أمة تابعة للغرب، مستهلكة لا منتجة.. هل تُصلح الثقافة ما أفسدته السياسة في بلادنا العربية؟

عدد القراءات
1,711
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/12 الساعة 15:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/12 الساعة 15:08 بتوقيت غرينتش

بعد اندلاعِ ثوراتِ الرَّبيع العربيّ، والنتائج الأوليّة من نجاحها في تونس، وإخفاقها في مصر بعد الانقلاب على الحكومة الشرعية، والنّزاع المستمر في اليمن وسوريا وليبيا وسلسلة المظاهرات القائمة في العراق ولبنان، المطالبة بإسقاط الحكومة ومكافحة الفساد، وعمليات اعتقال تقوم بها دولٌ ريعيّة لمشايخ وعلماء ومفكّرين ومثقّفين ومؤثرين في الشأن العامّ .

وبعد المحاولات المتكرّرة من الشباب للتغيير، سواء في المظاهرات أو الاعتصامات في السّاحات، علاوة على فشلهم في التغيير عن طريق السلاح، يتساءل الكثيرُ منهم: هل نعود للثقافة ونشر الوعي؟ وما مدى تأثير الثقافة على السياسة؟ وهل يجب أن نستعين بالثّقافة الغربيّة للنّهوض؟

محاولة في فهم الثّقافة والمثقّف 

فكرة الثقافة جاءتنا من أوروبا، وهي ثمرةٌ من ثمراتِ عصرِ النّهضة في القرنِ السابع عشر. وإذا أردنا تعريف الثّقافة يقول الكاتب ويليامز: لا أدري كم مرّة تمنيت في حياتي ألّا أكون قد صادفت هذه الكلمة اللّعينة، هي واحدةٌ من اثنتين أو ثلاث كلمات الأكثر تعقيداً على الإطلاق في اللغة الإنجليزية. وللثقافةِ تعريفاتٌ تتجاوز الــ164 تعريفاً. ويمكن تعريفها باختصار: "هي مجموعُ المعلوماتِ والقيمِ الحاكمةِ للسّلوك"(1). 

ولا وجودَ في اللغةِ العربيةِ لكلمةِ (مثقف)؛ لكونها لا ترتبطُ في الثقافةِ العربيةِ بمرجعيةٍ محددة. ولفظُ (مثقف)، بحسبِ محمد عابد الجابري لا يعدو أن يكون مجرّد صيغة قياسية: اسم مفعول من فعل (ثقف)، ولم تَرِدْ هذهِ الصيغةُ في النصوصِ العربيّة إلا نادراً جداً، والنّادر لا يُمَثِّلُ مرجعية (2). 

وأيضاً نجد إشكاليّة في مفهومِ المثقّف، وضبابيّة في التعريفات، وهنالك مفكرون حاولوا أن يعرِّفوا المثقف، والبعض منهم يرى أن المفهومَ لم يُعَرَّف بعد.

حيث يرى محمد عابد الجابري أنه على المثقّف أن يفكّر في الأفكارِ الجديدة، بعيداً عن التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ. ويرى عبدالله العروي أن هدفَ المثقّف ليس مواجهة السلطة والحاكم، بل تحريكُ الرّكود الاجتماعي، وفي المقابل يرى برهان غليون أنه على المثقّف الدخول في الصراع الاجتماعيّ والسياسيّ، ويجب أن يكون له تأثيرٌ واضحٌ. ويرى عزمي بشارة أن دور العلماء أو أهل العلم في عصور الخلافة الإسلامية مرتبطٌ بنقدِ المجتمعِ والسلطان، وهذا ما يجبُ أن يميّز المثقّف اليوم.

والاعتقاد السائد لدى مجتمعاتنا العربية أن المثقّف بلا ريبٍ ذلك الذي يُحسن القراءة والكتابة، ذلك الذي يمارس نشاطاً ذهنياً، سواء كان طبيباً، كاتباً، مترجماً، مهندساً، مدرّساً، أم كادراً (3). 

وهذا التعقيد للمفهوم والضبابية ووفرة التعاريف وتنوعها وتقاطع بعضها وتعارض البعض الآخر يجعلنا نقول إن المثقّف هو الإنسان المتعلّم (معرفته القراءة والكتابة) وغير المتعلّم (غير الحاصل على شهادة علمية باختصاص محدد)، ذو خبرة واقعية وعلمية، قارئ للتاريخ ومواكب لتطوّرات العصر وتقانته واستشراف المستقبل، يُنتج فكراً أو يستهلكه، ويُراكم معرفة (تحديداً في مجال العلوم الإنسانية)، صاحب منهج فكري، يُفسّر به الواقع ويحاول تغييره، لمصلحة الناس جميعهم (4). 

الثقافة وتأثيرها في السياسة

ثقافة الأمم امتداد لعقائدها وتاريخها، ومعركتنا مع الأمم هي معركة ثقافيّة بامتياز، يرى البعض إمكانية تغيير واقعنا من خلال نشر الثقّافة والوعي في المجتمع، وتدريجياً سيصطلح المجتمع، وأن كل فردٍ في المجتمع عليه جزءٌ من المسؤولية، وعند وصولِ المجتمع لنضج ووعي معين ستتكرس هذه المعطيات للمساعدة في التغيير السياسيّ، وسيؤدي إلى تشكيل الجمعيات الإصلاحية والأحزاب والدعوة للتغير ونبذ الظلم والحرب على المفسدين والدّعوة للعدل والمساواة والحرية، وبذلك تستطيع الثّقافة أن تصلح ما أفسدته السياسة.

لكن البعض الآخر لا يعول كثيراً على الثّقافة، فالكثيرُ من المثقفين والمفكرين وحتى العلماء وقفوا بجانب الأنظمة الحاكمة، رغم ما قامت به من جرائم ضد الإنسانية وقتل وتدمير للبلاد، ويرون أن الحلَّ هو في تغيير السلطةِ السياسيةِ الحاكمة، وأي حديثٍ خارج إطار السياسة والاستبداد هي قضايا جانبية ومضيعة للوقت، ولن تستطيعَ أن تصلحَ أي شيء.

ربما لو استطعنا الجمع بين وجهتيْ النظر يمكن أن نصل لتغيير حقيقي في المجتمع، فالعملُ على توعيةِ الفرد والأسرة والمجتمع والعمل على ترميم نظام التّعليم واستصلاحه والتوسعة في نشر الثّقافة الحقيقية للشعوب والتعريف بالمسؤولية المترتبة على عاتق كل فرد وجماعة، وتشجيع الشباب وإعطاؤهم حق المبادرات، ستجعلنا نخرج بمجتمع واعٍ وبنخبة ثقافية شبابيّة واعية، ستصنع فارقاً مع التحرك والزج والتحشيد ضد الأنظمة الاستبدادية. 

هيمنة الثقافة الأجنبيّة على ثقافتنا 

بعد سقوط الخلافة العثمانية رضعتِ الأمّة من ثديّ الثّقافة الأوروبيّة، وأصبحت أمة تابعة ومستهلكة لا منتجة موجدة، فأنظمة الدول العربية والإسلامية تستخدمُ المناهج الغربيّة في التّعليم والتّدريب والبناءِ وغيرها من المجالات، وتلهث الحكومات وبعض التّجار من أصحابِ المال لتتشبه بالحضارة الأمريكية والأوربية واستنساخها والانفتاح على الآخر، فَهُم يريدون أن ننهض بعقول الآخرين، ويريدوننا أن نصلَ إلى التقدم والتطور بعلومهم وبفكرهم، ويصفون علومنا الموجودة في التراث بأنها رجعيّة وتقليديّة قديمة. 

يريدون أن نأخذ ما هبّ ودبّ من الثقافات الأخرى، أو أن نُرَقِّعَ ونُلَقِّح ثقافتنا، ويعبر عن هذه الحالة قاعدة ابن خلدون الاجتماعية (المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب)، وهذه الإشكالية تختص بجميع النماذج الثقافية العربية وغيرها. وعمل المستعمرون وبعدهم المستبدون على تغييب تراثنا الإسلامي العتيق عن ذاكرة شعوبنا الإسلامية، حيث نرى نتاجها اليوم على المجتمعاتِ العربية والإسلامية التي مُسخت وانسلخت عن تراثها وهويتها الأساسية، كالمجتمع التركيّ المسلم، فبعد الإصلاحات التي قام بها أتاتورك: كمنع لبس الطربوش كإصلاحات شكليّة، وتغيير أحرف الكتابة من العربية إلى اللاتينية "فإن طريقة الأمة في الكتابة هي ذاكرتها وسبيل استمرار وجودها التاريخي، وعندما ألغَت تركيا الحروف العربية فَقَدت كل ثَرَاء الماضي الذي حفظته الكلمة المكتوبة" (5). وبعد سلسلة من الإصلاحات تخلوا عن إرثهم الثقافي، ولحقوا موجة التغريب والتوجه كلياً نحو الغرب، وهذا ما جعل الأجيال التركية المسلمة تبتعد عن ماضيها العريق، وانسلخت تماماً عن جذورها وتراثها المديد.

هل نأخذ من غيرنا ما نحتاجه؟

والحقيقة المُرَّة الماثلة أن من يريد استيراد حضارةٍ ما واستنساخها، يشبه فعله فعلَ بستانيٍّ في أرضٍ ليس فيها تربة مساعدة، ولم تُحرَث ولم تُسَمَّد، ودون أن يقوم هذا البستاني بأقلّ عمل من أجل إعداد هذه الأرض للزّراعة، وبدون أن يدرس الطقس، ويدرس احتياجاته إلى ثمارٍ خاصة، إنه فقط شاهد بستان جاره يحتوي على ثمار غضة ولذيذة وجميلة، فدفع نقوداً واستحضر أشجاراً مثمرةً وزرعها في أرضٍ غير صالحة، وفي طقسٍ غير مناسبٍ، بل ومختلف، وبعد يومٍ أو اثنين أو أُسبوع رأى أنه قد صار أيضاً من أصحابِ البساتين، إن بستانه يُشبه بستان جاره تماماً، فيها نفس الأشجار ونفس الثمار، لكنَّ هذا التوفيق توفيق كاذب. إن الحضارة والثقافة بضاعة لا تُصَدَّر ولا تُسْتورد. إن الحضارة التي تُسْتورد عبارة عن: تكرار مستمر لخدعة تستلفت الأنظار، ولكنها خادعة وكاذبة ولا تصل إلى نتيجة أبداً (6).   

ويجب علينا ألّا نقبل أن نأخذ من غيرنا ما نحتاجه، وأن ننتجَ في عقولنا ما نحتاجه، كما أنتجوا بعقولهم نُنْتِجُ بعقولنا، وأن نأخذ ما نحتاجه، هذه كلمة تدعو إلى الاسترخاء وإلى الكسل والنوم، والجيل يجب أن يُربَّى على اليقظةِ والجدِّ ويُربَّى على أنّه ليس أمامه إلا الجد أو الطوفان (7).

المصادر:

[1]  مقطع يوتيوب، د.طارق السويدان، ما هي الثقافة؟ الدقيقة: 01:50.

[2] محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، ط2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000)، ص9.

[3] داريوش شايغان، النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا (بيروت: دار الساقي، 1991)، ص145.

[4] أحمد مفلح، دلالات مفهوم المثقف: قراءة في كتاب "دور المثقف في التحولات التاريخية" (تبين: العدد 31/8)، ص59.

[5] علي عزت بيغوفيتش، الإعلان الإسلامي (القاهرة: مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع، 2009)، ص73.

 [6] علي شريعتي، مسؤولية المثقف: المثقف الأصيل والمثقف المقلد   (بيروت: دار الأمير، 2007)، ص96-97.

[7] مقطع يوتيوب، د. محمد محمد أبوموسى، برنامج سؤال الثقافة الحلقة السادسة. الدقيقة: 09:40.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

إياد السمعو
مدون وطالب جامعي
درست الاقتصاد لمدة عامين في جامعة حلب، ثم انتقلت إلى تركيا، وبدأت دراسة نظم معلومات إدارية، في السنة الرابعة حالياً، كتبت في «ساسة بوست» و«مدونات الجزيرة» و«مقال كلاود»، مهتم بالقراءة والكتب وثورات الربيع العربي، وخصوصاً الثورة السورية، لأنها مَن صنعتني، وإليها الجهد كله.
تحميل المزيد