تتزامن في مصر اليوم تهديدات وتحديات متعددة الأبعاد تبدو أكثر تعقيداً مما يدركه الخيال السياسي للنخب سواء في السلطة أو المعارضة، تتمظهر تلك التحديات في اجتماع أربع معضلات شديدة الحساسية في نفس الوقت على الأمن القومي المصري، وهي أزمة كورونا، والتهديدات المتزايدة للأمن القومي في ليبيا وأزمة وجود تتعلق بسد النهضة، إضافة إلى أزمة التهديدات الإرهابية المتعمقة في سيناء والتي لم تتوقف ولم تنخفض حدتها رغم ما تحقق من تدخل كثيف للقوات المسلحة في مواجهتها.
وتأتي هذه الأزمات المتزامنة في ظل انقسام سياسي ومجتمعي حاد، وربما ليس مسبوقاً في تاريخ مصر المعاصر وهو ما يجعل الانقسام والاستقطاب الحاد ينسحب على هذه الأزمات ويتداخل معه تأثيرها على أمن النظام السياسي وأمن مصر كدولة تتجاوز المفهوم الضيق للنظام السياسي وتتضمن الشعب والإقليم والسيادة، كما تأتي هذه الأزمات في ظل أزمة اقتصادية عميقة وهيكلية تتعلق بالنظام الاقتصادي ككل وتفرز أزمات توزيع وتوظيف وتضخم وتدهور لقيمة العملة وأزمة تمويل وعجز ممتدة.
كورونا.. المطالبات المستحيلة
برغم أن هذه الأزمة هي عابرة للحدود وأصابت كافة الدول وتبعاتها عامة على كل الشعوب على اختلاف نظمها السياسية، فإن تلك النظم تستغلها في ترسيخ وجودها، وليس النظام "غير السياسي" المصري استثناء عنها سوى في كونه نظاماً غير سياسي يعتمد على المؤسسات الأمنية وحدها في ممارسة السلطة ويحاول سحب المعادلة الأمنية في مواجهة الوباء لدرجة أن التقارير تشير إلى افتعال أزمة كبيرة مع الأطقم الطبية والنقابات المنظمة لها بالإضافة لمعاناتها من ارتفاع نسبة الوفيات والإصابات بين العاملين بالقطاع الصحي في مصر كنسبة من إجمالى الإصابات، وهو ما يعني خروج عدد كبير من المستشفيات والأطباء من الخدمة بسبب الإصابة أو فقدانهم كلياً بالوفاة في نظام صحي يشكو عجزاً في الأطقم الطبية وهجرة للأطباء وسياسات صحية تفقد الدولة فيها تدريجياً عنصر التحكم والقدرة على الضبط، وتتنازل عن أدوارها في القطاع الصحي لصالح القطاع الخاص الذي لم تستطع فرض قراراتها عليه في التعامل مع الجائحة.
وتضيف تلك الأزمة عبئاً إضافياً على النظام السياسي والدولة المصرية يتمثل في أنها تمثل نقطة انتفاض موضوعية لفئة العاملين في القطاع الطبي، والذين يعانون من تدني أجورهم وتدهور المستشفيات العامة التي يعملون بها وضعف الإنفاق على القطاع الصحي. وفي ظل التعامل مع القطاع الصحي بالمنطق الأمني وانتشار التقارير حول تزايد وتيرة الاعتقالات بين الأطباء والمنتقدين لسياسات التعامل مع الجائحة، فإن الأمر رتب تصاعد موجة الغضب في أوساطهم وأوساط المصريين ضد السياسات التي قادت إلى هذا الوضع وأفضى لمقارنات بين الإنفاق العسكري والأمني والإنفاق على قطاع الصحة ودور القطاع الخاص فيه وارتفاع المطالبات بالمساواة في معاملة شهداء القطاع الطبي بشهداء الجيش والشرطة، وهي مطالبات كان من المستحيل التلفظ بها، ناهيك عن أن تطفو على السطح في غير سياق الجائحة وتفاقمها.
الأزمة في ليبيا.. أين مصر؟
تمثل الأزمة الليبية تحدياً كبيراً للنظام السياسي وللدولة والمجتمع في مصر، بالنسبة للنظام السياسي الحالي فقد اتخذ موقفاً مبكراً بدعم انقلاب تلفزيوني على سلطة ناجمة عن الثورة والتوافقات الليبية والقرارات الأممية. وانبرى يدافع عن هذا الخيار بدعوى محاربة الإرهاب والميليشيات المسلحة، وإذا كان هذا التسويغ لموقفه يحمل بعضاً من الوجاهة إلا أن التحديات القادمة من ليبيا أكبر بكثير من مجرد التهديد الأمني المتمثل في بعض العمليات الإرهابية التي انطلق بعض منفذيها من الشرق الليبي المسيطر عليه من قبل من يؤيده النظام في مصر، إذ تشير التقارير لتراجع حاد في العمالة المصرية المتواجدة في ليبيا بكثافة قبل الثورة، وكذلك تراجع حاد في الاستثمار والتجارة البينية. كما أن كثافة التدخلات الدولية في دولة جوار يفترض في أوضاع طبيعية أن تكون مصر اللاعب رقم واحد فيها وتنافس هذه الدول على المصالح الاقتصادية وحمايتها بتواجد عسكري يسعى أن يكون دائماً عبر القواعد العسكرية، تضاعف من المخاطر الأمنية والعسكرية وتجعل استنادها على قضية الحرب على الإرهاب فقط أمراً سطحياً جداً مقارنة بالرؤية الأشمل والأوسع للأمن القومي.
تواجه مصر في هذه الأزمة تحديات تتمثل في عدم القدرة على تحديد حلفائها، إذ بينما تدعو كل الأطراف لأهمية الحل السلمي فهي إما متدخلة مباشرة أو تدعم أطرافاً بالعتاد والسلاح والتدريب أو بشكل غير مباشر عبر الشركات الأمنية، وبينما يطفو على السطح صراع مكتوم بين القاهرة وأنقرة، فإن محاولات للتوافق تتصاعد مؤخراً وفقاً لبعض التقاريرالإعلامية. في المقابل، تشير التصريحات المصرية الرسمية والتطورات على الأرض إلى ارتباك مصري شديد فبينما حددت مصر في 20 يونيو/حزيران الماضي خطاً أحمر، وهو "سرت-الجفرة"، وأجرت عدة مناورات للتأكيد على التزامها به، فإنها بعد تفويض من شيوخ قبائل ليبية موالين وبعد تفويض من البرلمان يبدو أنها توجهت نحو توسيط أطرف إقليمية مثل الأردن والكويت لمحاولة التوافق مع تركيا حول الأوضاع في ليبيا لمنع أي صدام موسع محتمل. إننا هنا إزاء معضلة أمن قومي حقيقية حيث أصبحت روسيا وتركيا اللاعبين الأكبر في ليبيا مع تدخلات جانبية داعمة ومساندة لهذين الطرفين سواء من فرنسا أو الولايات المتحدة أو إيطاليا أو حتى الإمارات والجزائر ودول المغرب العربي، على اختلاف الأطراف التي تدعمها، إلا أنها تقيم علاقات جيدة مع حكومة الوفاق وتحتفظ بعلاقات مع الأطراف الأخرى، بينما فقدت مصر كلياً موقعها كوسيط محتمل بل وتحتاج لوسطاء سواء في علاقتها بمن في السلطة في دولة جوارها أو بالأطراف الإقليمية والدولية الداعمة له.
سد النهضة: أزمة وجود وأولوية مفقودة
وفقاً للمتداول من أخبار ومعلومات بشأن التعامل المصري مع تلك الأزمة، فإن ثمة استقطاباً سياسياً ومجتمعياً حاداً حول أولوية تلك الأزمة، فبينما يرى قطاع واسع من المصريين أن أزمة سد النهضة يجب أن تحوز أولوية قصوى على ما عداها من أزمات، وإذا كان هذا الاستقطاب مقبولاً في الوضع الراهن حول مسائل الحقوق والحريات فإنه ليس وارداً قبوله في ملف حساس مثل أزمة المياه وما سيترتب عليها من أزمات في الاقتصاد والغذاء والبطالة والهجرة الداخلية والتي تناولتها عديد من الدراسات وتشير إلى مخاطره بكل سيناريوهاته على مصر الدولة والمصريين، وربما تطال النظام السياسي رغم ما قدمه من تنازلات وانحداره إلى مسار فني بحت أكسب إثيوبيا الوقت اللازم لفرض الأمر الواقع على أجندة المفاوضات عبر ثماني سنوات.
وبينما تيشير تحليلات بعض من رموز المعارضة في الخارج وبعض العقلانيين داخل مصر إلى أن صون حقوق مصر في نهر النيل ليس بأمر يقبل الاختلاف بين المواطنين المصريين، وأن على المعارضة أن تؤيد توجه الحكومة إلى مجلس الأمن الدولي، وأن تصطف معها لدعم تمسكنا بحتمية امتناع إثيوبيا عن الإجراءات الأحادية وضرورة التواصل إلى حلول توافقية، فإن الحكومة المصرية تسير بمفردها في مسار إقناع المصريين بالأمر الواقع، وتعول على أطراف غير فاعلة، وتشير تصريحات مسؤوليها إلى أنها ماضية في سياسات التكيف مع السد كأمر واقع، بل ويضلل الإعلام المحسوب على السلطة المصريين في ملف السد ويحوله المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بجانب أزمة كورونا والأزمة الليبية إلى أمن قومي بأن يحظر على المصريين التحدث فيه. وبهذا فنحن إزاء معادلة أمن قومي تستبعد فيها السلطة الشعب من تحديد المخاطر التي تهدده وتحديد الأولويات التي يجب التعامل معها، ناهيك عن المساهمة في وضع الخطط في ظل برلمان ورئاسة وإعلام وأشباه مؤسسات تتصرف بالحديد والنار مع المعارضين والمختلفين في الداخل، بينما هي غير جادة وغير حاسمة في التعامل مع ملفات وجودية وتهديدات خطيرة لأمنها القومي. لتتزايد مشروعية الأسئلة حول إذا كانت مصر غير قادرة على تأمين مياهها ومنع إقامة قواعد أجنبية على حدودها، فلماذا عقدت كل صفقات التسلح الضخمة تلك؟ ولماذا كل هذا التزايد في ميزانيات الدفاع والتوسع في التجنيد الإجباري منذ الثورة في 2011؟ لماذا لا توجه تلك الزيادات الضخمة للتعليم والصحة والخدمات العامة؟
الإرهاب أزمة ممتدة تغذيها سياسات مرتبكة
إذا كانت أزمة التنظيمات الإرهابية في مصر قديمة ومتجذرة وهددت كافة الأنظمة السياسية، فإن تهديدها لنظام حكم قادم من قلب الجيش ويدعي السيطرة الكاملة على مقاليد الحكم ويطلق حروباً ممتدة ضد أهالي مناطق ويحول تنظيمات سياسية إلى مجموعات إرهابية بل ويصدر نفسه ويشرعن نظامه باعتباره يحارب الإرهاب نيابة عن المنطقة والعالم، فإن هذا التحدي يصبح أمراً أشد خطورة، خصوصاً أنه موجه ضد الجيش وقوى الأمن وبتوسع تنظيماته وتصنيفاته أصبح بدرجة ما موجهاً ضد قطاعات من المواطنين وضد فكرة الدولة. ومع صعود وأفول تنظيم داعش أصبحت هناك تساؤلات منطقية حول لماذا خفتت موجات الإرهاب في مناطق مختلفة من الإقليم بينما لا تزال وتيرتها عالية في مصر مقارنة بالسابق؟
وتكمن خطورة الموقف الحالي في الحرب ضد الإرهاب في توسيع تصنيف السلطة لدوائر معارضيها باعتبارهم إرهابيين منضمين لتنظيمات إرهابية مسلحة أو يشاركونها في تحقيق أهدافها، وهي التهمة التي نالت جميع المعارضين للنظام الحالي. وهو الأمر الذي ينهك الأجهزة الأمنية في ملاحقة المعارضين من ناحية، ويغذي مقولات بعض الأطراف بأن الإرهاب مفتعل، وأن السلطة تستخدمه لتصفية معارضيها. ويشوش هذا المناخ الاستقطابي على أية محاولة للفهم لهذه التنظيمات ويقلل من فرص مراجعة وتحسين السياسات في مواجهتها وعزلها، وإذا ما أضيف لتصنيفات الإرهاب في الداخل ملايين الليبيين في الغرب ممن لا يدعمون الطرف السياسي الذي تدعمه السلطة في مصر باعتبارهم إرهاباً، فإن المعركة ستطول ويتوسع نطاق محاربته وسيصبح تحدياً استراتيجياً أوسع من قدرة النظام السياسي والدولة المصرية على تجاوزه أو تخفيف حدته.
خلاصة القول إنه وبرغم اجتماع السلطة بشكل غير مسبوق في يد النظام السياسي الأمني كما لم تجتمع لأي من حكام مصر في التاريخ الحديث حيث تدين له البيروقراطية في الواقع وفي الواقع الافتراضي ولا يوجد صوت معارض أو عقلاني في الإعلام الموالي. بينما تبدو مؤسسات الحكم كلها على قلب رجل واحد أو هكذا تصور نفسها، ولا يوجد مكان لأحزاب تقول رأياً مختلفاً، فإن هذه الحالة تحمله مسؤولية غير مسبوقة وتفرز أزمات أكبر تتعلق بمعادلة السلطة والحكم وتنعكس بالسلب على كافة الملفات الإقليمية والمحلية. تكمن أهمية تلك الملفات في أنها تزاحم البعد الأمني العسكري التقليدي المسيطر على صناع القرار في فهمهم للأمن القومي، فلم يعد الأمن مقتصراً على التهديدات الإرهابية أو العسكرية الخارجية بقدر ما أصبح يحمل أبعاداً ترتبط بافتراضات حول الجائحة والتهديدات الإلكترونية والبيولوجية وكذلك الأمن الإنساني المرتبط بالصحة والغذاء وقدرة الدولة على التعامل مع انتشار وبائي كبير بمؤسساتها الطبية المترهلة. وذلك يفرز احتياجاً لتوسيع تلك المفاهيم ومن ثم يفرض سياسات لم يكن متوقعاً أن تتبناها السلطات من ذاتها، وهذه الالتزامات تتطلب تمويلاً وإعادة تحديد للأولويات، في الوقت نفسه فإن الاستجابة المصرية للتحديات والأزمات المتزامنة لم تكن على نفس القدر من الاهتمام.
تتجاوز التحديات الحالية النظام السياسي وتهدد المجتمع والمعارضة وتجعل من إمكانية تجاوزها بالوضع الحالي من الاستقطاب الحاد والسياسات المرتبكة أمراً بعيد المنال. ويضيف تزامن تلك الأزمات تعقيداً على تعقيد، وإذا كانت مصر قد واجهت تهديدات أعمق وأشد فتكاً في الماضي، فإنه على الأقل لم تكن شرعية النظام وأزمات معارضته على المحك ومتفاقمة بهذا السوء الحالي، وهو ما ينذر بتحولات ومخاطر غير معلوم أبعادها ولا توجد سيناريوهات للتعامل معها، وتحتاج لجهد كبير لتجاوز مرحلة التراشق والاستقطاب الحاد الحالي والتفسخ المجتمعي الشديد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.