أكدت مصادر عسكرية استمرار الجيش الإسرائيلي في حشد قواته والدفع بتعزيزات على طول الحدود مع لبنان هي الأكبر منذ حرب 2006، على خلفية التوتر في أعقاب قيام القوات الإسرائيلية مساء يوم الإثنين 20 يوليو/تموز الماضي بضربة جوية استهدفت مخزناً للذخائر لحزب الله في محيط مطار دمشق، مما أدى لمقتل القيادي علي كامل محسن، وكذلك التوترات على خلفية اتهام إسرائيل بالضلوع في تفجيرات مرفأ بيروت، وإن لم تُعلن التحقيقات حتى الآن إذا ما كان الانفجار بفعل فاعل أم أنه نتيجة حادثٍ عرضي وإهمال. غير أن العمليات الإسرائيلية ضد الحزب تنوعت بين تدمير خطوط إمداد وبنية تحتية واغتيالات، تلك الاغتيالات الإسرائيلية لكوادر الحزب وقياداته تسارعت بوتيرة مطردة منذ نهاية حرب تموز 2006، وشملت عدداً من القيادات الرئيسية في الجناح العسكري للحزب.
على رأس تلك القيادات يأتي عماد مغنية القائد العسكري للحزبالذي لقي حتفه في انفجار سيارة مفخخة في دمشق فبراير/شباط 2008، ومصطفى بدر الدين القائد العسكري للحزب خلفاً لمغنية والذي أعلن الحزب مقتله في قصف مدفعي بالقرب من مطار دمشق في مايو/أيار 2013، وحسان اللقيس رئيس قسم المشتريات العسكرية داخل الحزب ومسؤول الاتصالات والتكنولوجيا والذي قُتل في إطلاق نار مباشر بالقرب من منزله في ضواحي بيروت ديسمبر/كانون الأول 2013، وجهاد مغنية ابن عماد مغنية وابن شقيقة مصطفى بدر الدين وقُتل مع خمسة رفاق له من بينهم القيادي في الحزب محمد أحمد عيسى مسؤول ملف سوريا والعراق بالحزب من خلال غارة جوية بالقنيطرة يناير/كانون الثاني 2015، وغسان الفقيه والذي قُتل في القلمون في ريف دمشق يونيو/حزيران 2015، وسمير القنطار عميد الأسرى المحررين والذي اُغتيل خلال قصف صاروخي على مدينة جرمانا جنوب دمشق، ديسمبر/كانون الأول 2015،ومشهور زيدان تمت تصفيته خلال هجوم صاروخي على ريف دمشق يوليو/تموز 2019، وعماد الطويل مسؤول العمليات الخارجية لحزب الله في سوريا والذي تم تحييده فبراير/شباط 2020 في القنيطرة عبر هجوم بطائرةٍ مسيرةٍ، ومحمد علي يونس مسؤول ملاحقة العملاء والجواسيس والذي قُتل رمياً بالرصاص في جبشيت أبريل/نيسان 2020، انتهاء بمقتل علي محسن يوليو/تموز 2020 أي قبل أكثر من نحو أسبوعين.
من الواضح أن ما مكن إسرائيل من اغتيال قيادات الحزب وتدمير مخازن أسلحته في سوريا وتدمير بنيته التحتية هناك هو اختراق استخباراتي في بنية الحزب، ولم تقتصر التجاوزات الإسرائيلية في حق الحزب على اغتيال قياداته فحسب، بل امتدت لتدمير مقاره في حمص والقنيطرة، إلى الحد الذي دفع صحيفة معاريف العبرية في مارس/آذار الماضي للحديث عن حرب مفتوحة من طرف واحد. فما الذي يجبر الحزب على الصمت رغم تجاوز إسرائيل للخطوط الحمراء تجاهه وتحطيم ما يُطلق عليه نصر الله "قواعد الاشتباك" التي رُسمت عام 2006، وتأكيده في خطابه في 25 أغسطس/آب 2019 "بأن سقوط أي قتيل آخر من الحزب سيلقي رداً".
تشير كل الشواهد إلى أن حزب الله لن يقدم الآن على أي رد حقيقي على كل تلك الاعتداءات، لكنه قد يسعى لإظهار رد فعل محدود لحفظ ماء الوجه دون أن يستفز إسرائيل ليجبرها على الدخول في مقامرة قد تنتهي بحرب غير محسوبة العواقب، بمعنى أدق سيسعى الحزب لإعادة ضبط قواعد الاشتباك بين الجانبين دون الذهاب لمواجهة حقيقية، تماماً كما حدث في 25 أغسطس 2019 حين أقدم الحزب على إسقاط طائرتي استطلاع في ضاحية بيروت الجنوبية، أو كما حدث في سبتمبر/أيلول 2019 عندما استخدم الحزب صواريخ "الكورنت" لضرب عربة للجيش الإسرائيلي بالقرب من منطقة أفيفيم دون أن يخلف الهجوم قتلى. وفي حديثه لقناة الميادين الموالية للحزب أكد نعيم قاسم نائب رئيس الحزب أن حزب الله لن يُدخل لبنان في مغامرة حرب، وأنه لن يُستدرج إلى موقف لا يُريده.
يدرك الحزب الذي انخرط في الحياة السياسية اللبنانية إلى حد بعيد في أعقاب حرب 2006، بأن أي حرب الآن من شأنها أن تقضي على مشروعه الهادف لترسيخ نفوذه السياسي والاجتماعي في لبنان مهما كانت نتائجها العسكرية، فقد نشرت صحيفة "دي فيلت" الألمانية تقريراً تحدثت فيه عن تراجع الحزب على المستوى الإداري والمالي والعسكري.
استنزاف بشري
منذ أعلن الحزب على لسان أمينه العام في 30 أبريل/نيسان 2013 تورطه في المستنقع السوري فقد الحزب عدداً من خيرة مقاتليه وقياداته في المعارك الطاحنة على تلك الجبهة، حيث قدر مسح ميداني للخدمات الجنائزية في لبنان عدد مقاتلي الحزب الذين سقطوا حتى أكتوبر/تشرين الأول 2018 بنحو 1233 قتيلاً. غير أن الخدمات الطبية في لبنان تظهر بيانات مثيرة للريبة عن أعداد كبيرة وغير معهودة لشبان شيعة يموتون بسبب حوادث مرور أو قصور القلب المفاجئ، فيما قد تكون محاولة لإخفاء العدد الحقيقي لقتلى الحزب. وفي دراسة أكثر دقة وموثوقية أكدت مراكز إعلامية سقوط 77 ضابطاً وقائداً ميدانياً للحزب في سوريا، فيما قدر تقرير للغارديان البريطانية خسائر الحزب بنحو 1700 قتيل حتى مارس/آذار 2019، 10% منهم من وحدة الرضوان التي تمثل القوات الخاصة للحزب. غير أن تقريراً لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي قدر خسائر الحزب بنحو 1800 قتيل، و8000 مصاب وجريح. وللوقوف على حجم تلك الخسائر يكفي القول إن الحزب أعلن عن عدد قتلاه في حرب 2006 بـ250 قتيلاً، فيما ادعت إسرائيل أنهم نحو 500 قتيل.
أزمة مالية خانقة
في يوليو/تموز 2019 أعلن حسن نصر الله تخفيض عدد قواته في سوريا، حيث أرجع محللون الخطوة إلى الأزمة المالية بسبب زيادة الضغوط الاقتصادية والعقوبات الأمريكية الخانقة على إيران التي أصبحت عاجزة عن تقديم المزيد من الدعم المالي للحزب واضطرت إلى تخفيض الدعم السنوي إلى النصف. حسبما أكدت صحيفة لوفيغارو الفرنسية في تقرير لها في مارس/آذار من العام الماضي، وهو ما أثر سلباً على مقدرات الحزب إلى الحد الذي أجبر نصر الله على الاعتراف صراحةً بتأثر الحزب بتلك العقوبات، ومناشدته للحاضنة الشيعية للحزب التبرع وجمع الأموال، وكان نتنياهو قد صرح في يوليو/تموز 2019 بأن إيران تُحول سنوياً 700 مليون دولار للحزب بصفته وكيلها في لبنان، ومع تفاقم المحنة الاقتصادية اضطر الحزب إلى تقليص رواتب المقاتلين بمقدار الثلث ثم بمقدار النصف، وكذلك للعاملين التابعين لمؤسسات الحزب في مجالات التعليم والاتصالات والشؤون الدينية، والتوقف عن تعيين موظفين جدد فيما يزال يعاني لتوفير التمويل اللازم لمعاشات الجرحى وتعويض عائلات القتلى.
حصار خارجي
لم تقتصر الضغوط المالية على الحزب على تخفيض الدعم الإيراني، إذ إن الولايات المتحدة فرضت مزيداً من القيود على التحويلات المصرفية للحزب، حيث تم في باراغواي إلقاء القبض على اثنين من داعمي الحزب، وفرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على اثنين من أكبر ممولي الحزب وهما ناظم سعيد وهو مستثمر ومليونير مقيم في لبنان وصالح عاصي مقيم في جمهورية الكونغو. فيما استمر الضغط الدولي على الحزب، فعلى الخطى الأمريكية أعلنت الخزانة البريطانية الحزب منظمة إرهابية في يناير/كانون الثاني مطلع هذا العام، تبعتها الداخلية الألمانية في مايو/أيار الماضي. وقد ضمت قائمة الدول التي سارت في نفس الاتجاه 57 دولة منها هولندا وهندوراس وغواتيمالا والأرجنتين وباراغواي والبرازيل.
السقوط في الأزمة الداخلية
في 7 مايو/أيار 2018 أعلن نصر الله فوز حزبه وحلفائه في الانتخابات النيابية بنحو 70 مقعداً من أصل 128 مقعداً، وهو ما اعتبره نصر الله انتصاراً لبيئة وخيار المقاومة، وهو ما سيسمح للحزب بترسيخ مكانته داخلياً في لبنان وبالفعل شارك الحزب في الحكومة واختيار رئيسها. إلا أن الرياح قد أتت بما لا تشتهي السفن، فالفساد المالي الذي يطغى على الجهاز الإداري في لبنان أدى لاعتماد الدولة على مدار ثلاثة عقود على القروض الخارجية حتى أصبحت لبنان البلد الأكثر استدانة عالمياً مقارنة بالناتج المحلي (150%) بمبلغ يُقدر بأكثر من 90 مليار دولار. تدهورت الأمور سريعاً في ظل حكومة يشارك فيها الحزب ويدعمها حيث اختفى الدولار من البنوك وفقدت الليرة 70% من قيمتها ليلامس الدولار حاجة 9000 ليرة، لترتفع بذلك نسبة التضخم مما أدى لتذمر شعبي ومظاهرات نالت في كثير من الأحيان من الحزب وسياساته الخارجية، التي أسهمت في تردي الوضع مع توقف الدعم الخليجي بسبب هيمنة الحزب على البرلمان والحكومة اللبنانية وهو المتهم بتدريب عناصر جماعة الحوثي، وما اُتهم به الحزب من عمليات تهريب موسعة للمحروقات والطحين والأدوية عبر الحدود السورية بهدف تحقيق أرباح طائلة، ودعم الحليف السوري في توفير احتياجاته اليومية، إذ تُقدر التقارير الحكومية كمية المازوت التي تُهرب يومياً عبر الحدود بنحو 3 ملايين لتر من أصل 7 ملايين لتر تضخ يومياً.
فقد الحاضنة الشعبية
ساهمت مشاركة حزب الله في سوريا في تأجيج الصراع الطائفي مع السنة في الداخل اللبناني بعد أن كان يحظى بقبول ودعم في العديد من أوساطه. يعي الحزب عمق الاستقطاب الداخلي في لبنان وأن القوى الشعبية بما فيها الحاضنة الشيعية لن تغفر للحزب جر لبنان لمواجهة مع إسرائيل بسبب تورطه في سوريا وليس دفاعاً عن وطنه، حرب بالوكالة لخدمة مصالح إيران في المنطقة لا أكثر. غضب اجتاح حتى الأعضاء السابقين في الحزب وذويهم ورفض لسياسات الحزب في سوريا تجلى في تصريح الأمين العام السابق للحزب صبحي الطفيلي بأن من يُقتل من أفراد الحزب في سوريا فمصيره جهنم.
إذا رأيت عدوك يدمر نفسه فلا تقاطعه
فرغم الضربات الإسرائيلية يبدو أن تل أبيب لا تريد مواجهة مباشرة مع الحزب ليس فقط بسبب مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعاني منها هي الأخرى، بل أيضا لأن إسرائيل لا تريد حرباً تجبر الحزب على الخروج بشكل نهائي من سوريا، مما قد يضعف نظام الأسد الذي تحرص على بقائه، ويوقف استنزاف الموارد المالية والعسكرية والبشرية للحزب، كما يستنزف أيضاً أعداءها من الثوار هناك دون أن يكلف ذلك إسرائيل حرباً مباشرة. جُل ما تريده إسرائيل هو منع الحزب من تطوير قدراته العسكرية والتزود بصواريخ دقيقة قادرة على ضرب مناطق حساسة في الأراضي المحتلة، أو تأسيس بنية تحتية تسمح له بالتموضع على حدود الكيان مع سوريا. تريد إسرائيل أن يستمر حزب الله في فقد ما بقي له في الشارع العربي من تعاطف كحزب مقاوم استطاع تحطيم الغطرسة الإسرائيلية، ليرتدي ثوب الطائفية ويشارك في إحدى أكبر الجرائم في العصر الحديث.
اتفاق مصالح موضوعي تم التوافق عليه ضمنياً بين الطرفين لمنع حرب ستعني دمار ما بقي من لبنان وتُفاقم الأزمات في تل أبيب ولا تخدم مصالح إسرائيل الحالية، وربما هذا يبرر ما أعلنته وسائل إعلام مقربة من الحزب بأنه تلقى رسالة عبر الأمم المتحدة مفادها أن إسرائيل لم تكن تعرف بوجود علي محسن في الموقع المستهدف ولم تكن تقصد قتله، كما أبرزت تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ووزير الخارجية غابي أشكينازي بنفي أي مسؤولية لإسرائيل عن انفجار المرفأ، كما أشارت لعرضهم المساعدة الإنسانية والطبية، وهو ما يظهر أن كلا الطرفين لا يريد أن يُلقي بنفسه بين سندان الأزمات الداخلية ومطرقة حرب قد تكون حُبلى بالمفاجآت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.