الفرق بين بيروت اليوم وبيروت في عهد السلطان عبد الحميد.. ما لا تعرفه عن الدولة الشريرة

عدد القراءات
3,408
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/08 الساعة 07:32 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/08 الساعة 07:32 بتوقيت غرينتش

كان الشيطان هنا، يرقد إلى جوارنا طيلة سنوات، لم يكن يقلّ في شيء عن سلاح دمار شامل: 2750 طناً من نترات الأمونيوم المُصادَرة المُخزَّنة بجوار صوامع القمح الرئيسية في لبنان، والجاثمة في المستودع الذي يُطلّ على الطريق السريع الساحلي الذي يستخدمه آلاف يومياً.

كان الشيطان يترقّب في صمتٍ لحظته، كانت قنبلة موقوتة في قلب المنطقة الحضرية، تنتظر فرض هيمنتها ودمارها على منطقة الجميزة الساحرة ومار ميخائيل النابضة بالحياة، وكل هؤلاء الذين يمرون فيها كل يوم طلباً للرزق وسبل العيش، لم تكن حتى سراً مخفياً.

وفي 4 أغسطس/آب، جاءت بمشهد يشبه نبوءات نهاية العالم، أو أفلام الخيال العلمي، لتضرب مرفأ بيروت، غير أن سِراً آخر كان معروفاً عن هذا الميناء، وهو أنه فقد سيادته الوطنية منذ زمن طويل، بعد أن وقع في أيدي مزيج من المافيات "العامة" و"الخاصة".

كان مخزون نترات الأمونيوم القديم هذا هو الشرر الذي أطلق التحول الأخير، وسط الإغلاق المرتبط بجائحة كورونا والانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق، وشلل الحياة السياسية، وبروز مهزلة حكومية جديدة: تكنوقراطية، وفي خضم كل هذا، حلَّ الإعصار الكيميائي لينزع من بيروت كل ما كان لا يزال حياً وحيوياً فيها، رغم كل الصعاب التي تخوضها بالفعل.

على بعد ستة كيلومترات من موقع الانفجار، حيث أعيش مع عائلتي، شعرت في البداية وكأن زلزالاً هزَّ بنايتنا، غير أن الإحساس التالي كان أقرب ما يكون إلى شعوري بهجمات صاروخية سابقة، وعندما انتهى الأمر أفقنا من ذهولنا على مواجهة واقع جديد؛ كارثة لا يمكن تصورها.

أكتب هذه الكلمات بعد أن زرت أحياء المدينة التي شهدت دماراً مروعاً، شوارع المدنيين تعرِض مشهداً من مأساة عقاب جماعي، مشهد عدوان كيميائي ضد أناس عاديين، فيما لا يزال بعض المدنيين في عداد المفقودين تحت الأنقاض، وسيستغرق الأمر أياماً قبل إصدار العدد النهائي للقتلى.

أكاذيب وقحة

كيف انتهى بنا الأمر هنا؟ ليس لديّ الجواب الآن، ما أعرفه هو أن الشيطان تجسَّد في هيئة وطابع دولة إجرامية مفتقرة إلى السيادة، وعاجزة عن تحمل المسؤولية، ومعادية لسكانها وللنسيج الحضري الثقافي، الذي جعل من بيروت مدينة متوسطية فريدة.

أود أن أعتقد أن المثال المتجسد والنموذج لهذه الدولة العاجزة الشريرة اتخذ هيئة فطر كيميائي، وهو الذي انفجر في المرفأ، هذه الدولة وهيكلها، وليس فقط نظامها السياسي، لطالما هدَّدت أرواح الناس وانتقصت من كرامتهم، غير أنها خبير محنّك إذا جئنا إلى فنّ جمع التبرعات والطرق على أبواب المجتمع الدولي.

في أعقاب الانفجار، لا تزال أعمدة هذه الدولة الإجرامية الأوليغاركية تكذب بلا خجل، وتضطلع وسائل الإعلام التي تهيمن عليها نخبة الأقلية الحاكمة بدورها في تسليط الضوء على المساعدات الإنسانية، والاستعداد لاستقبال الرئيس الفرنسي.

ماذا الآن؟ إن احتمال وقوع انتفاضة جديدة في أعقاب هذا الحادث مباشرة أمرٌ بعيد المنال. ومع ذلك، فلا ينبغي لنا أن نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأن هذه الدولة الإجرامية الوحشية ستنجح في جعل سكانها جثةً بلا حياة.

وأخطر رواية لما حدث تلاحقنا اليوم هي الإيعاز بأن هذه كانت كارثة طبيعية، لقد كانت كارثة بيئية، نعم، بيد أنها قبل كل شيء تُمثّل كارثةً سياسيةً شاسعة النطاق، ولا ينبغي طمسها بدعاوى الإنسانية المنافقة.

الجنون الحاكم

بعد الصدمة الأولية وجدت نفسي أبحث عن صور لميناء بيروت في نهاية العهد العثماني، أيام عبدالحميد الثاني، السلطان العثماني الذي أشرف على تطوير المرفأ والمدينة، الذي جعل منها "ولاية بيروت" العثمانية، التي امتدت على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

تابع السلطان أعمال المصورين المحترفين الأوائل آنذاك، طالباً منهم إطلاعه على آخر المستجدات في بيروت بإرسال صور المدينة إليه في قصر يلدز.

ويا له من اختلاف! ذلك الذي نراه ما بين السلطان الذي كان يتحمل مسؤولية رعيته وما بين الجنون الحاكم اليوم، وفي الذكرى المئوية لتأسيس لبنان الكبير يأتي انفجار المرفأ ليستدعي مزيداً من المقارنة بين بيروت المشرقية في عهد عبدالحميد والمدينة المنكوبة المشمولة بالدمار في النزع الأخير لهذا النظام الأوليغاركي، الذي تهيمن فيه نخبة أقلّوية صغيرة على حكم البلاد.

– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

وسام سعادة
كاتب صحفي و محاضر في العلوم السياسية والتاريخ في جامعة القديس يوسف منذ عام 2003
كاتب صحفي و محاضر في العلوم السياسية والتاريخ في جامعة القديس يوسف منذ عام 2003
تحميل المزيد