هم من أبناء تلك الحقبة مثل حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وابراهيم ناجي وعباس العقاد ونجيب محفوظ وأحمد رامي وسيد قطب وصلاح جاهين ومصطفى الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي وحتى أحمد فؤاد نجم وغيرهم من مئات الأدباء والشعراء كلهم بدأوا موهبتهم في هذا الجو المشبع بالإبداع.
حتى المطربون والفنانون العظام مثل سيد درويش وشيخ إمام ومحمد عبدالمطلب وحتى من ينتسب لعهد عبدالناصر هم أبناء تلك الحقبة واشتهروا فيها مثل أم كلثوم وعبدالوهاب.
ما سبق كان مجرد أمثلة في مجال الأدب والفن في عهد الحريات والتلاقح الفكري والصراع السياسي والأحزاب والذي رغم سلبياته ورغم الاحتلال البريطاني الذي كان جاثماً فوق صدر مصر إلا أنه كان مميزاً بالإبداع في كافة المجالات.
وفي مجال النحت رغم رفضي الشرعي له كان لمصر نحاتون كبار مثل محمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر وجمال رأفت السجيني وسمير ناشد جندى وغيرهم من الرسامين والنحاتين المصريين الذين أبدعوا في مجالهم عكس الحاضر.
حتى المجال السياسي كان في تلك الحقبة مميزاً ففيه ظهرت حركة الإخوان وحزب مصر الفتاة وحزب الوفد والحركة الشيوعية المصرية "حدتو" وغيرها من الحركات التي ميزت مصر في هذا الزمان كانت أكبر دليل على الثراء السياسي المصري وأثر الحرية في الحياة رغم كل السلبيات المعروفة للعهد الملكي وفساد الملك فاروق المشهور.
مما سبق وهو سرد مقتضب لهذا العهد نكتشف أثر الحرية على المناخ العام والإبداع والرقي حتى إن عبدالناصر والضباط الأحرار استغلوا من تبقى من مبدعي الحقبة الملكية لصالحهم وللترويج لتحركهم من فنانين وأدباء لهم شعبية وتأييد ولم ينتجوا فنهم الخاص إلا في حالات خاصة.
نكسة الإبداع:
كان عصر عبدالناصر هو عصر بداية التجريف الفني والثقافي الحقيقي لمصر وفيه ظهرت حقبة الإعلام الموجه والفن الموجه لخدمة الحاكم وليس للتعبير عن الشعب أو حتى حن فكر الأديب والفنان بل من فكر النظام وما يقره.
وهو ما يمكن وصفه بنكسة الإبداع، فالإبداع يستحيل مع وجود قمع وكبت على الحريات ومنع من الحديث خارج إطار المسموح فكان الجميع يبدع في التطبيل لعبدالناصر ونظامه وهو فقط المطلوب، وكان الكبت والتجريف والمنع هو سمة الحركة الثقافية في هذا العهد.
فكان أي مثقف أو أديب يغرد خارج السرب يتهم بأنه إخواني أو شيوعي ودخل العديد من الكتاب والأدباء المعتقلين مثل أحمد فؤاد نجم والذي كان ناصرياً ثم انتقدها بعد النكسة فتم اعتقاله ورفيقه الشيخ إمام حتى السبعينيات وعبدالحكيم قاسم الكاتب والأديب المصري والأديب الإسلامي سيد قطب وغيرهم العشرات ممن عارضوا النظام في فترات مختلفة من الحقبة الناصرية فكان مصيرهم المعتقل.
الانفتاح الفوضوي:
هذا التجريف استمر في عهد الانفتاح بشكل مختلف فبعد أن كان هناك فن الصوت الواحد انفتحت مصر على فوضى من الرأسمالية بجشعها واستغلالها وكان الانفتاح وبالاً على مصر بسبب فساد السلطة وجشع التجار.
وإذا أردت أن ترصد وضع الفن في حقبة فلتنظر لأفلامها، فالأفلام خير معبر عن توجهات الجماهير والمنتجين معاً لأنه لو هناك فيلم فشل فتعرف منه أنه مرفوض جماهيرياً والعكس عكس المسلسلات في تلك الحقبة كانت مفروضة فرضاً على شاشات التلفزيون ومجبر كل من يتابع القنوات المحدودة على مشاهدتها سواء كانت سيئة أم جيدة، فلا عرض فيها ولا طلب عكس قاعات السينما.
العري الجميل:
فظهرت سينما "العري الجميل" وأفلام البورنو المنمقة لفنانين مشاهير في هذا الوقت منذ نهاية عهد عبدالناصر وحتى متنصف السبعينيات مثل حمام الملاطيلي وسيدة الأقمار السوداء وغيرها.
كان هناك "انفتاح" مستفز متزامن مع الانفتاح الاقتصادي الـ"السداح مداح" كما وصفه الكاتب أحمد بهاء الدين رئيس تحرير الأهرام في عهد السادات وهو ما أثار غضبه شخصياً، فكمية الإنتاجات السينمائية التي تعتمد في محتواها بشكل أساسي على جرعة زائدة من المشاهد الجنسية الصادمة حتى اليوم علامة على تلك الحقبة.
تلك الحقبة من الأفلام "المنفتحة" لم تستمر طويلاً مع تزايد التيار الديني خاصة مع تحديها الفج لأعراف المجتمع فتقلصت بعد صدمتها للمجتمع المصري .
وظهر بالتزامن معها في السبعينيات فن شعبي جديد مثل أحمد عدوية وطراز جديد من الغناء الشعبي اكتسب شهرة واسعة بأغانيه المعبرة عن تلك الفترة مثل "زحمة يا دنيا زحمة" و"كركشنجي" "والسح الدح إمبو"
يمكن أن نصف عدوية وأقرانه هم الإصدار الأول لفن "العشوائيات" التي بدأت تظهر ملامحها في عهد الانفتاح وهجرة أبناء القرى للمدن التي لم يجدوا فيها سكناً فبنوا العشوائيات بعد بيعهم أراضيهم التي خصصها لهم "الإصلاح الزراعي" في عهد عبدالناصر.
الفن الشعبي قديماً في عهد الملكية كان يميزه الرقي مع بساطة المعنى حتى المنحدر منه مثل نعيمة المصرية والتحفة المصرية "يا حلوة يا بلحة يا مقمعة" فرغم كوميدية تلك الأغاني إلا أنها لم تصل لانحدار بداية الانفتاح فهي أغان نادرة والمطربون الذين أدوها لم يكرروها كثيراً بل كان لهم أغان قوية وبعضها تدعو لمقاومة الإنجليز.
سينما المقاولات:
تواصل الانفتاح في نهاية عهد السادات وبداية عهد مبارك وتواصل انحدار الفن فظهرت "سينما المقاولات" وهي كانت أكثر أنواع الإنتاج مبيعاً في تلك الحقبة سينما هدفها الأساسي تجاري وليس استغلال السينما لنشر الفكر.
لا ننكر أن هناك مخرجين ومنتجين عباقرة مثل عاطف الطيب ومثل محمد خان ومثل يوسف شاهين، لكن الملاحظ أنه بالتوازي معهم كان هناك تيار من الإسفاف يتزايد في المجتمع وسينما تجارية استهلاكية وأفلام هدفها تلبية رغبات الجماهير.
التجريف الثقافي تزايد بشكل كبير في عهد مبارك فبينما تم تحويل المثقفين اليساريين لموظفين في وزارة الثقافة لهم مخصصات مقابل صمتهم على على الوضع السياسي الذي يتدهور بالتدريج والـ"البلد التي تغرق واحدة واحدة" وقاموا ببيع مبادئهم المهترئة مقابل امتيازات وقتية.
العشوائيات تنتقل من السكن للإبداع:
إن عهد مبارك هو أكبر عهد انتشر فيه العشوائيات وما نراه حالياً من هزيمة ثقافية في المجتمع المصري فمعظم العشوائيات تفاقم حجمها في عهده وأصبحت علامة مميزة للقاهرة الكبرى وسياجاً محيطاً بمعظم أحيائها حتى الراقي منها.
ورغم وجود حالة من الإبداع في عهده نتيجة "الديمقراطية المزيفة" التي كان يروج لها ووجود معارضة لها سقف لا تتعداه إلا أن التدهور الفني والثقافي أصبح ملحوظاً في نهاية حكمه.
فالحياة العشوائية في عهده أنتجت مجتمعاً عشوائياً وفناً عشوائياً وثقافة عشوائية، تفاقمت فظهرت المهرجانات وتفشى هذا الوباء المعبر عن "عشوائيات عهد مبارك" ورغم أن أغاني المهرجانات والشعبيات الأولى كانت أفضل من الحالية وأقل انحداراً إلا أنها كانت بداية الطريق للتدهور الحالي.
سينما اللحمة والطوب الأحمر:
في تلك المرحلة التي بدأت منذ عام 2000 ولم تنته حتى اليوم ظهرت سينما "السبكي" تاجر اللحمة الذي حاول نقل "استعراض اللحوم" من الجزارة لشاشات السينما، فكان هناك تيمة مميزة لمعظم أفلامه "راقصة ومطرب شعبي" حتى لو كان السياق الدرامي لا يحتاج.
وظهر محمد رمضان وسعد الصغير وعبدالباسط حمودة وحفنة البلطجية رموز السينما المصرية .
بالتزامن مع تلك الحقبة أصبح سمة نهاية عهد مبارك هو مباني الطوب الأحمر المتواجدة على طول الطريق الدائري وفي كافة الأحياء والمحافظات وشوارع مليئة بالقمامة وكومباوندات مفصولة للأغنياء ومعبرة عن الفارق الطبقي المتزايد.
حالة كاملة من الفشل الجماعي تتزايد وتقلص تدريجي للإبداع النظيف وتزايد للفن الذي يخاطب الغرائز إلا قليلاً كانت خير معبر عن نهاية هذا العهد المتكلس بالفساد.
ثورة يناير الإبداع الذي أُجهض:
جاءت ثورة 25 يناير ومع تلك الثورة جاء الإبداع فعلياً فظهر فنانو الثورة وكانوا أكثر انتشاراً من غيرهم حتى بين الطبقات الشعبية وكان عهد الأمل الممتد من 2011 وحتى 2013 له تأثير إيجابي على الفن والثقافة وكأن الحرية المؤقت حولت مصر.
لم نسمع عن أعمال مسفة مستفزة ومثيرة للجدل بشكل كبير في تلك الحقبة كانت الغلبة للفن الثوري والجرافيتي الجميل ومطربي الثورة مثل كايروكي وأعمال سينمائية راقية مثل الشتا اللي فات وفبراير الإسود، وحتى فن المهرجانات لم تكن له الغلبة في تلك الفترة.
هل تتذكرون أغنية واحدة للمهرجانات أو أغنية فيها انحطاط اشتهرت في تلك الحقبة في ظني لن تتذكروا، فانشغالنا بالحالة الراقية كان هو "الترند" الغالب في تلك الحقبة التي انتهت بعودة الدبابة للمشهد وعلو الفن الهابط مجدداً حتى أصبحت له الغلبة.
عهد التيك توك والانحطاط:
بعد 2013، وعزل الرئيس مرسي عادت الحريات لمشهد شبيه للحقبة الناصرية بشكل "موديرن" فالقنوات وشركات الإنتاج يتم جمعها في شركات معينة تابعة للدولة أو مقربة منهم لا حريات للمعارضة والانتقاد.
من يطبل يسمح له بالعمل ومن ينتقد مهدد ليس في رزقه بل في حريته وحياته ومع غياب الحرية يتقلص الإبداع وينعدم وتنهار رغبة الشعوب في الرقي ويصبح المزاج العام "منحطاً"
فظهر حمو بيكا وشواحة ومجدي شطة وأشباههم من مطربي المهرجانات، والذين لو قارناهم بمطربي عشوائيات مبارك لقلنا إن هناك فرقاً بين الثرى والثريا.
وعند سماعهم ستترحم على أيام شعبان عبدالرحيم وعدوية وعبدالباسط حمودة وغيرهم من مطربي عهد مبارك.
لا مقارنة بين موسيقى مزعجة تعينك على "عمل دماغ" مع سيجارة الحشيش في أغاني المهرجانات وبين "سلطنة" عدوية وحمودة وغيرهم.
تمثال مصر تنهض:
ستترحم على أفلام المقاولات عندما تشاهد الإصدار الجديد منها وستترحم على تمثال "نهضة مصر" عندما تشاهد تمثال "مصر تنهض"؛ هذا التمثال الذي كان خير معبر عن تلك الحقبة وأثار سخرية عالية على مواقع التواصل.
الحقبة المنحدرة ظهرت في السينما والدراما فحتى الأفلام والمسلسلات التي لها فكرة وقصة هدفها خدمة النظام وتلميع صورته وتشويه صورة أعدائه، لا مكان لمبدع ولا حتى بسقف حرية عهد مبارك.
فلن تجد أفلاماً مثل "العاصفة" و"صرخة نملة" ولن تجد أفلاماً ليس بها أي حديث سياسي ولمت فيها أفكار ثقيلة مثل "الكيف" ولا "العار" ولا فيلم سياسي من العيار الثقيل مثل البريء.
كانت الديمقراطية "الجزئية" في عهد مبارك سبب ظهور فلتات سجلها التاريخ، ومازلنا حتى اليوم نتذكرها وحتى ديمقراطية عصر الانفتاح بعهد السادات أخرجت لنا فيلم الكرنك وغيره.
ورغم انحدار تلك الحقب التاريخية، لو قارناها بالحقبة الحالية لترحمنا عليها.
فحتى الفلتات التي ظهرت في عهد السيسي مثل "مولانا" أو "صاحب المقام" تشعر من سياق الفيلم الجيد أن هدفها الترويج لنموذج معين من الدين والتركيز عليه على أنه الصواب وحتى مسلسل مثل الاختيار رغم جودته إلا أنه تبنى وجهة نظر السلطة بشكل مطلق ضد خصومها.
الأفلام غير المسفة لها هدف سياسي وديني لدعم السلطة وما غيرها إسفاف وانحدار في المستوى الخلقي.
وبالتزامن مع هذا الإسفاف ظهر جيل "التيك توك" كنتيجة طبيعية لانحدار نهايات عهد مبارك وهزيمة الثورة وصعود القمع.
ونتيجة الكبت والتربية الخاطئة أصبح التيك توك ماخوراً لفتيات لا يخضعن لتربية أهاليهن ولا رقابتهن ويقمن بإثارة غرائز متفرجين عبر الرقص والأعمال المسفة التي لا هدف منها إلا جمع أكبر عدد من المتابعين.
ومهما زعم الحكم أنه يحاربها بدعوى مكافحة الإسفاف تلك الظاهرة ستتزايد لأنها نتاج طبيعي لعهد القمع والكبت وغياب الإبداع وانهيار الأخلاق الذي نعيش فيه.
وللأسف القادم أسوأ والأجيال القادمة ستكون أكثر انحداراً لو لم نتخذ وقفة ضد هذا التدهور.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.