حُجوا في رحالكم

عدد القراءات
14,924
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/29 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/29 الساعة 13:10 بتوقيت غرينتش

كنتُ لا أُميز الشهور حينها، ولا أعلم متى يأتي ذو الحجة، أو ما ترتيبه في العام، أو الشهور التي قبله وبعده، ومن المسؤول عن تجميع هؤلاء وإخبارهم بأن يأتوا إلى بيت الله في زمانٍ محدد من كل بقاع الدنيا، فيجتمعون أفواجاً في مكانٍ واحدٍ، وأراهم بالتلفاز يهتفون في صوتٍ واحد: "لبيك اللهم لبيك"، وأرفع صوت التلفاز أكثر "لبيك لا شريك لك لبيك"، وأرفعه إلى أعلى درجة "إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، وأهتف معهم من جديد "لبيك اللهم لبيك"، وأشعر أنني هناك.

كبرت وعرفت تفاصيل الأمر، لكن بقي استقبالي للموسم كما هو، أفتح بثاً مباشراً من المكان، أتطلّع إلى وجوه الناس، أتأمل المشهد الرأسي الذي يُصوّرهم من الأعلى، أراقب أياديهم المرفوعة في توسل عجيب، أرى بكاءهم، فأبكي له في نفسي، وأدعو بما أريد، عسى دعوتي المسكينة تتيه بين دعواتهم فيقبلها الله معهم، مِن باب "من جاور السعيد يسعد".

وأتى عامٌ لم نكن نتوقعه، بل لم يخطر ببالنا أصلاً حتى نقول إننا توقعناه أم لا، إذ إنني لن أجد في البث المباشر مئات الآلاف، ولن أسمع أصواتاً ترجُّ التلفاز وأشياء في داخلي، ولن أستطيع حج البيت من الصالون بحسرةٍ مثل كل مرة، ومثل ملايين يفعلون ما أفعل نهاية كل عام هجري، ولن أنام وأصحو على القناة أتابع أين وصلوا، وإلى أين توجّهوا، ولن أستطيع رؤية رجال الأمن يحملون الحجيج كبار السن ويخدمون الجميع بعيونهم، فقط عدد محدود سيذهب ويعود في حج استثنائي، ليس فيه تعثر وتزاحم، وليس فيه الضجيج الذي نحبه.

حجاج قلائل، سيسيرون فرادى بمسافات آمنة بينهم، ونحن لم نكن نعرف الأمان في الحج إلا في انعدام المسافات بين عباد الرحمن، ليس من باب "التلزيق"، لكن لأنه لو وُجد موضع قدمٍ فارغ لشغله مسلمٌ ما، من الملايين الذين يتوقون إلى الفريضة لكن العدد محدود، أو التكلفة غير محدودة.

ومع شهور عصيبة للوباء كان يؤذَّن فيها من بيوت الله "صلوا في رحالكم"، أتى موسم الحج فتخيّلتُ مؤذناً لا نراه لكنني أسمعه، يقول: "حجوا في رحالكم"، وقد تساوى الجميع هذه المرة، مَن يملكون التكلفة ومَن لا يملكونها، مَن يقيمون هناك ومن يعيشون في آخر الدنيا، من يحجون كل عام ومن يأملون في الحج مرةً واحدةً قبل أن يموتوا خلال الخمسين عاماً القادمة.

وأتخيل يوم التروية، اليوم، إذ يظن الحجاج أنهم ارتووا، لكنهم لا يعلمون أن يوم التروية يكون للأرض العطشى تحتهم، التي ترتوي من سؤر الأنقياء فوقها، الذين يروون داخلهم ويغسلونه بعدما أخلي من كل السواد الذي رسّبته السنون الطوال.

وأتخيل عرفاتٍ حزيناً، يفتح راحتيه ليحمل فوقهما الملايين فلا يجد إلا عشرات، يسألهم فينبئونه بالخبر، فيبكي عرفات ويبكي الواقفون فوقه، ويضمهم ويمد ذراعيه أكثر، حتى يضم جميع المشتاقين في بقاع الأرض، ويبكي ويبكون، ويهتز الجبل من الحمل الكبير لكنه لا يتأفف، وتضيق مِنى بالمُنى لحظةً قبل أن تتمدد فتتسع أكثر، وتسأل المزدلفة عن الألسنة المختلفة، فيجيبها العربي المستثنى الموجود هناك وينبئها بالخبر، فتبكي وتتمدد هي الأخرى حتى تشمل الأعراق كلها.

وأسمع الأرض والسماء وما بينهما، كلٌّ ينادي "لبيك اللهم لبيك"، وينادي بعد كل تلبيةٍ مؤذنٌ يقول "حجوا في رحالكم"، فنعمد إلى ركنٍ من البيت، ليس البيت العتيق، لكنه بيتٌ تخر فيه الجباه لله، فهو بيت الله، ونصعد إلى سجادة الصلاة، ليست عرفات، لكنها مقام صعودٍ لله، في قمةٍ أعلى من الجبل نفسه، وندعو، ونرفع أيادينا، ونحن بثيابٍ ليست ثوب الإحرام، لكنها ثياب تصح فيها الصلاة، فكأنها إحرام.

ونلبّي النداء ونحن في أماكننا ونقول لبيك وإن لم نبرح بيوتنا ونشعر بالزحام حولنا وإن كنا وحدنا، إنهم الملائكة يحجون معنا، يصعدون معنا، يبيتون بالمُنى والأمنيات معنا، يلبّون ويدعون ويكبرون معنا، نبكي بحرارةٍ فيبكون معنا، نقول الله، فيقولون لا إله إلا الله، نقول اللهم فيقولون آمين، نصمت فيدعون نيابةً عنا، يستحلفون الله أن يجيب ما دعونا، ويشهدون على أذقاننا المبتلة بالدموع، ويأخذون عينة من مصلياتنا ويقولون هنا بكوا لك يا رب، وهنا تحشرجت أصواتهم، وهنا أطالوا توسلهم، وهنا صدقوا في إلحاحهم، وهُنا والله حجوا لك، لبيك اللهم لبيك.

وأتخيلنا جميعاً، وخاب وخسر مَن فاته صعود عرفات في بيته ولم يكرم الضيف الكريم، أتخيلنا حجيج بيت الله الحرام من قلب بيوتنا، نسير في حرصٍ كأننا نتجنب السقوط من التدافع حولنا، ونصلي في خضوعٍ كأننا في أطهر بقعةٍ بالأرض، وندعو كل الدعاء كأننا في الدقيقة الأخيرة قبل الغروب، في يومٍ هو خير يومٍ طلعت فيه الشمس، ونهتف من صميم قلوبنا هذه المرة، ليس من باب مشاركة الحجيج مشاعرهم المقدسة، وإنما لأننا نحن الحجيج أنفسهم هذا العام بمشاعرنا المقدسة، وننادي: "لبيك اللهم لبيك".

وينادي المنادي "حجوا في رحالكم"، ونحج في رحالنا، وينزل الله إلى السماء الأولى نزولاً يليق بعزته وجلاله وعظمته، ويغفر لحجاجه في أكبر موسمٍ شهده الحج منذ فُرض قبل قرون، مليار مسلمٍ لم تتسع لهم مكة ولم يحملهم عرفات، لكنَّ كُلا منهم صعد عرفات في غرفته، ووقف بعرفة الذي عرفه، وطاف البيت سبعة أشواط في سجوده الطويل، وقال لبيك اللهم لبيك.

وإن كان الأصلُ في الحج أنه يساوي الجميع، بلباسٍ واحد لا تكاد تجد فيه فرقاً بين غني وفقير، ولونٍ واحد فلا تجد فرقاً بين أبيض وأسود، وبشروطٍ محددة فلا تجد مكاناً لاستعراض الثراء والغنى، وبمعايير ثابتة فلا تعلم هذا من ذاك، وبلقبٍ واحدٍ فجميعهم حجاج، فإنَّ المساواة زادت هذا العام أمراً كان مستحيلاً، وهو أن نتساوى جميعاً في عدم المقدرة، فإن كان الله يقول "لمن استطاع إليه سبيلاً"، فنتفرق بين من يزور البيت ومن يذوب شوقاً إليه، من حضر باسمِه وجسمه ومن غاب فأرسل روحه ترفرف في المكان، وتختلف المقدرة حسب شروط العصر المادية، مما يعسّر الأمر على محدودي الدخل، فإنّ هذه المعضلة حُلت هذه المرة، وصرنا جميعاً بلا استثناء في خانة من لم يستطيعوا إليه سبيلاً. وعليهِ، فإنها فرصة للتبارز أكثر، للقلب الأصدق، وللروح الأنقى، وللصدر الأصفى.

وعساها فرصة لن تتكرر، للمشتاقين، جائزة الله لغير القادرين أمثالنا، لنحج من بُعد -أو من قُربٍ جداً- في عامٍ تتساوى فيه الرؤوس، ولا تفوز إلا القلوب وحدها. وأفكر في ذلك بينما أتذكر صور المسلمين يأتون عرفاتٍ رجالاً من كل فجّ عميق، وأتذكر كيف يكون حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، ثم أتخيل انقطاع السبل عن الجميع فيحج إلينا الحجُّ نفسه، وأتخيل الركن الأعظم يجيء إلينا، حيث نجلس في بلادنا ومنافينا، وتأتينا المشاعر المقدسة بنفسها، وتزحف إلينا الأرض الطاهرة متسللة تحت أقدامنا، وتزورنا، في كل فج عميق.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد