منذ يوم نجاحها الأول كانت الثورة التونسية محط إعجاب جميع الشعوب العربية الحالمة بالتغيير السلمي، حيث أدى الانتقال السلس للسلطة إلى الظن أن الثورة على وشك أن تُخرج ثمارها للنور، وخاصة في ظل مناخ ديمقراطي تجسّد بشكل مثالي في حكومة الترويكا، حيث كُلف حمادي الجبالي عن حركة النهضة بتشكيل الحكومة، وانتُخب مصطفى بن جعفر عن التكتل الديمقراطي رئيساً للمجلس التأسيسي، وانتُخب من حزب المؤتمر الدكتور المرزوقي رئيساً للجمهورية، وظنّ الجميع أن الأمور قد هدأت في الدولة، بعد عملية تقاسم ديمقراطي لم تستأثر فيها النهضة صاحبة الأغلبية البرلمانية بالسلطة، غير أن البلدان المعادية للربيع العربي كان لها رأي آخر.
اتّسم عام 2012 بالهدوء، ربما بفعل انشغال دول الخليج بكبح الثورات في باقي البلدان العربية ومنع تمددها لبلدانهم، أو تركيز جهودهم على إفشال التجربة الديمقراطية في البلدان الأكثر أهمية استراتيجياً لهم من تونس، التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات. غير أن عام 2013 شهد كشف القوى المعادية للثورة التونسية عن استراتيجيتها، التي تمثلت في إحداث حالة من الغضب الشعبي كفيلة بإسقاط الثورة، وهو ما تم بالفعل في 25 يوليو/تموز عبر اغتيال شكري بلعيد في العاصمة. وهو ما فجّر مظاهرات وأعمال عنف أفضت إلى استقالة الحكومة وتعيين العريض رئيساً للحكومة.
في 25 يوليو/تموز للعام ذاته تكرّرت عمليات الاغتيال، هذه المرة للمعارض محمد البراهمي، وهو ما فجّر احتجاجات شعبية، ولم ينته العام إلا بحدوث عملية إرهابية في جبل الشعانبي، أدت لمقتل 8 من الجنود التونسيين. وفي يناير/كانون الثاني 2014، تم إقرار الدستور الجديد، وقدمت حكومة النهضة استقالتها، لتتولى حكومة تكنوقراط، ولتختفي مؤقتاً العمليات الإرهابية والاغتيالات، وكأن من كان يقف وراءها قد حقق ما أراد، خاصة حين فاز حزب "نداء تونس"، بقيادة قايد السبسي، بالأغلبية البرلمانية بـ86 مقعداً، تلته "النهضة" بـ69 مقعداً من أصل 217 مقعداً، تلاها فوز السبسي ذاته بمنصب رئيس الجمهورية، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته.
رهان خاسر
دأب السبسي على إظهار عدائه للإسلاميين، وهو ما دفع الإمارات لدعمه وتمويل حملته حسبما أورد موقع Lobelog الأمريكي، مبرراً ذلك الدعم بافتقار تونس لجيش قوي قادر على القيام بانقلاب عسكري يُقصي النهضة ويُجهض المسار الديمقراطي، غير أن مساعي أبوظبي لم يُكتب لها التوفيق، فبوصول السبسي للحكم سعى للتهدئة مع النهضة، وهو ما أغضب حكام الإمارة، ودفعهم لإغراء السبسي بأموال هائلة، شريطة تكرار المشهد المصري، حسبما أكد الصحفي سفيان بن فرحان على لسان السبسي ذاته، الذي رفض قائلاً "إن تونس ليست للبيع". فعملت الدولة الخليجية على إضعاف قبضته على حزبه عبر دعم نجله حافظ السبسي الطامح إلى تولي الرئاسة، وكذلك دعم رئيس الوزراء يوسف الشاهد، وهو ما أدى لتصدع الحزب وانشقاق 22 من نوابه ليصبح النهضة صاحب الأغلبية.
مدفوعاً بضعف موقفه اتجه السبسي لمزيد من التهدئة مع النهضة، فيما عُرف بتحالف الضرورة بهدف التفرغ لمعالجة مشكلات البلاد الاقتصادية والأمنية، حيث شهد عام 2015 عودة الهجمات الإرهابية، كان أكبرها في 26 يوليو/تموز، في مدينة سوسة، قتل في إثرها 40 شخصاً، أغلبهم من السياح الأجانب، وذلك بعد ثلاثة أشهر من هجوم على متحف باردو، في مارس/آذار، خلّف 22 قتيلاً. وفي نوفمبر/تشرين الثاني شهدت العاصمة التونسية تفجيراً استهدف الأمن الرئاسي، قتل منهم 12 جندياً، وجميعها هجمات إرهابية أعلن مسؤوليته عنها تنظيم داعش، الذي لا يُعلم مصادر تمويله. ومع استمرار السبسي في رفضه إقصاء النهضة، هاجمت عناصر من داعش في مارس/آذار 2016 ثكنات عسكرية في مدينة بنقردان، واشتبكت مع الأمن، وأسفر الهجوم عن مقتل 55 مسلحاً و12 من قوات الأمن و7 مدنيين.
قفزاً للعام 2018، اتخذ أعداء الثورة التونسية منهاجاً جديداً، بعد أن أثبتت العمليات الإرهابية عدم نجاعتها، فقاموا بالعودة للأسلوب التقليدي عبر تدبير انقلاب، وقع اختيارهم هذه المرة على وزير الداخلية لطفي براهم، فوفق ما أشار إليه دبلوماسيون غربيون ونشره موقع "موند أفريك" الفرنسي، فقد اجتمع رئيس المخابرات الإماراتي مع الوزير التونسي في جزيرة جربة، للإعداد لانقلاب يطيح بالرئيس العجوز لدواعٍ طبية، على غرار انقلاب زين العابدين بن علي عَلَى بورقيبة سنة 1987، والإطاحة بالإسلاميين من الحياة السياسية، وربما إعادتهم للمعتقلات، وإقالة رئيس الوزراء "الشاهد"، ليتولى مكانه وزير دفاع بن علي السابق كمال مرجان، غير أن العملية فشلت بعد تحذيرات من أجهزة الاستخبارات الأوروبية، فيما آثرت الجهات الرسمية التونسية ذكر رواية تتحدث عن إقالة برهان، بسبب حادثة غرق 79 مهاجراً أمام السواحل التونسية.
الشارع يعاقب القوى الحزبية
وفي الانتخابات المبكرة التي تلت وفاة الرئيس السبسي، كشفت الإمارات عن مقاربة مغايرة في التعامل مع المشهد التونسي، تشبه لحدٍ بعيدٍ سيناريو مصر ما قبل 2013، تمثلت في استخدام أذرع سياسية وإعلامية مع بعض الهجمات الإرهابية القليلة، لإرباك المشهد ومحاولة تفجير الثورة من الداخل، عبر إثبات فشلها في إدارة البلاد وتحقيق طموحات الشعب. فبنظرةٍ سريعة على نتائج انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019، يمكننا التعرف على ما وصل إليه الشارع التونسي؛ ففي الانتخابات الرئاسية انتهت الجولة الأولى بنتائج تدعو للتدبر، تمثّلت في تقدم أستاذ القانون الدستوري قيس بن سعيد المرشح اللاحزبي، والذي لم يمارس العمل السياسي يوماً، تلاه نبيل القروي زعيم "حزب قلب تونس" ومؤسس قناة نسمة والمعتقل آنذاك على وقع قضايا فساد، في مشهد يكرس رفض الشارع التونسي للقوى الحزبية التقليدية، وأن خياره الحالي بين وجوه جديدةٍ لا حزبية أو العودة لنظام بن علي، غير أن قرار الشعب كان حاسماً بفوز سعيّد بـ73%.
لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية حاسمة بالشكل ذاته، وأفرزت برلماناً فسيفسائياً، حازت فيه النهضة الأكثرية بـ52 مقعداً، تلاها "قلب تونس" بـ38 مقعداً، وحلّ "التيار الديمقراطي" ثالثاً بـ22 مقعداً، ثم "ائتلاف الكرامة" بـ21 مقعداً، يليه "الدستوري الحر" بـ17 مقعداً، بقيادة عبير موسى، الأمين العام المساعد لحزب "التجمع الدستوري المنحل، ثم حزب تحيا تونس بـ16 مقعداً بقيادة يوسف الشاهد. وفي أولى جلسات البرلمان 13 نوفمبر/تشرين الثاني ترشّح زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي، لينافس مرشح التيار الديمقراطي غازي الشواشي وقائدة الدستوري الحر عبير موسى، وتفاجأ الجميع بتصويت كتلة قلب تونس لصالح الغنوشي ليحصد 123 صوتاً.
إخفاقات متتالية للنهضة
كان للغنوشي رأي بالاكتفاء برئاسة البرلمان وترشيح شخصية مستقلة للحكومة، غير أن مجلس شورى الحركة كان له رأي آخر بترشيح الحبيب الجملي لتشكيل الحكومة -في تكرار لسيناريو نظرائهم في مصر في انتخابات الرئاسة 2012- وهو ما أثار غضب الأحزاب الأخرى، ففرضت شروطاً تعجيزية لتفشل حكومة الجملي في نيل الثقة، وهو ما أدى لخلافات داخل الحركة حول تحمل مسؤولية الإخفاق، انتهت بتقديم زياد العذاري، أمين عام الحركة، استقالته مع عدد من القيادات.
على وقع إخفاق مرشح النهضة لجأ الرئيس سعيّد لفرض مرشحه إلياس الفخفاخ، مهدداً بحلّ البرلمان في حال عدم نيله الثقة، فيما اعتبره البعض قفزاً على نتائج الاستحقاق الانتخابي، وتجاوزاً دستورياً، إذ يفرض الدستور على الرئيس أن يكلف الحزب الحاصل على الأغلبية بترشيح رئيس للحكومة، لكن النهضة وافقت وشاركت في "حكومة الرئيس"، على الرغم من رفض ضم حليفها الجديد "قلب تونس" للحكومة الائتلافية، تجنّباً لإدخال البلاد في دوامة انتخابات أخرى قد تُفرز مزيداً من التشرذم، لكنها كانت بداية لعدد من الصدامات بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية من جهة، والحركة وقائدها من الجهة الأخرى، لتشتعل حرب التصريحات، كل يهدد بإسقاط شرعية الآخر.
عودة الإمارات بأدوات جديدة
لم تكن الإمارات بعيدة عن المشهد، بل كانت تُعد أدواتها للتدخل واستغلال تلك التصدّعات بين القوى الثورية، هذه المرة عبر ذراع إعلامية تمثلت في لطفي العماري، الإعلامي بقناة الحوار التونسية، وكوثر زنطور رئيسة تحرير موقع الشارع المغاربي، وباسل ترجمان الصحفي الفلسطيني وثيق الصلة بدحلان والمقيم في تونس، والذي أصبح ضيفاً على جميع وسائل الإعلام لمهاجمة النهضة وتقوية أحزاب الثورة المضادة. وتكفل ذلك الذراع بنشر الأكاذيب المضللة، والتي من شأنها تأليب الشارع على النهضة، كان أوسعها انتشاراً اتهام الغنوشي بالفساد وتربح 8 مليارات دولار منذ عودته للبلاد، وهو ما نفته هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.
فيما تكفّل بالدور السياسي كل من محسن مرزوق، رئيس حزب "مشروع تونس"، وياسين إبراهيم رئيس حزب "آفاق تونس"، وعياض الودرني مدير الديوان الرئاسي لابن علي، وعبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر، غير أن الأخيرة أخطرهم، ما جعلها تحوز إشادة ضاحي خلفان بشكل مستمر. عملت موسى وكتلتها البرلمانية على العزف على وتر السلبيات والتجاوزات وخلق الأزمات، وتصدير صورة سلبية عن البرلمان بشكل خاص، وعن الحياة السياسية بشكل عام، بدأتها باعتصام مفتوح داخل البرلمان في ديسمبر/كانون الأول 2019، إثر خلاف مع حزب النهضة، مروراً بعدد من الاعتداءات اللفظية والجسدية من قبل نواب حزبها على نواب النهضة، والتشويش على جلسات البرلمان وإغراقه بالرسائل الاحتجاجية، ونشر لافتات على جدران المجلس بعبارات مسيئة للكتلة الإسلامية، انتهاءً بمعاودة الاعتصام المفتوح داخل البرلمان في وقت سابق من هذا الشهر، واحتلال المنصة الرئيسية، مُعطلةً بذلك عمل المجلس، وقدّمت عدداً من لوائح سحب الثقة من الغنوشي، حُدّد لآخرها جلسة 30 يوليو/تموز الجاري.
وضع حرج لقيس سعيد
وليزداد الوضع اشتعالاً قدّم النائب المستقل ياسين العياري، في 25 يونيو/حزيران الماضي، مستندات تُثبت ملكية الفخفاخ أسهماً في شركات لها تعامل مع الدولة، حصلت إحداها على صفقة بـ14 مليون دولار أواخر فبراير/شباط الماضي، وطالب النائب بسحب الثقة من الفخفاخ لاتهامه باستغلال النفوذ والتربح من منصبه وتضارب المصالح، وفي 15 يوليو/تموز الجاري، أعلنت النهضة جمعها 105 توقيعات من أصل 109 لازمة لسحب الثقة من الحكومة، التي ترى أنها فقدت مصداقيتها، وهو ما دفع الحكومة المدعومة من الرئيس قيس سعيد لتقديم استقالتها، الأمر الذي أثار غضب الرئيس، الذي كان يفضل انتظار نتائج التحقيقات.
دخل المشهد التونسي مرحلةً من الصراع السياسي تُثير المخاوف بشأن مزيد من الانقسام، الذي قد يؤدي لإضعاف الدولة في ظل ظروف إقليمية صعبة نتيجة تجاذبات الحرب في ليبيا، ووضع اقتصادي واجتماعي عسير، بعد جائحة كورونا، ووضع سياسي معقد ومتشابك، تجلَّى في أوضح صوره في مايو/أيار الماضي، حين استبعد سعيد الغنوشي من اجتماع حول ليبيا، بداعي خروجه عن سياسة الحياد الإيجابي التي تنتهجها الدولة، ودعمه الصريح لحكومة الوفاق وتركيا، وهو ما اعتبره سعيد تعدياً على سلطاته، بصفته ممثل الشعب التونسي خارجياً، وهو الموقف الذي يؤكد الغنوشي أنه اتخذه كرئيس للحزب وليس بصفته رئيساً للبرلمان، وبما يتوافق مع اعتراف الدولة التونسية بشرعية حكومة الوفاق.
أصبح الرئيس بن سعيد في وضع حرج الآن بعد إسقاط رئيس الحكومة الذي فرضه على الجميع بتهمة الفساد، وهو الذي رفض مشاركة حزب قلب تونس في حكومة موسعة، بداعي شبهات الفساد التي تحوم حول رئيسه، وبات الآن مطالباً بالتشاور مع الأحزاب لاختيار مرشح يحظى بالأغلبية داخل البرلمان، وإلا فحل المجلس هو البديل، الأمر الذي سيُعقّد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في ظل مؤامرات إقليمية تسعى للقضاء على التجربة التونسية.
تحالف الضرورة في وجه الانقلاب
كشفت الإمارات عن مشروعها الجديد لإسقاط الديمقراطية في تونس، وما يمثله من رمزية عبر خلق حالة من الفوضى، تقوم على ترويج الشائعات، وتُضاعف من معاناة المواطن التونسي اليومية، نتيجة تردي الحياة الاقتصادية وشعوره بعبثية المشهد السياسي، تمهيداً لتكرار المشهد المصري، ودفع جهات عسكرية للانقلاب، ربما حتى دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن أسماء أخرى، أنشأت عبر أذرعها في يونيو/حزيران الماضي ما سمّته جبهة الإنقاذ، التي تهدف إلى حلّ مجلس النواب، وتجميد العمل بالدستور، وتكليف الرئيس ورئيس الحكومة بتأسيس المحكمة الدستورية، وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة قبل نهاية عام 2020.
استشعر الرئيس سعيد الخطر الكامن في إعداد المشهد لسيناريو انقلابي، سيناريو لو حدث فلن يستثنيه، فاجتمع مع القيادات العسكرية والأمنية، والتي أكدت له وقوفها مع الشرعية الدستورية بشقّيها البرلماني والرئاسي، واجتمع مع الغنوشي، وأكد رفضه التام لتعطيل عمل المؤسسات الدستورية، فيما بدا أنها فرصة للنهضة لوأد الخلافات مع الرئيس والعودة لسيرتها الأولى من مشاركة الأحزاب في تداول المناصب والمسؤوليات، وألا تصارع على الرئاسات الثلاث، وإعادة فكرة تحالف الضرورة، يقدم فيه كل طرف بعض التضحيات بهدف التعاون للنجاة بسفينة الوطن من الدسائس الإقليمية، التي يُحاك بعضها بأيدي أبناء الوطن، وتهدف لإعادة عقارب الساعة للوراء عشرة أعوام، لتسقط آخر نبتة ياسمين في حديقة الربيع العربي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.