في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، اندلعت انتفاضة شعبية في لبنان إثر إعلان الحكومة اقتراحها فرض رسوم مالية على الخدمة الصوتية لتطبيق واتساب. لم تتجه الانتفاضة إلى الحكومة وإنما أعلنت رفضها لما أطلق عليه مثقفون لبنانيون لاحقاً: الطبقة السياسية في لبنان، أو الأوليغارشية اللبنانية، أي تلك الطبقة التي تجمع بين السيطرة على السلطة وحيازة الثروة، وتلخّصت تلك المواجهة الجذرية في شعار الانتفاضة الشهير: "كلن يعني كلن".
استقالت حكومة سعد الحريري في نهاية أكتوبر/تشرين الأول إثر رفض تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله الذي يسيطر على البرلمان، وعلى الحكومة تبعاً لذلك، طلب الحريري تشكيل حكومة تكنوقراط غير حزبية؛ ما كان يعني تخفيف وطأة حزب الله وحلفائه على الحكومة التي تحمّل الحريري غرمها دون أن تكون له مغانمها.
استقالة الحريري وضعت الحزب والتيار الوطني الحر في مواجهة الانتفاضة، حيث ظهر ما لم يكن خفياً من أن السلطة السياسية الفعلية في لبنان قد سقطت منذ سنوات في يد الحزب، بحكم السلاح أولاً (أحداث مايو/آيار 2008)، ثم بحكم التغلغل في مؤسسات الدولة رفقة الحلفاء في تيار ميشال عون، وذلك منذ هزيمة سعد الحريري وانسحابه من لبنان بأسرها عام 2011. عاد الحريري عام 2016، إلا أن غضبة الحريري وغيبته لم تخلف سخطاً أو أزمة للحزب وحلفائه، بقدر ما سمحت لهما بإحكام سيطرتهما على مفاصل الدولة اللبنانية دون منغصات.
حاول الحزب، أو بالأحرى حلفاؤه من اليسار، استثناء الحزب من مرمى الانتفاضة الشعبية عبر توجيهها إلى منظومة المصارف اللبنانية التي يبدو أن الحزب أقل تورّطاً فيها من سائر أعضاء النخبة السياسية في لبنان من مختلف الطوائف. إلا أن تمسّك حزب الله بتحالفه مع التيار الوطني الحر من جهة، وبهيمنته المطلقة على الحكومة من جهة أخرى، دفع الحزب إلى التصدي مباشرة للانتفاضة، وبدا الحزب شاء أم أبى حارس المنظومة المصرفية التي يدعي أنه غير متورّط فيها. لم تكفّ أبواق الحزب عندئذ عن ثرثرتها المعتادة عند كل انتفاضة شعبية عن المؤامرات والخوافي التي تقبع خلف سخط شعبي أسبابه أوضح من الشمس.
اضطر الحزب والتيار إلى انتداب وجه سني طيّع لخلافة الحريري، هو حسان دياب، إلا أن أحداً لم يستبشر خيراً بالحكومة الجديدة التي سرعان ما أعلنت في مارس/آذار 2020 عجز لبنان عن سداد ديونه (لا يحبون ذكر كلمة "إفلاس").
لحظة الانهيار
عريقة المنظومة المصرفية في لبنان، لها ربما نفس عمر الدولة اللبنانية نفسها أو "سويسرا الشرق" كما أراد لها الأب الروحي للبنان الحديث ميشال شيحا أن تكون. لعب لبنان دور الوسيط بين الرساميل الخليجية التي تراكمت بفعل عوائد النفط، ومؤسسات المال الغربية؛ لكن سرعان ما تعرض هذا الدور لهزة عنيفة في 1966 بعد إفلاس بنك إنترا، أكبر البنوك اللبنانية آنذاك، في حادثة ما زال يلفها قدر من الغموض؛ إلا أنها أوضحت أن مصارف لبنان لا يمكن أن تبقى بمنأى عن التوترات السياسية.
في عام 1993، وبالتوازي مع تولي رفيق الحريري رئاسة الحكومة، تولى رياض سلامة حكم مصرف لبنان في وقت كانت فيه مضخة التدفقات المالية من السعودية ومن داعمين آخرين إلى لبنان الجديد تكاد تنفجر من فرط اندفاعها. للمال غرضه السياسي في تثبيت أقدام الحريري بولائه السعودي والفرنسي المطمئن والمناسب للعصر الجديد، وهو -أي المال- في مأمن إذ يعيد تدوير نفسه في استثمارات عقارية وسياحية ضمن عملية إعادة الإعمار الطموحة التي أطلقها الحريري الأب. أنعشت التدفقات المالية القطاع المصرفي في لبنان الذي بقي قادرا على دفع فوائد استثنائية عبر تدوير المال في دورات استدانة بطلها مصرف لبنان (تستدين الدولة اللبنانية من المصارف اللبنانية في الداخل كما من الخارج، ثم تنفق ديونها على الفوائد الباهظة التي يحصل عليها كبار المودعين وأصحاب المصارف).
كان لا بد لدورات الاستدانة أن تفضي في لحظة ما إلى انهيار، وقد توفرت الأسباب بالفعل لتعجيل ذلك. ففي عام 2016، وقبل عودة الحريري إلى لبنان، قررت السعودية إيقاف المعونة العسكرية السنوية لصالح الجيش اللبناني والأمن الداخلي وكانت تقدر بنحو ثلاثة إلى أربعة مليارات دولار، بسبب ما ارتأته السعودية مصادرة لإرادة الدولة اللبنانية من قبل حزب الله بعد أن امتنعت لبنان عن تأييد قرارات عربية مدعومة سعوديا. عنى القرار أن المال الذي تدفق لوظائف سياسية تلعبها الطبقة السياسية في لبنان، يمكن أن يتوقف بسبب وظائف سياسية أيضاً تلعبها الطبقة السياسية نفسها.
في العام التالي، دخل ترامب البيت الأبيض حاملاً أجندة يمينية متطرفة، ليست منحازة بل متماهية مع الرؤية الإسرائيلية، ومخاصمة لإيران وحلفائها، بدأ تنفيذها بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران وفرض عقوبات جديدة عليها.
في مارس/آذار 2019، ذهب مايك بومبيو بنفسه إلى بيروت ليعلن من داخلها أن الوقت قد حان من أجل وقفة لبنانية شجاعة ضد حزب الله، وأن الولايات المتحدة ستواصل العمل لقطع التمويل عن العمليات الإرهابية التي تقوم بها إيران وحزب الله. ما لم يقله بومبيو، لكن العارفين كانوا يفهمونه جيداً، هو أن قطع التمويل عن حزب الله يعني حال الجدية في تنفيذه إيقاف مضخة الأموال الذاهبة إلى لبنان.
تبنت الإدارة الأمريكية اليمينية الموقف الإسرائيلي الذي عبر عنه بوضوح أفيغدور ليبرمان عندما قال: "لبنان = حزب الله"، وقد أعلن بومبيو برفقة الرئيس الإسرائيلي نفس الموقف مباشرة قبل أن يتوجه إلى لبنان. لم يعد مصير لبنان واللبنانيين وحتى حلفاء أمريكا أو السعودية في الداخل يعني شيئاً، ولم يعد هناك أي استعداد للتمييز بين الدولة اللبنانية وبين حزب الله.
ربما أراد المعسكر اليميني الأمريكي الإسرائيلي بوضوح أن يتم القضاء على حزب الله عبر دفع اللبنانيين أنفسهم إلى الصدام بعد تخييرهم بين الخبز والحزب؛ وهو ما لوّح به فعلاً تقرير لجنة الدراسات الجمهورية في الكونجرس (مجموعة يمينية من أعضاء الكونغرس الأمريكيين) الذي أوصى بعرقلة قرض صندوق النقد الدولي للبنان لمواصلة الضغط على حزب الله.
معركة لبنان
منذ تأسيس لبنان على يد الانتداب الفرنسي، قام نظامه السياسي على المحاصصة الطائفية، فالطائفة لا المواطن هي الوحدة السياسية الأولية في لبنان. سمح ذلك النظام الذي سميَّ بالديمقراطية التوافقية، بحماية مصالح الطبقة العليا في كل طائفة وتوزيع موارد الدولة اللبنانية بين أعضاء تلك الطبقة من مختلف الطوائف.
المفارقة كانت أن ذلك النظام نفسه الذي صادر موارد الدولة اللبنانية عبر فوائد باهظة تدفعها الدولة للمصارف، والمصارف لأصحابها وكبار مودعيها من شيوخ الطوائف اللبنانية المختلفة، كان هو نفسه الذي سمح عبر الوظائف السياسية التي نهضت بها الطوائف وميليشياتها بتدفقات المال من الخارج العربي والغربي على السواء؛ بمعنى أن هذا النظام هو ما أفقر لبنان وأغناه كذلك!
وُلدت الطبقة الوسطى اللبنانية من رحم تلك التدفقات نفسها حيث صار بإمكانها، خاصة في حقبة الحريري، أن تحظى بتعليم وفرص عمل أفضل في شركات كبرى أتت للاستثمار في لبنان أو أسسها شيوخ الطوائف من أرباحهم القادمة من سلطتهم السياسية. لذلك يبدو مطلب تلك الطبقة بالإطاحة بالأوليغارشية اللبنانية متناقضاً، حيث أن تطور تلك الطبقة الوسطى سياسيا وتحولها إلى أمة من المواطنين يوازيه توقف التدفقات المالية التي يرتهن بها وجود تلك الطبقة اقتصادياً.
وقد أوجز المفكر اللبناني مهدي عامل تلك الوضعية عندما عرّف الطائفية بأنها النظام السياسي الذي تمارس البرجوازية اللبنانية من خلاله سيطرتها الطبقية.
معركتنا جميعاً
يسيطر حزب الله اليوم على الدولة اللبنانية ويصادرها لصالحه، لكن المشكلة لا تكمن في حزب الله، وقد مرت سابقا حقب كانت فيها الهيمنة الطائفية للمارون أو للسنة. ليست المشكلة في من تكون له الهيمنة بين الطوائف، وإنما في الطائفية التي تنخر الدولة نفسها وتنتهي إلى مصادرتها تحت قوة السلاح (وهو ما يقوم به حزب الله منذ 2005) وتغييبها عن أدوارها التي عليها أن تقوم بها.
هنا يكون السبيل الوحيد لإنقاذ الوطن والناس هو استعادة الدولة لأدوارها الواجبة تجاه شعبها عبر صنوين هما الديمقراطية والتنمية. الديمقراطية ضد المصادرة الطائفية للدولة، والتنمية ضد السيطرة الطبقية التي تستخلص موارد الدولة لصالح شريحة ضيقة تهيمن على السلطة والثروة (الأوليغارشية). ليس المطلوب بالتأكيد مجرد الرضوخ للابتزاز الأمريكي الذي لن يتوانى في إدارة ظهره للبنان وتركه يغرق وحيدا حتى إن تخلص لبنان من حزب الله، بل المطلوب أن تولد الدولة ذات السيادة في الداخل ضد الميليشيات، وفي وجه الخارج ضد الابتزاز والعبث بلبنان وأمنه من أجل ضمان مصالح إسرائيل أو غير إسرائيل.
انفجار بيروت بالأمس كان إعلانا عن ذلك التردي الذي وصلت إليه لبنان بسبب تلك الوضعية التي تجتمع فيها مصادرة الدولة اقتصاديا من قبل الأوليغارشية اللبنانية وسياسيا من قبل الطائفية ممثلة في حزب الله وحلفائه؛ التردي المقترن بلامبالاة يقود إلى ما يشبه انتحاراً جماعياً تقرره الطبقة السياسية اللبنانية وتفرضه على لبنان.
هذه المعركة لا تتعلق بلبنان وحده، وإنما هي المعركة التي تخوضها الشعوب العربية جميعها، كل بحسب سياقه التاريخي التي تصادر فيه فئة ضيقة الدولة باسم الطائفة أو باسم العائلة المالكة أو باسم المؤسسة أو باسم الاقتصاد الحر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.