منذ اندلاع الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط 2011 وحتى انهيار ترتيبات المرحلة الانتقالية وإعلان حفتر انقلابه التليفزيوني الأول منتصف 2014 لم تبد السعودية اهتماماً كبيراً بما يحدث في الأراضي الليبية. لكن يبدو أن الاهتمام الإماراتي جر خلفه اهتماماً سعودياً بتلك الدولة البعيدة نسبياً عن تأثير ونفوذ دول مجلس التعاون الخليجي رغم تشابهها الكبير معهم في هيكل الاقتصاد الريعي وطبيعة العقود الاجتماعية القائمة على الإذعان الشعبي، وزمالة الخليج مع ليبيا في منظمة الأوبك.
لم يكن النظام السعودي على وفاق كبير مع نظام القذافي وكان يبدي ارتياحاً للتخلص منه، وكذلك العديد من نظم الخليج العربية التي شارك بعضها مبكراً بقوات في عملية الناتو التي ساعدت الليبيين في تحييد سلاح الجو التابع للقذافي وتسريع وتيرة القضاء على نظامه. لكن في نفس الوقت فإن السعودية وأتباعها في الخليج لم يكونوا على دراية بطبيعة المجتمع الليبي ولا تركيبته السياسية والاجتماعية التي يمكن أن تنجم عن توافقات المرحلة الانتقالية. فمن ناحية لم يكن المجتمع الليبي مدروساً بما فيه الكفاية لمراكز الفكر والرأي بتلك البلدان، ومن ناحية ثانية لم يكن نظام القذافي يسمح بتمثيل حقيقي لليبيين في أي من المؤسسات الهشة التي قادها لنحو 40 عاماً ولم يكن هناك اهتمام عربي كاف أو معقول بليبيا.
امتداد السيطرة على أسواق النفط وقرارات دول أوبك
رغم عدم وجود مصالح كبيرة للسعودية في الدولة الليبية، فإن سعي السعودية للسيطرة على أسعار النفط في إطار منظمة أوبك دفعها للاهتمام بالتطورات في ليبيا. فحتى وقت قريب كانت تحتفظ ليبيا بمركزها ضمن قوائم الدول العشرين الأكبر عالمياً في إنتاج النفط ولا تزال موجودة بقوائم الاحتياطيات الأكبر عالمياً. فوفقاً للتقارير تصل احتياطيات ليبيا النفطية إلى 48 مليار برميل من النفط، أي 2.9 % من الاحتياطي العالمي بينما كان متوسط صادراتها عام 2017 نحو 865 ألف برميل في اليوم، وليبيا تملك أكبر احتياطي في القارة الافريقية. وتعتمد الدولة الليبية على النفط لتمويل موازنتها بنسبة تتجاوز 95%.
وبناء عليه تعتبر ليبيا قوة تصويتية معتبرة داخل أوبك التي تسيطر السعودية على قرارها في ظل منافسة شرسة مع المنتجين من خارج الأوبك والذين تتزايد حصتهم في السوق. إلا أن استمرار حالة عدم الاستقرار وتناقض الأهداف السعودية الإماراتية مع نظيرتها الروسية وتأثيراتها على استمرار الصراع في ليبيا قاد وتدهور إنتاج النفط الليبي بشكل غير مسبوق. فوفقاً لبعض التقديرات في الأول من أبريل/نيسان 2020 تراجع إنتاج النفط الليبي إلى 92 ألفاً و731 برميلاً يومياً حتى 1 أبريل، مدفوعاً باستمرار إغلاق الحقول القسري من جانب ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، منذ 17 يناير/كانون الثاني 2020.
وجاءت أزمة كورونا وما ترتب عليها من ركود في الاقتصاد العالمي لتؤكد هيمنة السعودية وأتباعها على أسواق النفط لكن في المقابل أضيرت تلك الدول من الممارسات السعودية المرتبطة بسياسات الإنتاج والتي خاضت حرباً نفطية مع روسيا وإيران لإغراق الأسواق بالنفط. وهو الأمر الذي اكتمل بتداعيات أزمة كورونا فأدى هذا الانخفاض لتأثيرات سلبية كبيرة على الدول الصديقة للسعودية والمتحالفة معها في أوبك والتي لا تمتلك نفس القدرة السعودية على تحمل انخفاض الأسعار لفترات طويلة أو الالتزام بخفض الإنتاج في ضوء الاضطرابات وتزايد الاحتياجات الاقتصادية في مواجهة الجائحة. وهو الأمر الذي أدى لتململ كبير من قبل بعض الدول الإفريقية المنتجة للنفط من سياسات السعودية وتبعية الأوبك لها ولتوجهات من بالسلطة فيها.
ومع انتشار فيروس كورونا والأزمة المترتبة عليه، كان التدخل التركي لميدان التنافس على حقول النفط والغاز الليبية وتقديمها دعماً لوجيستياً لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في مواجهة ميليشيات حفتر وقوات شركة فاغنر الروسية، حاسماً لمعركة طرابلس والغرب الليبي بتوالي هزائم حفتر وحلفائه، ومن ثم تراجع هو وحلفاؤه إلى التمترس بالحقول النفطية في منطقة الهلال النفطي وسيطرت شركة فاغنر على معظم موانئ وحقول النفط. وبالتالي خرج قطاع النفط الليبي من محاولة السيطرة الإماراتية السعودية إلى سيطرة ميليشيات موالية لروسيا ومن ثم أصبح من الصعب استخدامه في حرب النفط القائمة بين السعودية وروسيا وإيران. كما أدى الإغلاق الذي فرضته ميليشيات حفتر لما يشبه خروج قطاع النفط الليبي من حلبة التنافس على المراكز العالمية للإنتاج. إذن، خسرت السعودية رهان استعمال ليبيا في حرب النفط كما خسرت حكومة الوفاق والشعب الليبي مصدر قوتهم الوحيد تقريباً.
مواجهة النفوذ التركي عبر السلفية المدخلية
ليس بخاف على أحد أن مناطق وقضايا الصراع الدائر بين المحور السعودي الإماراتي المصري مع المحور التركي القطري باتت تتوسع بشكل غير مسبوق. وبينما تظل الإمارات الحليف الرئيسي لحفتر في العالم العربي بشكل جعلها حاضرة عسكرياً منذ تدخل الناتو في 2011 ضد القذافي. لكن توسعها في دعم جنرالات ليبيا على الانقلاب على ترتيبات الثورة، جعل منها فاعلاً رئيسياً في الأزمة الليبية ربما بشكل أكبر من السعودية ومصر. لكن مع تزايد التدخل التركي وتوسعه وإنجازه بالتعاون مع حلفائه في حكومة الوفاق لبعض المهام المتعلقة بالدفاع عن طرابلس والغرب الليبي وجعل مهمة سيطرة حفتر على كامل التراب الليبي التي وعد بها منذ انقلابه أمراً مستحيلاً، كل ذلك أدى إلى محاولة تشكيل تحالف إماراتي مصري لمجابهة حكومة الوفاق وحلفائها الإقليميين والدوليين.
ففي 27 مارس/آذار 2019 وقبيل انطلاق عمليته العسكرية الرابعة للسيطرة على العاصمة طرابلس بأيام، زار خليفة حفتر الرياض بناء على دعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز، فيما اعتبر ضوءاً أخضر سعودياً لتلك العملية. وهو التصرف الذي فسر من قبل البعض باعتبار كل من السعودية والإمارات تتصرفان بشكل منفرد في ليبيا بعيداً عن التنسيق المكثف. وتشير التحليلات إلى أن السعودية ضاعفت دعمها للواء متقاعد خليفة حفتر، فقد كشفت صحيفة لوموند الفرنسية في 24 يناير الماضي عن أن السعودية قدمت مساعدة مالية لمجموعة "فاغنر"، وهي منظمة روسية شبه عسكرية تنشر مرتزقة في ليبيا دعماً لقوات حفتر، على خلفية تنامي القلق السعودي والإماراتي من تزايد نشاط تركيا في ليبيا لصالح حكومة الوفاق الوطني. ومن ثم كثفت السعودية جهودها من أجل أن يكون لها نفوذ في أي تسوية سياسية للصراع في ليبيا.
وتخوض الإمارات والسعودية وتوابعهما في المنطقة العربية حرباً ضد أية محاولة ثورية أو احتجاجية وضد تعاظم النفوذ التركي في المنطقة والذي يسوق نفسه داعماً للربيع العربي وحركات التحرر ومراهناً عليها رغم علاقاته الطيبة بالأنظمة السابقة. كما يمكن تفسير هذا الانخراط السعودي في الصراع في ليبيا بانحياز السعودية إلى جانب التيار السلفي المدخلي، الذي شكل ميليشيات موالية لحفتر تتبنى رؤية متطرفة للإسلام، وتتحالف مع بقايا نظام القذافي وترى في حفتر حاكماً متغلباً تجب مناصرته، ودعم السعودية لهذا التيار من شأنه أن يُكرس مكانة السعودية كصاحبة مصلحة جيوسياسية رئيسية في ليبيا ويضمن نفوذاً ممتداً لها في نقطة بعيدة نسبياً عن نفوذها التقليدي.
تحريض خليجي
ومن ناحية أخرى تريد السعودية أن تظهر بمظهر من يدعم التوجهات المصرية في ليبيا حيث بدا أن الموقف السعودي الإماراتي من النظام في مصر فاترا منذ أواخر 2018 إذ لم يقدم النظام في مصر الدعم الكافي لخياراتهما في اليمن وسوريا وتوقف الدعم السعودي الإماراتي له منذ ذلك التاريخ. وبدت الدول الثلاث تتصرف بشكل منفرد تجاه الأزمة الليبية، ومن ثم أرادت السعودية والإمارات أن تدفع مصر باتجاه التصعيد في ليبيا في مواجهة تركيا مقابل إظهار بعض بيانات الدعم والتأييد ربما لاستخلاص حقوقها في الدعم السابق الذي مر بمقابل لا تراه عادلاً، لكنها وفقاً لتحليلات أخرى تقف موقف المحرض دون أن تبذل جهداً كبيراً لتغيير الأوضاع على الأرض ودون قدرة حقيقية على ذلك بخلاف النفوذ المالي.
رغم ذلك الدعم المكثف لقوات خليفة حفتر لم تبد السعودية ومصر بذات الحماس الإماراتي ولا التوجهات في دعمهما لحفتر ولا يبدو هذا التحالف متماسكاً. ويبدو أنه يفتقد لفهم تطورات الأوضاع الليبية ولا يملك حلفاء متماسكين ويدعم أطرافاً متناقضة داخل حكومة شرق ليبيا. للسعودية أهداف بعيدة المدى تتمثل في تصدر نسختها للإسلام في مواجهة التيارات الصوفية والسلفية العلمية والتيارات الوسطية. في مقابل استهداف إماراتي مصري لتيارات الإسلام السياسي وتضخيم أدوارها وصولاً للتوسع في تصنيفاتها حركات إرهابية أو جهادية وتبنيها مقولات الإرهاب الإسلامي وهو الطرح الذي يضر بالسعودية ذاتها في الأفق الأوسع. كما أن السياسة السعودية تتناقض جوهرياً مع السياسة الروسية فيما يتعلق بالنفط وهو القطاع الأهم في الحالة الليبية.
ومن هنا فإن التفاهمات الروسية التركية وحدها القادرة على حل الصراع في ليبيا أو إطالة أمده. وتبقى السعودية والإمارات ومصر لاعبين أقل أهمية في ضوء تراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية ككل وضعف شرعية نظمها والأزمات الاقتصادية التي تواجهها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.