حتى نقدر على فهم المعضلات والخلافات الدولية حول ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط، لزاماً علينا أن نفهم أصل الخلاف بين تركيا واليونان، والذي ينعكس بدوره على ترسيم حدود مصر البحرية الغربية.
ترسيم الحدود البحرية أو تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ) يعتمد بشكل عام على قانون البحار (LOS Convention). والأخيرة هي اتفاقية صاغتها الأمم المتحدة عام 1982 ودخلت حيز التنفيذ عام 1994. ويسمح القانون للدول صاحبة المناطق الاقتصادية الخالصة بالتنقيب والأنشطة الاستكشافية على النفط والغاز على امتداد 200 ميل طولي من سواحلها، ويفرض عليها في نفس الوقت توفير حرية وتأمين سلامة الملاحة البحرية في تلك المنطقة. ومن حق كل دولة أن تنتفع من ثروات تلك المنطقة الطبيعية من نفط وغاز وموارد طبيعية.
منطقة شرق المتوسط منطقة ذات طبيعة خاصة ومختلفة عن غيرها لأنها حوض مائي ضيق به مجموعة دول ساحلية متقابلة، وبها العديد من الخلافات السياسية الحادة بين دول الحوض، وتنتشر فيها صراعات وسباقات على اكتشافات الغاز الطبيعي ما يدفع أغلب الدول لترسيم حدودها بشكل يمنحها أكبر قدر ممكن من المساحات المائية التي تساوي مكاسب اقتصادية ضخمة. هذا المشهد المتشابك يجعلنا قادرين على فهم سبب تعقيد عملية ترسيم الحدود بين الدول، ولماذا لم تكن هناك سوى 3 اتفاقيات ترسيم حتى شهور قليلة ماضية؛ (مصر وقبرص 2003)، (لبنان وقبرص 2007)، (إسرائيل وقبرص 2010).
ما سبب الخلاف التركي-اليوناني؟
تعود أصول الخلاف التركي-اليوناني لأسباب تاريخية بالمقام الأول واقتصادية ترتب على تلك التاريخية. بعد الحرب العالمية الأولى فقدت تركيا أغلب جزرها الموجودة في شرق البحر المتوسط لصالح اليونان. تلك الجزر واقعة قدامة السواحل التركية مباشرة لكنها خاضعة للسيادة اليونانية. وينص قانون البحار على أن الجزر، وبغض النظر عن حجمها أو موقعها الجغرافي، تتمتع بمناطق اقتصادية خالصة على غرار السواحل. ما يعني أن الجزر الواقعة قبالة السواحل التركية مباشرة، ولكنها تحت السيادة اليونانية (رغم بعدها آلاف الكيلومترات عن اليونان) تُفقد تركيا كل المناطق الاقتصادية الخالصة قبالة سواحلها.
وبسبب ذلك رفضت تركيا التوقيع والانضمام لقانون البحار لأنه يظلمها ويضيع حقوقها في المياه والمناطق الاقتصادية الخالصة أمام سواحلها لصالح اليونان. ومن ناحية المنطق يصعب تصور أن تخسر دولة كل تلك المساحات بسبب جزر ملاصقة لسواحلها، لكنها غير تابعة لها، رغم أنها كانت تابعة لها في التاريخ القريب.
وبسبب ذلك الخلاف اليوناني التركي، لم يتم ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين وظل الأمر معلقاً. وانعكس بطبيعة الحال على ترسيم الحدود البحرية المصرية من ناحية الغرب سواء مع اليونان أو مع تركيا. يعزو ذلك لإدراك مصر أبعاد الخلاف بين تركيا واليونان وعدم رغبة مصر لترسيم الحدود مع طرف دون الآخر بما يؤدي إلى توتر في العلاقات مع مصر (علاقات مصر مع تركيا أو اليونان قبل الربيع العربي لم تشهد توتر أو أزمات كما هو حادث الآن).
وبالتالي كان الترجيح المصري هو أن هذا الأمر يحتاج إلى توافق وتفاهم بين الدول الثلاث مصر وتركيا واليونان. من هنا نتوصل لنتيجة هامة وهي أن ترسيم الحدود البحرية في منطقة مثل حوض شرق المتوسط من الصعب أن يعتمد فقط على قانون البحار وأنه لابد أن يكون هناك مساحة من الاتفاق والتفاهم بين الأطراف المشتركة في الحدود البحرية للوصول لحل مناسب.
على الهامش، تركيا ليست الدولة الوحيدة التي لا تعترف بقانون البحار. الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا والكيان الإسرائيلي لم تنضم لاتفاقية البحار اعتراضاً على أجزاء في الاتفاقية وبعضهم اعتراضاً على البند الذي يمنح الجزر مناطق اقتصادية خالصة.
لماذا اشتعل شرق المتوسط؟
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 رسمت تركيا على حدودها البحرية مع ليبيا بعدما أعلنت اليونان اعتزامها التنقيب والاستكشاف في المياه المتنازع عليها مع تركيا. بعد توقيع تركيا وليبيا على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية، سعت اليونان بجدية إلى ترسيم حدودها البحرية مع مصر وإيطاليا من أجل محاصرة الاتفاق التركي الليبي قانونياً، ما يعني امتلاك اليونان أدوات دبلوماسية تستند إلى قانون الأمم المتحدة في مواجهتها مع تركيا. وبالرغم من الخلاف الطويل بين اليونان وإيطاليا حول ترسيم الحدود البحرية إلا أن اليونان أبرمت اتفاقها مع إيطاليا في بداية شهر يونيو/حزيران وأعقبت ذلك بترسيم الحدود مع مصر بعدما قدمت بعض التنازلات لكلا الطرفين.
لكن هل الاتفاق التركي الليبي يضر بمصلحة مصر؟
الإجابة ببساطة هي ما قاله وزير الخارجية المصري سامح شكري شهر في ديسمبر 2019 في أحد المؤتمرات: "لا يوجد مساس لمصالحنا في مصر من اتفاق تركيا وحكومة طرابلس".
إذ وضعت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا خريطة جديدة لشرق المتوسط، والتي كان لها تأثير وانعكاس مباشر يتوافق مع المصالح المصرية من زاويتين:
- بعد اكتشاف "حقل ظهر" في 2015 وهناك هدف واضح تسعى مصر لتحقيقه وهو أن تصبح المنصة الرئيسية لتصدير الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا. تمتلك مصر أفضلية في ذلك الصدد بامتلاكها محطتين لتسييل الغاز علي ساحل البحر المتوسط (محطتي إدكو ودمياط)، ما يعني أن لها حظوظاً عالية في هذا المجال.
لكن واحدة من التحديات التي من الممكن أن تمنع تحقيق ذلك الهدف هو أن تصدر دولة أخرى من دول المنطقة الغاز بطريقة أرخص وأسهل وأسرع من تصدير الغاز المسال من مصر؛ لأن حينها ستفقد مصر الميزة التنافسية. وهناك نية جادة لإسرائيل وقبرص واليونان واهتمام من الاتحاد الأوروبي بإنشاء خط غاز East Med في المياه العميقة للبحر المتوسط (الخط الأخضر في الخريطة المرفقة أعلاه) والذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان ومنها إلى أوروبا، ليصبح أحد البدائل التي تسعى إليها أوروبا في محاولة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي الذي يسيطر على أكثر من ثلث واردات الغاز لأوروبا. وخلاصة الحديث عن خط East Med أنه إذا دخل حيز التنفيذ سيعني خسارة مصر لدورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.. ومن هنا نستطيع أن نفهم بسهولة أنه ليس من مصلحة مصر بأي حال من الأحوال إنشاء وإنجاز خط East Med. ويترتب على ذلك أن أي ترسيم حدود بحرية يقطع الطريق على الخط ويعيق إنشاء هذا المشروع يتماشى بشكل مباشر مع المصلحة المصرية ويعضد من آمال مصر في تحقيق حلمها بأن تصبح المنصة الرئيسية في شرق المتوسط لنقل وتصدير الغاز المسال إلى أوروبا. ومن الواضح أنه ليس من مصلحة مصر بأي حال من الأحوال إنشاء وإنجاز خط East Med لأنه لو تم إنشاؤه ستخسر مصر دورها وهدفها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. وهذا يعني أن الاتفاقية التركية الليبية تصبّ في مصلحة مصر لأن ترسيم الحدود التركية الليبية يقطع الطريق على خط East Med ويجعل مرور الخط يمر عبر المياه التركية، ومن غير الوارد على الإطلاق أن توافق تركيا على مروره في ظل أزماتها مع قبرص واليونان. وهذا أمر صعب جداً أن توافق تركيا عليه في ظل أزماتها مع اليونان وقبرص (خريطة (1) الخط الأخضر هو خط East Med يمر بالمنطقة ذات اللون البني الداكن التي تعتبر منطقة تركية وفقاً للاتفاقية التركية الليبية).
- من ضمن أسباب الرفض المصري المتكرر سابقاً لترسيم الحدود البحرية مع اليونان أن الرؤية اليونانية تهدر مساحات شاسعة من المياه الاقتصادية الخالصة المصرية. لكن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية تعطي مصر الحق في منطقة اقتصادية خالصة مساحتها حوالي 15 ألف كيلومتر مربع (مساحة تساوي مساحة محافظة الجيزة) بالمقارنة بالرؤية اليونانية التي ترى أن كل تلك المساحة من صالح اليونان. (للتوضيح انظر خريطة (1) الجزء المظلل باللون البرتقالي هو المساحة التي من حق مصر وفقاً للاتفاقية التركية الليبية وهي نفسها المساحة التي فقدتها مصر بقبولها ترسيم الحدود مع اليونان وفق الرؤية اليونانية). من الواضح أن ترسيم الحدود التركية الليبية في مصلحة مصر من ناحية توسيع مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة المصرية.
بعد شرح النقطة الأولى والثانية يمكن التوصل لنتيجة مفادها أن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا تتوافق مع المصالح المصرية في شرق المتوسط، كما تحافظ على تفوق مصر في شرق المتوسط كمنصة إقليمية مستقبلية لتصدير الغاز الطبيعي.
نتائج الترسيم المصري-اليوناني
حتى هذه اللحظة لم يتم نشر نص الاتفاقية أو نشر الإحداثيات التي تم الاتفاق عليها بين مصر واليونان. كل ما نشر كان مجرد خريطة مرسوم عليها النقاط التي تم الاتفاق عليها وأشارت وسائل الإعلام اليونانية أنها حصلت عليها من مصادر دبلوماسية.
أغلب الظن، أن ما تم نشره في وسائل الإعلام اليونانية هو ما تم الاتفاق عليه بالفعل. وهو ما يعني أن اليونان تنازلت عن جزء من رؤيتها للمناطق الاقتصادية الخالصة التي لطالما طالبت بها. وهو ما يعني أيضاً أن اليونان لم ترسم حدودها البحرية مع مصر وفقاً لقانون البحار وتحديداً فيما يتعلق بالجزر. وهذه نقطة يمكن للجانب التركي استخدامها في مفاوضاته مع الجانب اليوناني، الذي كان رافضاً التنازل عن مبدأ الجزر في عملية الترسيم البحري.
هل التنازل اليوناني مكسب مصري؟
هنا تكمن نقطة هامة يجب توضيحها وهو أن التنازل كان وفقاً لوجهة النظر اليونانية، بمعنى آخر ترى اليونان أنها تنازلت عن جزء كبير من حقوقها في المناطق الاقتصادية الخالصة. ولكن من ناحية مصر فقد خسرت الأخيرة الكثير من المساحات التي كسبتها من ترسيم الحدود التركية الليبية. وهذا من الممكن ملاحظته بسهولة عن طريق المقارنة بين الخريطة (1) والخريطة (2).
الخريطة (1): المنطقة المظللة باللون البرتقالي هي منطقة من حق مصر وفق الاتفاق التركي الليبي.
الخريطة (2): المنطقة المظللة باللون البرتقالي هي منطقة من حق مصر وفق الاتفاق المصري اليوناني الأخير.
المنطقة التي تفقدها مصر من المياه الاقتصادية الخالصة بعد توقيع الاتفاق مع اليونان هي ثلثا المنطقة المظللة باللون البرتقالي في الخريطة (1) أي أن مصر تفقد حوالي 10 آلاف كيلومتر مربع من المياه الاقتصادية الخالصة لصالح اليونان حيث تتقلص المنطقة البرتقالية كما هو موضح في الخريطة (2).
من الممكن أن يعترض أحدهم ويجادل بأن الاتفاقية التركية الليبية لا تستند للقانون الدولي وأن المساحة الكبيرة التي تحصل عليها مصر من الاتفاق التركي الليبي يصعب الاعتماد عليها وأن الاتفاق المصري اليوناني قانوني والمساحة الصغيرة اللي مصر حصلت عليها يمكن الاعتماد عليها فعلياً.
لمثل هذا الطرح أقول: إن كل تلك الاتفاقيات هي اتفاقيات مؤقتة، تحكمها موازين القوى، بغض النظر اعتمدت على قانون دولي أو لم تعتمد. كل الاتفاقيات ستبقى مؤقتة طالما أن المنطقة فيها توتر وأزمات وأن الدول المشتركة في الحدود البحرية لم تتفق جميعها على شكل الترسيم البحري بينها. والهدف الحقيقي من كل تلك الاتفاقيات هو أخذ خطوات استباقية وفرض أمر واقع قبل الدخول في مفاوضات أو تسويات نهائية في المستقبل. بمعنى آخر الاتفاقيات التي توقع حالياً في شرق المتوسط إما أن تقوّي موقفك أو تضعفه في أي تسويات أو اتفاقيات مستقبلية.
من الممكن أن يكون توقيع مصر لاتفاقية ترسيم الحدود مع اليونان مجرد مناورة أو نكاية سياسية في تركيا تقوم بها، وهي مدركة أن الترسيم الحالي مؤقت. لكن في نفس الوقت تلك المناورة تخصم من مصر مساحة كبيرة في أي مفاوضات مستقبلية، طالما ارتضيت الترسيم بهذا الشكل. باختصار خسرت مصر حوالي 10 آلاف كيلومتر مربع كان من الممكن استخدامها في أي تسويات مستقبلية.
أضرار أخرى
إحدى تبعات الترسيم البحري الحالي بين اليونان ومصر أن يعطي إسرائيل واليونان وقبرص مسوغاً قانونياً وضوءاً أخضر لإنشاء خط الغاز East Med استناداً للقانون الدولي. ورغم أن مصر واثقة من أن إسرائيل وقبرص واليونان لن تقدر على إنشاء الخط بسبب المعارضة التركية، حتى ولو امتلكوا مسوغاً قانونياً واستندوا إلى القانون الدولي، وهكذا لا تخسر مصر موقعها كمنصة إقليمية في المستقبل بسبب ترسيم حدودها مع اليونان. لكن مثل هذا القرار يعني أن مصر كانت تناول وهي غير مدركة لحجم المكاسب والمخاطر من الترسيم مع اليونان سوى النكاية في تركيا.
وفي نفس الوقت تعرض نفسها لمخاطر كبيرة في المستقبل، أقلها أن تصر إسرائيل وقبرص واليونان على إنشاء الخط بدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية الذين من مصلحتهم بناء الخط لمواجهة تمدد الغاز الروسي في القارة العجوز.
وقد ينتج عن ذلك توافق بين مؤسسي خط الغاز مع تركيا لتمرير الخط في مقابل ملفات أخرى مشتركة بين تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. أو أن تتفق تركيا وإسرائيل على إنشاء خط غاز من إسرائيل لتركيا ومنه لأوروبا، وهذا الخط سيكون أرخص وأوفر وأسرع من خط East Med. كل هذه مخاطر واقعية نتيجة ترسيم حدود مصر مع اليونان وإعطاء إسرائيل وقبرص واليونان أوراق ضغط في مشروع خط East Med من الممكن أن تتسبب على المدى البعيد في خسارة مصر لدورها في المنطقة كمنصة إقليمية للغاز الطبيعي.
باختصار وواقعياً، لم تستفد مصر أي شيء من ترسيم الحدود مع اليونان سوى النكاية السياسية في تركيا. وللأسف ستدفع مصر ثمن هذا التوقيع غالياً في خسائر اقتصادية مكلفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.