أحدهم تبرأ من ابنه، وآخر أُجبر على طلاق زوجته، وأخرى هددوا خطّابها.. كيف يعاقب الحكام أسر المعارضين العرب؟

عدد القراءات
22,573
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/05 الساعة 14:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/05 الساعة 14:57 بتوقيت غرينتش
من اليمين الناشطة الإمارتية آلاء الصديق، الناشط المصري محمد علي، الناشطة السعودية المعتقلة لجين الهذلول

حين بدأ محمد علي في صنع مقاطعه من مكتبه في إسبانيا، لم يكن يتوقع أن تشعل تلك المقاطع انتفاضة في بلده الأم في مصر. فقد أدت المقاطع التي نشرها المقاول سابقاً ومسرّب المعلومات، وكشف فيها عن تبذير الرئيس عبدالفتاح السيسي وعائلته، إلى احتجاجات واسعة ضد الحكومة في سبتمبر/أيلول الماضي. لكن ما توقعه محمد علي بالفعل هو أن النظام سيستهدف عائلته بهدف نزع مصداقيته.

على القنوات المصرية، ظهر والد محمد ليتبرأ منه علناً، واتهمه أخوه وأمه بسرقة أخيه الراحل. وقال لي محمد علي في مكالمة هاتفية من إسبانيا: "عائلتي تكذب. إنهم مؤيدون للسيسي. ولم أتفاجأ بما قالوه، فنحن في دكتاتورية. وما أعرفه هو أنهم قد تم تلقينهم ما يقولونه بالحرف. وفي مواقف عدة، اتصل والد محمد به، وطلب منه أن يعتذر علناً عن صنع هذه المقاطع. ويكمل محمد: "سألني  والدي لماذا فعلت هذا، فقد كنا سعداء قبلها. وقال لي إنهم سيقتلونني. بكيت، لكن لا عودة إلى الوراء". وفي الشهر الماضي،  ظهرت أخبار تقول إن مصر طلبت ترحيله من إسبانيا على خلفية مزاعم تهربه من الضرائب، ضمن حملة السيسي بلا هوادة لإسكات منتقديه بالخارج.

محمد علي

لكن قصة محمد ليست فريدة من نوعها، بل تأتي ضمن طيف واسع متنامٍ من المحتجين الذين اختاروا نفي أنفسهم في مقابل التكلم بحرية ضد الأنظمة السلطوية في المنطقة العربية. وقد شهد العديد منهم تعرض عائلاتهم لضغوطٍ هائلة من قوات الأمن بغية ابتزاز أقاربهم في الخارج وإسكاتهم.

في حواراتٍ أجريتها مع عدد من المنتقدين المفوهين، وجدت أن أكثر من نظامٍ يتبع أسلوباً متكرراً في الوقت نفسه، إذ تطلب من عائلات المعارضين الضغط على قريبهم المحتج وإسكاته، والتبرؤ منه ونزع مصداقيته والتنصل من أفعاله. والعائلات التي لا تستجيب لتلك الضغوط تواجه الحظر من السفر والعزلة الاجتماعية وفقدان الوظائف بل والاعتقال. لكن منتقدي النظام المخضرمين يقولون إن هذه الأساليب لم تكن شائعة أو ممنهجة في السابق.

في السعودية، على سبيل المثال، ارتبط بدء استعمال هذه الاستراتيجية بالفترة ما بعد تنصيب محمد بن سلمان ولياً للعهد في 2017، وبالأخص بعد أن شن حملات من القمع على منتقديه وأصحاب النفوذ وأفراد العائلة المالكة والنشطاء والعلماء والشيوخ. ومن الأمثلة الواضحة على هذا اعتقال سلمان العودة في سبتمبر/أيلول 2017. ومع أنه تعرض سابقاً للاعتقال قبل وصول محمد بن سلمان إلى الحكم، وسُجن من عام 1994 إلى 1999، يقول ابنه عبدالله العودة إن عائلته لم تتعرض لأي مضايقات حينها. الآن، يتعرض 18 فرداً من عائلته، من بينهم أطفال بعمر التاسعة، لحظر من السفر. وما زال عمه في السجن لأنه غرد عن العودة، وتعرض منزل العائلة لتفتيشٍ متكرر.

وفي تحولٍ مريب في الأحداث، بعد منع عائلة العودة من زيارته في السجن، حصل صحفي سعودي على تصريحٍ لإجراء حوارٍ معه، ووصف السجن بأنه مكانٌ للاسترخاء. ونقل الصحفي عنه أيضاً أنه يطلب من ابنه عبدالله أن يتوقف عن الحملات المطالبة بإطلاق سراحه ويركز في الدراسة، وهو طلبٌ وجده عبدالله غريباً؛ لأنه أنهى الدراسة بالفعل، ووالده يعلم.

عبدالله العودة

وقد مرّت لجين الهذلول، الناشطة السعودية الشهيرة بمجال حقوق الإنسان، بهذا التحول في الأساليب أيضاً. فعلى العكس من فترة اعتقالها الأولى في 2014، حين تعرضت للاعتقال مرة ثانية في 2018 تم وضع والديها على قوائم حظر السفر. وأُجبر زوجها على العودة من السعودية إلى الأردن. ولاحقاً طلقها زوجها، لكن من غير الواضح ما إذا كان هذا بضغوطٍ من الحكومة. وتعرض أقرباؤها لضغوطٍ للصمت عن قضيتها، لكنهم تحدثوا في النهاية بعد معرفتهم بتعذيب لجين والتحرش الجنسي بها في السجن.

لجين الهذلول وزوجها

تقول هالة الدوسري، ناشطة وأكاديمية سعودية: "لقد حاول الكثيرون أن يلتزموا الصمت، لكن الجديد في عهد محمد بن سلمان أنه لن يتوقف عن ملاحقتك حتى إن التزمت الصمت. وهذا جديد في السعودية، وكأن النظام يقول: سنلاحقك وعائلتك، ولا مجال للتفاوض. لهذا لا ينفع الصمت".

وفي حين أن حظر السفر ليس بالأمر الجديد في السعودية، ففي عهد ولي العهد السابق محمد بن نايف، الذي أبعده ولي العهد محمد بن سلمان في 2017، فقد تمت مراجعة هذه القوائم سنوياً، وكان من الممكن الاعتراض عليها وفقاً للدوسري. لكن الحال لم يعد هكذا، ولا نعلم كم شخصاً على قوائم المنع من السفر في السعودية، لكن الأعداد تقدر بالآلاف. وتقول الدوسري: "يمتد الحظر لأجل غير مسمى في عهد محمد بن سلمان".

تضمنت هذه الجهود ضغوطاً مباشرة في البلاد الغربية المنفي إليها هؤلاء النشطاء. في 2018، على سبيل المثال، وجد عمر بن عبدالعزيز، أحد منتقدي بن سلمان المفوهين، أحد إخوته يزوره في كندا، يصحبه رجلان يقولان إنها يحملان رسالة من ولي العهد. قال الرجلان إن عبدالعزيز عليه إما التوجه إلى السفارة السعودية في كندا أو التوجه إلى السعودية معهم. لكن عبدالعزيز لم يفعل أيهما، ودخل أخوه السجن حين عاد إلى السعودية، مع عددٍ من أصدقاء عبدالعزيز، في محاولة للضغط عليه أكثر. وبعد عامين، في غياب أي إشارة إلى إيقاف عبدالعزيز نشاطه السياسي، حذرته السلطات الكندية من أنه صار هدفاً محتملاً للحكومة السعودية.

وقد استعملت الحكومة السعودية الأسلوب نفسه مع سعد الجابري، ضابط الاستخبارات السابق في السعودية، الذي أسهم في إحباط مؤامرة شنها تنظيم القاعدة على الغرب. فقد اعتقلت الحكومة السعودية اثنين من أطفاله وأحد إخوته للضغط عليه للعودة إلى الوطن. (بعد مقتل جمال خاشقجي في 2018، اعترف المسؤولون السعوديون بوجود أمرٍ بجلب المعارضين إلى الوطن دون تحديد الوسائل).

ويشك النشطاء في أن مضايقة عائلات المعارضين صار الاستجابة المفضلة للاحتجاج بسبب العلاقة الوثيقة بين وليّ العهد الإماراتي محمد بن زايد، ومحمد بن سلمان، خاصةً لأن الإمارات طبقت هذه الوسائل قبل أعوام. وتقول الناشطة الإماراتية في مجال حقوق الإنسان آلاء الصديق، التي تعيش في لندن وتقدمت بطلب اللجوء السياسي إليها، إن التوجه ينتشر في السعودية بشراسة في الأعوام الماضية، لكنها مرّت بهذه الأساليب في الإمارات في ما مضى. آلاء هي ابنة واحد من 94 مواطناً إماراتياً أدينوا في 2013 بـ"الإخلال" بأمن البلاد، وهي القضية التي نشرت عنها حين كنت أعمل في صحيفة محلية داخل البلاد. وقالت آلاء إن 20 من أقرباء هؤلاء المدانين أسقطت عنهم الجنسية، وهي من بينهم. وآخرون تعرضوا لحظر السفر، وواجهوا الإقصاء المجتمعي، وعجزوا عن الحصول على وظائف بعينها.

آلاء الصديق

وقالت آلاء لي من لندن: "إن جاء شخص ليتقدم إلى أختي فإن الحكومة تمنعه. لا نعرف بالضبط أعداد الممنوعين من السفر، لكن لا توجد ورقة رسمية أو إخطار يتسلمه الشخص ليعرف أنه ممنوع من السفر. لكن ما إن تحاول عبور الحدود، تتلقى إخطاراً شفهياً. هذا التحالف المتزايد بين السعودية والإمارات يؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان نفسها واستعمال الأساليب نفسها".

وقال أحد المحتجين -لم يرغب في ذكر اسمه خوفاً من الانتقام- إنه شجّع عائلته سراً على التبرؤ منه، وأضاف أن المعارضين قبل أن يعلنوا معارضتهم، يعرفون تمام المعرفة أن الحكومة ستتمادى إلى حدٍّ كبير بهدف إسكاتهم، وسيشمل هذا التعرض لأحبائهم.

ومع تبني الأنظمة أساليب أكثر قسوة ضد منتقديها، يلجأ المعارضون إلى التحركات القانونية لفضح الانتهاكات. بهذه الطريقة، تتعرض الحكومات الغربية لضغطٍ داخلي من أجل شجب منتهكي حقوق الإنسان، في الوقت نفسه الذي تحاول فيه الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية في المنطقة.

في وقتٍ سابق من العام، بدأ عدد من السعوديين المعتقلين وحلفائهم في تجنيد المحامين ومحترفي الضغط السياسي، وجلب قضاياهم إلى الولايات المتحدة. ومؤخراً، رفع الناشط المصري الأمريكي محمد سلطان، الذي تعرض للتعذيب أثناء سجنه في مصر، دعوى قضائية في واشنطن ضد رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي متهماً إياه بإصدار أوامر بتعذيبه في 2013. واستجابةً لذلك، اعتقلت الحكومة المصرية خمسة من أقربائه واستجوبت والده قبل اصطحابه لمكانٍ غير معلن. وقالت الحكومة المصرية للعائلة إن هؤلاء رهائن حتى يتنازل سلطان عن القضية. وشجب المشرعون في الولايات المتحدة الاعتقالات باعتبارها تدخلاً صريحاً في القضاء الأمريكي.

ستسبب الملاحقة الدائمة للمحتجين وعائلاتهم صداعاً دبلوماسياً مستمراً للغرب، والولايات المتحدة خصيصاً -سواءً في عهد الرئيس دونالد ترامب أو تحت إدارة غريمه في الانتخابات، جو بايدن- إلا إن نسقت تلك الحكومات جهوداً جماعية للضغط على تلك الأنظمة من أجل تحسين سجل حقوق الإنسان فيها. وقد عبر بايدن بالفعل عن قلقه من المضايقة المستمرة لعائلة سلطان، وحذر من أنه لن يقدم شيكاً على بياض لـ"ديكتاتور ترامب المفضل"، مشيراً إلى السيسي، وملمحاً إلى ما ستعنيه رئاسته لمصر والدول الأخرى في المنطقة. والمحزن، في حالة سلطان، أن مصر مارست ضغوطاً دبلوماسية على وزارة الخارجية الأمريكية من أجل منح الببلاوي حصانة دبلوماسية من قضية التعذيب، وأعلنت عنها وزارة الخارجية الأمريكية بالفعل. وهذا سيؤدي إلى ضغط أكبر على عائلة سلطان، والعائلات الأخرى التي تنتظر القصاص من المنتهكين وتحرير أفراد العائلة.

في حين لا تستطيع الولايات المتحدة وأوروبا تصدير قيم حقوق الإنسان إلى العالم العربي، يمكنها على الأقل مساعدة الهاربين في الحصول على العدالة، خاصة حين يتورط مواطنون من هذه الدول الغربية. وأي شيء أقل من ذلك سيقوي شوكة هذه الأنظمة ويشجعها أكثر على القمع.

– هذا الموضوع مترجم عن مجلة Foreign Policy الأمريكية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عُلا سالم
صحفية مصرية
عُلا سالم، صحفية مصرية بريطانية تمتد خبرتها في تغطية الشرق الأوسط لعقدٍ كامل. وهي حالياً تدرس للحصول على درجة الماجستير بجامعة نيويورك.
تحميل المزيد