قد يبدو من البديهي تعريف الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية بأنها الأكثر قرباً من الواقع المجتمعي، وحرصاً على العدالة، والتحاماً بمشاغل الناس. ولكن نجد مفارقة كبرى في تونس سمّاها البعض "اليسار الاجتماعي"، لكنه يسار غير قادر على الالتحام بالأوساط الشعبية سوى بمقدار ما تلتحم الأحزاب اليمينية البرجوازية، وتبقى رغم ذلك شعبية، كما أشارت مقولة الكاتب فتحي بلحاج.
لا يمكن الإنكار أن مرجعيات تلك الأحزاب ومقارباتها غائبة عن ذهن المواطن التونسي، بل بالكاد يصنّفها ويتحرى تموقعها السياسي، في مقابل تعريفها والإشارة إليها بحزب فلان أو ذلك.
نشأة الديمقراطية الاجتماعية
نشأت نظرية الديمقراطية الاجتماعية بشكل رئيسي في وسط أوروبا، وخاصة في ألمانيا، خلال القرن التاسع عشر، حيث المجتمع غير عادل، أوجد صراعاً طبقياً غير متكافئ بين طبقة عليا غنية من الصناعيين والنبلاء من جهة، وقوة عاملة ضخمة تعمل في ظروف قاسية ووحشية، فبرز جمع من المفكرين والسياسيين من المدافعين عن مجتمع أكثر عدلاً ومساواة، أمثال كارل ماركس (1818-1883)، فرديناند لاسال (1825-1864)، إدوارد برنشتاين (1850-1932)، وجون ستيوارت ميل (1806-1873). أعقب تلك النشأة انقسام واضح بين الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين خلال سنوات من المناقشات السياسية الساخنة حين بدأ الاعتراف بالديمقراطية الاشتراكية كأيديولوجية منفصلة.
كانت الاختلافات الرئيسية بين التيارين تقع في اعتقاد التيار الديمقراطي الاشتراكي بتفوق الإصلاح السياسي لإنشاء دولة ديمقراطية مقابل الثورة العنيفة للتغلب على النظام القمعي، في حين أراد الجانب "الثوري" قلب علاقات الملكية وتكوين الدولة من أجل تحقيق مجتمع جديد.
لقد بحث الديمقراطيون الإصلاحيون الاجتماعيون تطوير المجتمع المعاصر وتأسيسه عن طريق الدفاع عن الإصلاحات السياسية الديمقراطية، والدفاع عن الحق النقابي والعمال لتحقيق مجتمع أفضل.
وكانت البداية مع سنة 1875، حين اندمج تياران فكريان لإنشاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني (SPD)، وتوالياً ظهر الحزب الاشتراكي الفرنسي عام 1880، والرابطة الاشتراكية الديمقراطية الهولندية عام 1881، ثم حزب العمال البريطاني عام 1900، وشكّلت هذه الأحزاب معاً الأممية الثانية.
تلك الديناميكية السياسية والفكرية تزامنت أيضاً مع صعود قويّ للنقابات العمالية، والتي تشترك في جوهرها مع الفكر الاجتماعي.
يمكن النظر إلى الديمقراطية الاجتماعية على أنها حركة اجتماعية وسياسية ومجموعة من الأفكار والمبادئ الملهمة، عبر سنوات نضال طويلة من أجل القيم الديمقراطية، من أجل العدالة الاقتصادية والاجتماعية، من أجل قدر أكبر من المساواة وحقوق الإنسان والدفاع عن الفقراء والمظلومين.
لقد حصلت الديمقراطية الاجتماعية على مصداقيتها من خلال ما تتسلمه قيمها الأساسية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة والتضامن، ومحاولتها تعظيم هذه المكاسب، وتخفيض الضرر الذي تتسبب فيه النيوليبرالية الاقتصادية عبر دمج مفاهيم العدالة الاجتماعية مع الليبرالية السياسية، وتبنّي خيارات تنحاز للتوزيع العادل للثروات وللسياسات ذات المضامين الاجتماعية، المرتكزة على الدور الحمائي للدولة وحوكمة اقتصاد السوق الاجتماعي.
يُنظر دوماً إلى الديمقراطية الاجتماعية على أنها رد فعل وبديل للنظام الرأسمالي النيوليبرالي الصاعد، وهي كغيرها من الحركات التقليدية السياسية تتشكل بشكل كبير من خلال السياقات الوطنية، والتي تضفي اختلافاً كبيراً من دولة إلى أخرى.
تاريخية العائلة الديمقراطية الاجتماعية في تونس
قد يُخيل للبعض أن الأحزاب الاجتماعية وليدة الثورة التونسية حين عرفت الحياة السياسية طفرة حزبية بعد 2011، ولكن الرحلة انطلقت منذ أوائل السبعينات، حيث تمكن أحمد بن صالح بعد فراره من السجن من تأسيس حركة الوحدة الشعبية سنة 1973، كأول حزب معارض لنظام حكم بورقيبة يتبنّى النهج الاشتراكي الديمقراطي كما يسميه على شاكلة الدول الاسكندنافية حيث منفاه.
ثم تأسّست حركة الديمقراطيين الاشتراكيين يوم 10 يونيو/حزيران 1978، وقد كان على رأس المؤسِّسين السيد أحمد المستيري، وإلى جانبه مصطفى بن جعفر، وحمودة بن سلامة، والدالي الجازي، وهي النواة التي أصدرت جريدة الرأي المستقلة مع المناضل الحقوقي حسيب بن عمار كما كانت وراء تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ودوّنت في وثائقها الرسمية مرجعيتها الديمقراطية الاشتراكية، بهدف صيانة كرامة المواطن والدفاع عن حقوقه الأساسية وحرياته العامة، مع الذود عن النظام الجمهوري، وجعل الديمقراطية أساس الحياة العمومية في البلاد، وجعل التنمية الاقتصادية في خدمة العدالة الاجتماعية.
وبتبنِّي حكومة محمّد مزالي، أوّل ثمانينيات القرن الماضي لسياسة "الانفتاح والدّيمقراطيّة" تأسس التّجمّع الاشتراكي التَّقدّمي سنة 1983، وهي التسمية الأولى للحزب الدِّيمقراطي التَّقدمي PDP، والذي كان مؤسسوه وعلى رأسهم أحمد نجيب الشابي ومية الجريبي يتبنون الفكر الاشتراكي الماركسي، ولكن منذ سنة 2001 وصّف نفسه بأنه حزب اجتماعي يعمل على تكريس العدالة الاجتماعية، وحافظ على نفس التوجه تقريباً بعد فشل انصهاره مع حزب آفاق تونس الليبرالي، وتشكل الحزب الجمهوري الوريث للحزب الديمقراطي التقدمي ومقارباته.
يبقى أن أكثر الأحزاب تمسكاً بالمرجعية الاجتماعية ما قبل الثورة كان حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، والذي تأسّس في 9 أبريل/نيسان 1994، على يد مجموعة من النقابيين والحقوقيين ونواة من المغادرين لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين المهادنة للسلطة، وعلى رأسهم مصطفى بن جعفر.
وحظي التكتل بعضوية منظمة الاشتراكية الدولية، التي تضم الأحزاب السياسية في العالم، ذات التوجه الديمقراطي الاجتماعي أو الاشتراكي.
الجدير بالإشارة أن كلمة "اشتراكية" ذات مدلول غامض لدى العامة في تونس، بل وأحياناً سيئ، يحيل إلى تجربة التعاضد الفاشلة أو الاتحاد السوفييتي والشيوعية، لكن من المفارقة أن حزب بورقيبة اتخذ التسمية خلال مؤتمره السابع سنة 1964، وتبنّى خلاله الخيار الاشتراكي أو ما سُمي بالاشتراكية الدستورية، والتي استمرت إلى حدود سنة 1988.
لذلك نجد اليوم العديد من مناضلي هذه العائلة في تونس يستحسنون كلمة "الاجتماعية" بدلاً من الاشتراكية، حيث إن المصطلحين يشكلان معنى واحداً للكلمة المشتقة من المصطلح اللاتيني "socialistae".
وبتغيُّر المشهد الحزبي بعد الثورة وتأسيس مجموعة من الكيانات السياسية كان لأحزاب العائلة الاجتماعية نصيب منها، أبرزهم حزب التحالف الديمقراطي المنصهر مع حزب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحزب العمل الديمقراطي وحركة الديمقراطيين الاجتماعيين وغيرها.
يُنظر دوماً للعائلة على أنها الخاسر الأكبر بُعيد كل انتخابات تشريعية ورئاسية، ليس لابتعاد الناخب التونسي عنها، بل لتعدد قوائمها الانتخابية وتشتّت الأصوات بينها، ولكن تبقى نقطة الضوء صدارة التيار الديمقراطي اليوم كحزب ثالث في البرلمان، والقوة الاجتماعية الصاعدة، خصوصاً بتحالفه مع حركة الشعب في تجاوز لخيبات سابقة مع شركاء التوجه، حالت دون بناء كيان حزبي واحد يتمتّع بمقومات القوة السياسية الوازنة كيسار اجتماعي مواجه للعائلات السياسية الأخرى المنافسة على الحكم، وخصوصاً اليمين النيوليبرالي بجميع تفريعاته.
واقع الفكر الاجتماعي الديمقراطي وآفاقه
يُلام على قيادات العائلة الاجتماعية دوماً تعثر محاولات جمع شتات وتكوين الحزب الاجتماعي الكبير، انطلاقاً من قاطرة حزبية متينة، خصوصاً الدعوات القائمة للالتحاق بحزب التيار الديمقراطي، ولكن الحقيقة التي لا يجب أن تُخفى أنه وبرغم ضعف الأحزاب تنظيمياً وعددياً فإنه من الصعب إقناعهم بالجدوى والحتمية والجمع بين نرجسيات مجروحة الكبرياء.
ولكن ما يهمني طرحه للنقاش يبقى الإشكال الأكبر والمتواتر، وعلى مرمى العين منا، ألا وهو غياب الأدبيات الفكرية تونسية النشأة والصياغة، بالتزامن مع اللوائح الحزبية الكلاسيكية الرافضة للتجديد، فيغيب عن الأحزاب الاجتماعية تجربة اليسار الماركسي التونسي بدراساته ومجلاته وكراساته الفكرية ونقاشاته، خصوصاً ما بنته مجلة "آفاق"، وأسهمت فيه "منظمة العامل التونسي" إسهاماً كبيراً في خوض النضال الوطني الديمقراطي في تونس طيلة مرحلة الستينات.
قد أبدو متجنياً على رواد العائلة الأوائل أو قادتها الحاليين ومفكريها، ولكن ضعف القاعدة الفكرية والمرجعية في سياقاتها التونسية جعل من الصعب بناء جيل من المناضلين الموزعين على كامل الوطن، المؤمنين بالفكر والتيار الاجتماعي بقدر ارتباطهم بإعجاب مرحلي وظرفي بالقائد أو الحزب. أي أن إحدى معضلات التكتل هي الإعجاب المفرط بقيادات بعض الأحزاب دون الإيمان بتموقعه السياسي أو معرفة مقارباته الفكرية.
نضبت الأقلام عن تجديد الفكر الديمقراطي وترسيخ جذوره في السياقات الوطنية، فبقينا نكرر نفس المقولات والأفكار الواردة من أدبيات مقارنة، لا بل أصبحنا نسمع اليوم تعريفات جديدة للعائلة، كتيار لا أيديولوجي وسطي بلا روح ولا مراكمة تاريخية، وكأنه وحي أُوحي على زعيم ملهم، متخذين عبارة الطريق الثالث كلافتة تسويقية.
أسئلة تُطرح وتبحث دوماً عن الإجابة، كيف يُمكن أن يعبر تيار الديمقراطية الاجتماعية عن هويته بشكل واضح، ويُدافع عن قيمه بشكل صريح في ظل الواقع السياسي المجتمعي وتنوعاته؟
وما هي المعارك السياسية-الاجتماعية والقضايا المميّزة التي من شأنها أن تمكّنه وتعزز قاعدته، متجاوزاً تصنيفه ضمن الديمقراطية البرجوازية؟
قد أكون متشائماً -ظرفياً- لنجاعة خطوات تشكيل الحزب الاجتماعي الكبير، ولكن شديد الإيمان بأن لنا مفكرين وسياسيين قادرين على لعب أدوارهم في تجديد الأسس والاتجاهات الفكرية، التي تستمد منها العائلة الاجتماعية الديمقراطية بناءها الفكري وبلورة لوائحها ورؤيتها للحكم عبر برامجها الانتخابية وسياساتها العامة، بل وتجاوز حالة العطب والتقصير في إظهار المسألة الاجتماعية، بعيداً عن الشعبوية، وضمن خطاباتنا وبرامجنا وخططنا، قصد ملء الفراغ الناجم عن الانفصال عن المجتمع ومشاغله.
ويبقى العاجل والآني هو التفكير في الوسائل الكفيلة من أجل تمكين المنخرطين من التأطير والتكوين الذي يليق بهذا المشروع الفكري.
المراجع:
-(Théorie de la démocratie sociale 2005 (Meyer, Thomas
-Démocratie sociale à la périphérie du monde : origines, enjeux, perspectives) 2007 Cambrigde University Sandbrook, Richard / Edelman, Mark / Heller, Patrick / Teichmann, Judith
-Fondements de la Démocratie sociale Edité par la Fondation Friedrich Ebert 2017 -Edition française : Département de la Coopération Internationale,
-المعارضة التونسية نشأتها وتطورها- توفيق المديني 2001
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.