انتظرتَ طويلاً حتى ترتدي فستانها الأبيض جراء الجائحة والإغلاق، كان حلمها أن تأخذ من وسط بيروت موقع للتصوير، شأنها شأن أي عروس في لبنان، لم تكتمل ابتسامتها العريضة ولم تحمل بوكيه الورود وتعانق عريسها، لقد حلت الكارثة ووقع الانفجار تبخرت بيروت ومعها جلسة التصوير، سرقت الابتسامات وتناثرت الأشلاء والحطام، وتهدم معها كل حلم وفرح ومستقبل.
ست الدنيا، مدينة الشرائع، تلك المدللة على حوض المتوسط، لم تنم ليلة الخامس من أغسطس بل عانقها الدخان من كل مكان، وفاحت منها رائحة الموت، بفعل انفجار أشبه بهوروشيما المروع، لم نتخيل بيروت بهكذا مشهد ولو في الحلم، المدينة التي احتضنتني كطالبة جامعية، المدينة التي عملت ولعبت وتنزهت بين أزقتها وعلى شاطئها، ها هي اليوم منكوبة محرومة حزين.
لقد وصل عِظَم الانفجار إلى المدن المجاورة، سمعت من مدينتي صيدا التي تبعد 45 كيلومتراً عن بيروت الدويّ الضخم فظننا أنه زلزال، تملكنا الخوف والقلق، وما هي إلا دقائق حتى فجعنا بالكارثة، انفجار ضخم من مرفأ بيروت، أحاديث عن قصف إسرائيلي ثم رواية عن مواد متفجرة ورواية أخرى عن أسلحة لحزب الله، لكن مهما كان السبب فلا أحد يلغي النتيجة كارثة بكل معنى للكلمة. ذرفنا الدموع ارتعش القلب، إننا في لبنان لا نعيش بل ننجو، ونسأل متى يأتي دورنا متى نكون تعساء الحظ؟ متى نكون الضحية.
ولكن مهما تكن بعيداً عن هذه العاصمة المتعبة تشعر وكأنك هناك، وقد فقدت شيئاً ما من بعضك أو من قلبك، شيئاً عزيزاً فقدته وربما لن يعود. اتصلت على الفور بأصدقائي وأحبائي وكل من أعرفه في بيروت، الجميع أصيب بخسائر مادية، بعضهم جرحى والبعض خسر حبيباً أو صديقاً أو جاراً، ونحن فقدنا من هنا كل شيء! أحلامنا بوطن آمن، ومستقبلنا الواعد والكثير من الدموع لعلها هي سيدة الموقف أمام تلك الكارثة الحزينة.
على أرض بيروت الكثير من الدماء بين الأرصفة، زجاج مكسر مبعثر في كل مكان تماماً كقلوب اللبنانيين، هنا شارع الحمرا غير معروف الملامح وهناك حي الجميزة خسر زينة شبابه. أما وسط بيروت الجميل فحكاية أخرى، يرويها الحطام المصابيح وبقايا سيارات وشرفات، شاءت الكارثة أن تعيد إلينا بيروت ثكلى ونحن السجناء المحرومون داخل وطن بلا حياة.
هكذا نحن نشعر الآن باليتم، بالضياع، بالخوف. خلف كل ضحية قصة وخلف كل بيت ومحل مدمر رواية تدمي القلب، فبيروت الفن والفرح تحكي اليوم لنا مآسي وأحزاناً على من سكن هذه المدينة. مستشفى القديس جورجيوس (الروم) هو المستشفى الذي آتي إليها من صيدا لأتلقى العلاج إن تعرضت لأي مشكلة صحية، فهو مستشفى من الطراز الرفيع الراقي، لكنه لم يسلم أيضاً، لقد طال الانفجار المشفى فتضرر واستشهدت أربع ممرضات، هن ممرضات في عمر الزهور، زميلتهن الناجية حملت ثلاثة توائم حديثي الولادة وهرولت تتصل بالإنقاذ، ومن ملائكة الرحمة إلى شهداء وأبطال الواجب. فوج إطفاء بيروت استشهدوا جميعاً أثناء واجبهم المقدس. وهناك في ألمانيا رجل مغترب، استدان لجمع شمل أسرته في ألمانيا وقبل سفرهم بيومين فقدهم جميعاً في الانفجار، وذلك الوالدان الباحثان عن ابنهم بين الأشلاء، وآخر يحمل جثة صديق عمره على الدراجة النارية، وهذا الفقير الذي اعتاد افتراش الشارع، حتى الشراع ما عاد صالحاً للافتراش والعيش.
تعانقت الكنائس بالمساجد، ونال الدمار من دور العبادة جميعاً، من جامع الأمين إلى كنيسة الوردية ومعها مستشفى الوردية، وغيرها من الكنائس والمساجد مئات القصص والوجع، هي بيروت تئنّ ونحن ننزف خلفها.
إن كان لهذا العام تسمية فهي كلمة لبنان، لبنان الذي لم تهدأ أحداثه الساخنة منذ بداية العام، ثورة ومظاهرات واحتجاجات، سبقتها حرائق حرجية واسعة بفعل الإهمال وعدم وجود حرّاس للأحراج، ثم حضر كورونا وأطبق عليه الخناق، فزادت الأعداد، تهديدات إسرائيلية لا تتوقف وغارات وهمية وأصوات وخروقات لا تنتهي، جعلت من اللبناني في حالة تأهب وتوتر، هذا كله لا يساوي شيئاً أمام فساد حكامنا وسرقاتهم، فالكهرباء بوزارتها وشركتها لا يراها اللبناني أكثر من ساعة في النهار، أكاد أجزم بأننا الدولة الوحيدة في العالم، ولا ينوون الإصلاح لمسايرة مافيا المولدات، وطبعاً لا يمكن أن ننسى الأزمة الاقتصادية الشرسة التي رفعت سعر الدولار أمام الليرة أفقرت الناس وخلتهم دون عمل أو مدخول.
وكأن لبنان كان ينتظر هذه الكارثة ليكتمل المشهد، مشهد الدمار الشامل لشعب يتفنن بصناعة الفرح والسعادة والبهجة، لشعب يرمي كل مرة همومه خلف ظهره ويعود ليواجه مصيراً أنكى وأمرّ، لقد تعلمنا سياسة العيش بعد المأساة، تعلمنا رفع الردم وإصلاح الأحزان والخراب وتضميد الجراح، ولكن على ما يبدو لا نهاية للألم ولا نهاية للمآسي التي تصر دائماً على أن تلاحقنا.. هذه المرة العيار كان ثقيلاً علينا والأزمات تعاقبت وتعاظمت، فلم نُشْفَ من أزمة حتى تأتي أخرى، فإلى متى سنصمد؟ إلى متى سنصبر على هذه النوائب؟
لعلّ اللبناني اليوم بعد رؤية عاصمته مدمرة على أيدي أصحاب السلطة الفاسدة لا يفكر سوى بالهجرة التي حاول أن يغضّ البصر عنها مراراً، لكن الظروف باتت تقوده إلى النتيجة ذاتها الهجرة الهروب، إنقاذ أبنائه ومستقبله، إنقاذ ما تبقى من كرامته تحت فشل السلطة التي تحكم البلد من أكثر من عقود، وأي بلد هذا؟ لقد خلفوا لبنان رماداً ودماراً، أفقروا الشعب وحطموا ما تبقى من حلم لديهم فلا ثقة بهم! وكل ما نطالب به اليوم هو المشنقة، المشنقة لهم جميعاً! فتعنتهم وعنادهم ووقاحتهم صدمت العالم ولا حل للبنان بوجودهم.
بيروت من قلبي سلام إلى مدينة العلم والفن والثقافة بيروت، التي كسرت ظهرنا وأدمت قلوبنا هي اليوم جريحة تنزف، بيروت الحاضنة، بيروت العاصمة الجميلة، مدينة الحياة هي اليوم بلا حياة وبلا لون. لقد خنقوها وأفقروها وفجّروها! ينام اللبنانيون كل يوم ويفكرون في تأمين رغيفهم ودولارهم وعملهم، ولكن بعد هذه الكارثة سيباتون يفكرون بوطن! وطن سُرق منهم وسُجن في حضن فساد حكامهم، إنها قصة وطن أصبح بلا عاصمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.