أن تكون لبنانياً فهذا يعني أنك تعيش في مأساة. بلد يجذب السياح بالحياة الليلية النشطة، والمطبخ الشهي، لكنه في الوقت ذاته مصدر بؤس مستمر لسكانه. ويقضي شعبه معظم سنين عمرهم في يأس من أرض الوطن، وكأنهم يشاهدون طفلاً يغرق ويصارع ليلتقط أنفاسه.
لم يكن الانفجار المدمر الثلاثاء الرابع من أغسطس/آب سوى مأساة جديدة تنضم إلى قائمة طويلة شهدها الشعب اللبناني. والقائمة طويلة لدرجة أنه من الصعب تحديد بدايتها. من أين يبدأ ألم لبنان؟ هل من الحرب في ستينيات القرن التاسع عشر التي قتلت أكثر من 10 آلاف شخص؟ أم المجاعة الكبرى في الحرب العالمية الأولى التي قضت على ثلث سكان لبنان؟ أم الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 وحتى عام 1990، وراح ضحيتها 150 ألف لبناني ما يزال معظمهم يرقد في مقابر جماعية مجهولة الموقع؟
لبنان هو بلد جبلي صغير لا يُنتج سوى شيئين بكميات كبيرة: الدمار والهجرة. كل أجيال لبنان في خلال 160 عاماً مضت عانوا من صدمة ما، إذ يولد الصغار بندوب الكبار. وفي أثناء الفترة نفسها، كان الأمل يفر من قبضة البؤس الذي يعتصر البلاد. وهناك أكثر من 10 ملايين شخص من أصل لبناني يعيشون خارج البلد الذي يسكنه نحو خمسة ملايين شخص، مما يجعل لبنان واحدة من الأمم القليلة التي يعيش معظم سكانها بالخارج.
وبالنسبة للجالية اللبنانية، فإننا نعيش حياة المنفى التي يقودها الجشع غير المحدود للأقلية والدمار الذي تشكل عبر الأجيال. إذ هجر أحد أجداد والدي دمار منتصف القرن التاسع عشر واتجه إلى الولايات المتحدة بحثاً عن فرصة. وبعد قرن، اتخذ والدي القرار ذاته لكنه اتجه إلى أستراليا هذه المرة. أما جدتي لأمي فقد حذت الحذو ذاته بعد أن رأت الحرب الأهلية تقضي على حياتها بالكامل، حيث قُتل زوجها وتركها أماً وحيدة لسبعة أبناء، من بينهم أمي.
كل لبناني تقريباً لديه قصص مشابهة يرويها. ماضينا لا يطارد حاضرنا، لكنه هو الحاضر. عدت إلى بيروت، وأنا الابن الوحيد من عائلتي المهاجرة الذي فعل ذلك، ومكثت هناك بين عامي 2011 و2015. وظنّ والداي أنني مجنون عندما اتخذت قرار العودة لذلك المكان الذي تسبب لهما في الكثير من الألم. ربما هي سذاجة الشباب، وربما ليس سوى شعور متعجرف بأنني حصين هو ما دفعني للظن أنه من الممكن أن اتخذ من لبنان وطناً.
على الأغلب، دُمرت الشقة التي كنت أسكنها. تحولت الأحياء التي كنت أعرفها إلى أنقاض. أصبح أصدقائي بلا مأوى. انفجرت سنوات من العمل والادخار الذي كان يصب في تحدي تدوير عجلة لبنان، ليكون الوطن الذي لم يتمكن آباؤنا وأجدادنا من صنعه. أصاب أهل بيروت كل الضرر المادي الذي نتج عن الحرب الأهلية طوال 15 عاماً، وهذه المرة لم يستغرق الأمر سوى دقائق معدودة.
أُحدّق في الأنقاض والجثث التي يكسوها الغبار في مقاطع الفيديو وأتذكر قصص والداي في سبعينيات القرن العشرين. إذ رأوا أنقاضاً هم أيضاً. وأتذكر حكايات أجدادهم عن المجاعة الكبرى، حيث رأوا الجثث تُكدس في الشوارع أيضاً. وقصص أجدادهم عن ستينيات القرن التاسع عشر.. وتستمر المأساة.
وفي خلال هذه القائمة الطويلة من المآسي، هناك خيط مشترك يربط العناوين بداية من انفجار يوم الثلاثاء، وحتى ستينيات القرن التاسع عشر وهو: الجناة، مع مزاعم بانتشار الفساد بين الطبقة العليا. يعاني لبنان هذه الأيام من أسوأ أزمة اقتصادية منذ المجاعة الكبرى قبل قرن من الزمن. إنها أمة تأتي في المرتبة الثالثة بين الأمم ذات أكبر دَين في العالم. وفقدت عملتهم 80% من قيمتها هذا العام. ودفع التضخم المفرط بمعدل التضخم إلى 90% في شهر يونيو/حزيران. بينما يعيش نصف اللبنانيون الآن تحت خط الفقر، ومن يعانون من الفقر المدقع أصبحوا على حافة المجاعة حالياً.
وفي ظل السقوط الحر للعملة والتضخم الذي تبلغ معدلاته عنان السماء، ربما لن يتمكن الكثير من اللبنانيين من تحمل تكلفة الأغذية الأساسية التي يستوردون معظمها. وكانت هذه البضائع تُورد عن طريق ميناء بيروت، الذي كان موقع التفجير -الذي يشبه التفجير الذري- يوم الثلاثاء. وحتى يزداد تعقيد الأمر، دمرت الانفجارات صوامع غلال حيوية، مما يقرب قطاعات من اللبنانيين نحو المجاعة. ودُمرت آلاف المنازل، من بينها منازل الأصدقاء.
لا يوجد طريق واضح لإصلاح الضرر الذي لحق بلبنان، إذ دخلت النخبة الحاكمة في مفاوضات مطولة مع صندوق النقد الدولي من أجل الوصول إلى قروض هم في حاجة ماسة لها. ويصر صندوق النقد الدولي على إصلاحات تعارضها النخبة السياسية. لكن لبنان ليس لديه النقود لإصلاح الأحياء المدمرة بسبب الانفجار، مما يجعل المساعدات الدولية ضرورة لا بد منها لنوفر للشعب اللبناني البائس المأوى والطعام. ويتشارك المتبرعون الدوليون واللبنانيون العاديون الشك نفسه بشأن وصول أموال المتبرعين فعلياً إلى المحتاجين.
وأشعل الانفجار الغضب بين اللبنانيين الذين أرهقتهم التظاهرات والاضطراب الاقتصادي العام الماضي. بينما تشتعل مجموعات الواتساب التي تضم اللبنانيين المحليين والجاليات بالغضب وسط نداءات لتحركات شعبية ضد زعماء البلاد. هناك ثقة قليلة في قدرة الحكومة على إقامة تحقيق يتسم بالشفافية لتحديد سبب الانفجار. لكن بالنسبة للكثير من اللبنانيين، التحقيق نفسه ليس مضمون. إذ إن الإهمال المتمثل في ترك 2,700 طن من نترات الأمونيوم مكشوفة، بجوار بنية تحتية حيوية في قلب بيروت العاصمة، هو الإهمال ذاته الذي جعل لبنان دون خدمات أساسية مثل الكهرباء وجمع القمامة. إنه ببساطة جزء من العفن الذي سببته النواة الفاسدة ويشمل كل جانب من جوانب الدولة. إنها النواة الفاسدة التي ترسخت في النسيج اللبناني منذ أمد بعيد.
وبالنسبة لنا نحن الذين كنا بالخارج، فإننا نبكي مثل الأجيال التي سبقتنا، منكسرين بهذه المأساة التي لا يبدو أنها ستنتهي أبداً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.