الصافي سعيد: المثقّف المغترب في صحراء البرلمان التونسي

عدد القراءات
966
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/10 الساعة 11:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/10 الساعة 11:30 بتوقيت غرينتش
المفكر التونسي الصافي سعيد

كانت علامات التوتر صارخة على وجهه، اصطنع ملء القصاصة ولم يفعل، ثمّ صوّت بورقة بيضاء على لائحة سحب الثقة من رئيس البرلمان، هذه تقريباً خلاصة الفيديو للكاتب الذي اعتاد أن يُشعل جدل التونسيين بأقواله ومداخلاته، ولكنه هذه المرّة ألهبه دون أن يكتب أو يتكلم.

ليست المرة الأولى التي يشغل فيها المفكر والبرلماني التونسي الصافي سعيد، صفحات التواصل الاجتماعي وأروقة فيسبوك، ولن تكون المرّة الأخيرة التي تضيع فيها المعاني وتتلاشى فيها كل التعابير، في خضم صخب "الهوليغانز" السياسي، من أولئك الذين لا مدخل لهم لفهم أي معطى كان، إلا من بوابة العاطفة المنفعلة أو من قوس الغريزة الانتهازية، فانحصر تعاطيهم كعادته بين ثنائية الشيطنة والتمجيد، اللّتين مازالتا تكبّلان الوعي الجمعي التونسي في أغلال الغلوّ، وتمنعانه من أي تشكّل سليم، فما الفاعلون في الشأن العام بأنبياء ولا هم بشياطين، كما عنون الصافي كتاب "الحمى 42". 

غير أن بعض المشاهد كما كان يردد المرحوم حسنين هيكل مراراً، إذا نجحنا في تفكيك طلاسمها، فإنها لن تفسّر لنا تفاصيل لحظة التقاطها فحسب، إنما قد تبوح لنا بمكنونات مرحلة بحالها أو ظاهرة بعينها.

ولعل مقطع الفيديو ذاك، الذي لم يتجاوز الـ15 ثانية، كان من تلك الطينة التي ذكرنا، إذ كان بين حناياه محمّلاً بمتناقضات عجيبة تعبّر عن مجاز عميق. فقد ظهر لنا الكاتب الكبير لوهلة وكأنّه يصارع قلمه ويغالبه ثم ينتهي بأن يُلجمه ويسكته، وهو خليله الذي ناجز به الحياة واختط به مجده، فشكّل به مصائر وهدّم به أخرى. لابد أنه لم يكن من الهيّن على محارب أن يغمد سيفه، ولا كان من اليسير على كاتب أن يُلجِم قلمه، إلا أن الوضع كان استثنائياً.

فلو وضعنا هذا المشهد في سياق أنه التقط خلال الجلسة الختامية لدورته البرلمانيّة الأولى، لوجدناه أبلغ التعابير وأدقّها، بل وأجدر الصور بأن تكون غلافاً، لرواية: 

"سنة أولى ممارسة سياسية للمثقّف التونسي"

فلا بد أن التجربة الديمقراطية التونسية، في حاجة ماسة لما يشابه "المثقّف العضوي" لدى "أنتونيو غرامشي"، أو نسخة وطنية مقتبسة من "المثقف العمومي" لدى "ماكس فيبر". ولا بد أن طليعة من المثقفين التونسيين، قد شرعت فعلاً في اقتحام فضاءات العمل السياسي المباشر، من أمثال جوهر المباركي والحبيب بوعجيلة وعلى رأسهم الصافي سعيد.

غير أن هذا الانتقال من ترف التنظير والتحليل ومساحات التجريد عموماً، إلى ساحة الاشتباك السياسي من المسافة صفر، مسار شاق ومخاض ومعاناة، حوصلها مشهدنا المذكور في نقطتين اثنتين:

1-المثقّف المُبتعد: 

بداية، دلالة ما عوّدنا به الصافي واعتاده، من التنائي بنفسه الى طرف المجلس، وكأنه نخلة الرّصافة في زهراء قرطبة، فيحيلنا ذلك على حالة الغربة والاغتراب التي يعيش، وتلك صورة اعتبارية تعكس الموضع الحالي للفكر والمثقفين في ساحتنا السياسية القاحلة، الخالية من أيّة مضامين أو رؤى، والغارقة في البراغماتيات اللحظية، المنجرفة وراء المجاراة والمعالجات السريعة، بما يجعل كل ما يحمله المثقّف من زاد معرفيّ يفقد قيمته، بل ولعله يتحول الى حمل وزِينٍ يُثقل صاحبه ويكبّله، فيجعل منه آخر المتخلفين في مضمار المائة "تكانبينة" حواجز، حيث لا وقت للتوقف عند الأحداث والتمعّن في سياقاتها، ولا حاجة لعرضها على نماذج تفسيرية لفهم مآلاتها، وإنما الشطارة كل الشطارة، في الأقدر على التنصّل من الوعود والانقلاب على العهود، والتملّق والتصنّع.

كما أن حرصه الدائم على الانتصاب في أعلى نقطة في المجلس، ربما يعكس كبرياء واستعفاف المثقفين من الخوض مع الخائضين، ولكنه قد يجد كذلك ما يفسّره في الفضول المعرفي لدى الكتّاب، الذين يحرصون على الفهم والاستنباط من خلال مراقبتهم لكل تفاصيل المشهد، أكثر من حرصهم على المشاركة في صناعته أو إعادة تشكيله، فهم جنس فريدٌ من البشر يبحثون في كل حدث أو صورة، عن مصدر إلهام لقصة أو رواية جديدة، تحرر صراعهم النقديّ مع الواقع من ضيق اللحظة التي قد ينهزمون فيها، وتدفع بمعاركهم إلى قاضي التاريخ حتى يثأر لهم ويخلّد نصرهم.

2-المثقّف المُبعد:

وأما الملاحظة الثانية، فظهوره وهو يتصبّب ارتباكاً وتردّداً وكأنه مطارد مراقب -وقد كان من صوّره فعلاً يراقبه- وذلك في اتصال بالنقطة الأولى من تجليات الاغتراب الذي يعيشه المثقفون لا ريب، ولكن أيضاً محاكاة لما يلحقهم من استهداف. فعلاوة على عرضتهم الدائمة لمحاولة الترويض والتطويع، كأبواق تسويغ وتبرير، لواقع لا يساهمون في صياغته ولا قول لهم في تشكيل ملامحه.

 فإن الخطاب النخبوي في حد ذاته مستهدف بحملات ترذيل عاتية، فتلك سمة أساسية لعصر الشعبوية، حيث تقوم أطروحتها الأساسية على تملّق الجماهير من ناحية، وتتفيه النخب من ناحية أخرى بل وتخوينهم، بترويج سموم، من قبيل: 

"اتركك منهم فهذا كلام معقد، تنظير وتفلسف زائد".  

وكأن الفلسفة مسبّةٌ وليست أم العلوم، أو كأنّها علم لا علاقة له بالسياسة من قريب أو بعيد، في حين إنها لدى أرباب الديمقراطية الإغريقية، توأم ملازم للسياسة، فما السياسة عندهم إلا الترجمة العملية للحكمة، في حين أن الفلسفة هي الحكمة النظرية.

إن أصحاب الكلمة والقلم، مخيرون إما بالخضوع لمراكز القوى والحاكمين، أو مجاراة الرأي العام وتملّق المحكومين، أو أن يبقوا فعلاً مثقفين، فالمثقف هو:

 من يسعى إلى فهم المشهد باعتماد قواعد عقلانية تراعي السنن الكونية، ولا ينسج قراءاته اتباعاً لتقلبات المزاج العام وأهوائه من جهة، وذلك ما يمكن تسميته بالمسؤولية الأكاديمية للمثقّف.

وأما المسؤولية الأخلاقية، فتحتّم عليه اعتماد قيم الديمقراطية وأسسها كمحدد لمواقفه، لا التماهي مع مراكز القوى أو مخالفتها. 

ولذلك فان غياب المثقفين، من خلال إبعادهم او ابتعادهم، تعرية للساحة العامة وتعميق لتصحّر الثقافة السياسية فيها، وذلك ما يغذّي قابليتها للانجراف الشعبوي الذي يكاد أن يقوّض البناء الديمقراطي من أساسه. 

ولهذا فإنني لم أكن هنا بصدد تقييم تجربة الصافي سعيد بقدر ما أنا بصدد تثمين خوضه لها، فما هو إلا بفاتح ثغرة صغيرة في كثبان البداوة السياسية، لعلّ الزمان يوسّعها، وأنا على يقين بأن الأجيال الجديدة من المثقفين ومن اختاروا الفكر والكتابة كمدخل للشأن العام وهم كثر ومن مشارب متعدّدة، يرقبون هذه التجربة وغيرها، بعين من كان في حاجة إلى مثل ونماذج عمليّة، يستنيرون بخطاها، أما تأصيلها النظري، فإني أكاد أجزم بأن الصافي سيقدّم للتجربة التونسية إسهاماً يليق به فيه، ولكن ذلك لن يكون حتى يتصالح الصافي مع قلمه الذي ألجمه، ولن تكون هذه المصالحة حتى يجد لنفسه مخرجاً مشرّفاً من ضوضاء السياسة وأضوائها، يؤمّن له انسحاباً آمناً من صحرائها.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
أيمن عبيد
كاتب وناشط سياسي تونسي
كاتب وناشط سياسي تونسي
تحميل المزيد