هذه هي بيروت، أو كما يقولون بالفرنسية C'est Beyrouth لوصف حالة الفوضى التي تعُم المكان، في إشارةٍ إلى الفوضى الشائنة التي دامت لأكثر من 15 عاماً داخل العاصمة اللبنانية بسبب الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990. ومع الأسف، تبدو العبارة شديدة الدقة في وصفها لبيروت اليوم.
في يوم الثلاثاء، كنت أستقر على طاولتي داخل مكتبي في المنزل خلال أمسيةٍ بدت اعتياديةً بالمدينة. وكان هناك كوب قهوة ساخنة يستقر بجوار حاسوبي المحمول وأنا أُطالع هاتفي، حين شعرت بالكرسي والطاولة يهتزان. ثم انفجر شيءٌ ما.
ووسط ذهولي، انتقلت إلى غرفة والدي لتحذيره فوجدته واقفاً بجوار الباب. وبعد جزءٍ من الثانية، طرت عبر الردهة واصطدمت بالجدار بالتزامن مع انفجارٍ ثانٍ هزّ بيروت.
وانفتحت أبواب الغرف الثلاثة في الردهة على مصراعيها، لتدخل عبرها الرياح الثقيلة المُحمّلة بالغبار. واندفعت والدتي من غرفة المعيشة إلى الردهة للاحتماء. وتعانقنا جميعاً ظناً منّا أنّها النهاية.
ولم نكن الوحيدين في هذه الحالة، إذ شعر جميع القاطنين في بيروت وضواحيها بالانفجار، وحتى أولئك الذين يعيشون بجوار الجبل. إذ قالت لي سيدةٌ تعيش في الجميزة: "بدا الأمر وكأنّ الانفجار وقع في شارعنا في الطابق السفلي".
لقد عايشنا العديد من الحروب والاضطرابات في لبنان على مدار الـ15 عاماً الأخيرة بدءاً من الاغتيالات السياسية المُتعدّدة، ووصولاً إلى الحروب السياسية بين عامي 2005 و2008، وحرب يوليو/تموز 2006 ضد إسرائيل، وانتهاءً بجولات الاضطرابات الأهلية والنزاعات المحلية التي لا تنتهي، إلى جانب اشتباكات طرابلس الدموية الشهيرة عام 2012.
لكن أحداً لم يُجهّزنا لهذا من قبل، إذ إنّ هذا الانفجار، الذي حصد بالفعل أرواح 100 شخص وجرح الآلاف، هز لبنان من أعماقه. ولم يعُد لبنان بلداً على حافة الانهيار، بل انهار حرفياً تقريباً يوم الثلاثاء الرابع من أغسطس/آب 2020 مع تضرّر مئات المباني وتشريد العائلات بدون مأوى.
وكان صديقي الذي يعمل في شركة استيراد وتصدير بميناء بيروت يعمل من المنزل في ذلك اليوم. بينما وصل صديقٌ آخر إلى الرابية وسط الجبال، على بعد بضع كيلومترات عن بيروت، قبل الانفجار بدقائق. وكان من الممكن أن يموتوا في الانفجار، وكان من الممكن أن أموت أنا، أو يموت أيّ شخص.
وهذا هو أسوأ ما في الحياة داخل لبنان: عدم القدرة على التنبّؤ. وحين نجمع بين ذلك وبين الانهيار الاقتصادي -حيث فقدت العملة المحلية نحو 80% من قيمتها، بينما تفتقر المستشفيات إلى الإمدادات الطبية إبان مواجهتها نقصاً في الأسرة وانقطاعات طويلة في الكهرباء، وهنا تتحول الأمور التي يصعب التنبّؤ بها إلى أمور لا تُحتمل وتقضي على الحياة.
وكان لبنان يُعاني بالفعل أزمة اقتصادية بدون حل يلوح في الأفق. إذ دفعت سنوات سوء الإدارة بلبنان إلى نقطة التحوّل هذه، مع إساءة استخدام الساسة للأموال العامة واستغلالهم الموارد لإغراء المواطنين حتى يدعموهم في الانتخابات عاماً تلو الآخر. وتفاقم الوضع أكثر بسبب جائحة فيروس كورونا وحالات الإغلاق الناتجة عنها، مع التضخّم المفرط والمعدلات غير المسبوقة من البطالة والفقر. ورغم الاحتجاجات التي بدأت منذ أكتوبر/تشرين الأول، بدت الحكومة مهتمةً بمناقشة الإصلاحات أكثر من تطبيقها فعلياً. فقبل أسابيع قليلة عاد الناس إلى مقايضة السلع بوصفها وسيلةً لشراء الضروريات، في ظل تضاعف الأسعار تقريباً.
وفي هذا السياق، نجد أنّه لا عجب في تجاهل أرباب السلطة لحقيقة وجود 2,750 طناً من نترات الأمونيوم المُخزّنة على ما يبدو داخل ميناء بيروت منذ سنوات، دون أن يأخذ أحد المبادرة لتفسير السبب والكيفية. وهذه هي طريقة عمل السياسات والاقتصاد في لبنان.
ويعتمد لبنان على ميناء بيروت لاستيراد الغذاء والدواء، السلع التي تشهد نقصاً كبيراً في الوقت الحالي. وبات العاملون في المجال الطبي الآن مجبرين على اتّخاذ قرارات الفرز في الشوارع، إذ لا تمتلك العديد من المنازل تيار كهرباء، ودُمِّرت المدينة بالكامل. فكيف لبلدٍ يُكافح بالفعل نتيجة سنوات من الحوكمة السيئة، ويُواجه أزمات اقتصادية وسياسية وصحية في الوقت ذاته، أن يتوقّع التعافي من كارثةٍ بالجملة ضربت عاصمته؟
وستستغرق عملية إعادة بناء ما تعرّض للدمار شهوراً. وفي الواقع، بالنظر إلى سرعة تحرّك أيّ مشروع إنشاءات في لبنان؛ فربما يستغرق الأمر سنوات. وربما مثّل الميناء الشمالي في طرابلس، ثاني أكبر مدن لبنان، خياراً مؤقتاً لتعويض الخسائر الاقتصادية. ولكن ماذا عن الأرواح المفقودة؟ وماذا عن المنازل والحيوات وسنوات العمل التي راحت هباءً، وربما إلى الأبد؟
اليوم، لا يمتلك غالبية اللبنانيين ثقةً في أنّ هذه الطبقة السياسية أو الحكومة ستجلب أيّ نوعٍ من العدالة. وبالنسبة للبنان، فمن الممكن أن تصير هذه الكارثة بمثابة مُحرّك للثورة، أو سبباً جديداً للاستسلام للعجز التام. وهذه المرة، لن تكون هناك حلول وسطية بينهما.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.