"يمكنني الآن أن أموت وأنا مستريح البال والخاطر والضمير، فقد قلتُ كل ما عندي ولم أكتم شهادة"
بهذه الكلمات ختم الرئيس محمد نجيب شهادته في كتاب "كنت رئيساً لمصر"، والتي من خلالها نستطيع أن نرى عوامل التشابه الكبيرة بين الوضع السياسي حينذاك وما آلت إليه الأحوال في مصرنا العزيزة الآن، وأن نلاحظ بعض التغييرات السلبية التي وصلنا إليها.
لذا في السطور التالية نعرض بعضاً من كلمات أول رئيس مصري، ونعرض ما تغيّر بعد عشرات السنين وخمسة رؤساء، ولكن رجاءً لا تخبروا محمد نجيب.
يروي الراحل محمد نجيب في كتابه: "بعد حادث مصرع السردار سيرلي ستاك في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1924 صدر بيان من "اللنبي" طالب فيه بعدة قرارات سياسية، منها اعتذار مصر عن مصرع ستاك، ومنع المظاهرات السياسية، وإلزام مصر بغرامة مالية تصل إلى 500 ألف جنيه مصري (2430000 دولار أمريكي).
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن هذه الـ500 ألف جنيه مصري أصبحت لا تساوي 30 ألف دولار أمريكي، بفضل القرارات الاقتصادية الرشيدة على مدار سنوات، وآخرها تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار.
"أردنا أن نبني حياة جديدة، نعطي فيها الفرصة لكل سجين سياسي لكي يعيشها معنا، دون اضطهاد أو قهر سياسي. كان هذا أحد أحلامي، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد اعتقلت الثورة ألفاً مقابل كل فرد أفرجت عنه".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن سجون مصر الآن عامرة بكل صاحب رأي، وبمن لا يملكون آراء أحياناً، وأن كل بيت في بر مصر يفتقد أحد أبنائه خلف أسوار المعتقلات العالية، وأن أعداد المعتقلين تتعدى الـ60 ألف مصري، بينما مئات الآلاف تنتظر دورها في القمع في ظل غياب كل مقومات الحرية.
"في 30 يوليو (تموز) أُلغيت الألقاب الرسمية من بك إلى باشا ومن صاحب السعادة إلى صاحب السمو، كانت في الأصل ألقاباً تركية، تُمنح ولا تُورث، وكانت منحة من الملك، وغالباً ما كانت تمنح لمن لا يستحقها، وأعترف أننا نجحنا في إلغاء لقب باشا من حياتنا ولم تعد هذه الكلمة تستخدم في الشارع المصري سوى للسخرية".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن هذه الألقاب عادت بكل صورها، وليس فقط لأصحاب الأموال الطائلة والشركات الكبيرة، فكل من ينتسب للشرطة يحصل على زيهم الرسمي وسلاح شخصي ولقب الباشا مرفق بشهادة التخرج.
"وتولّد في داخلي إحساس بأننا فتحنا باباً أمام باقي الضباط ليخرجوا منه إلى المناصب المدنية، ذات النفوذ القوي والدخل الكبير، وحاولت قدر استطاعتي إغلاق هذا الباب، وابتعاد الجيش عن الحياة المدنية، وعودته إلى الثكنات، فقد اخترق العسكريون كلَّ المجالات وصبغوها باللون الكاكي".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أنَّ الجيش لم يعُد لثكناته من حينها، وبعد مرور قرابة 60 عاماً، بل جاؤوا بثكناتهم لتعيش معنا في وسط العاصمة، وأن الجيش استحوذ على كل مقدرات البلاد من صناعات وزراعات وغيره، وقبل كل هذا المناصب السياسية المهمة، وإدارات المصالح الحكومية، لا تخبروه أن الجيش يقاسمنا الطعام في منازلنا، وأننا لا نأكل قبل أن يأكل، ولا يترك سوى الفتات لنبقى على قيد الحياة في خدمته.
"في عام 1798، عندما غزا نابليون مصر كان تعداد السكان مليونين ونصف المليون نسمة، يعيشون على 3 ملايين فدان تزرع على ضفاف النيل، والآن في 1954 يقطن مصر 22 مليون نسمة، يعيشون على إنتاج محاصيل 6 ملايين فدان، باستثناء 3 ملايين يعيشون حياة معقولة، فإن باقي السكان كانوا يعيشون عند أدنى مستوى معيشة في العالم".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن عدد سكان مصر الآن 104 ملايين نسمة، يعيشون على المعونات وما يجود به الأشقاء في الخليج والجيش المصري علينا مقابل حفنة من المصالح السياسية، وباستثناء فئة صغيرة من أصحاب النفوذ والصلة من دوائر الجيش والقضاء والشرطة، يعيش المصريون حياة متدنية، وسط حصار الأسعار العالية والدخل المتدني الذي لا يكفل لهم حياة كريمة.
"وجدت على مكتبي أكواماً من التقارير المخيفة، التي تفرض علينا الخوف من الاضطرابات العمالية، وتطالب بالضرب على يد كل من يتصور إمكانية قلب العمال علينا، وأحسست أنها تقارير كاذبة، وأنها كُتبت بنفس الأسلوب الذي كان يكتب به البوليس السياسي".
رجاءً.. لا تُخبروا محمد نجيب أن هذه التقارير هي التي تتحكم الآن في أحوال البلاد ومصائر العباد، وأنها أودت بالبلاد إلى مستنقع القمع والديكتاتورية، وبالعباد إلى أعواد المشانق، ولا تخبروه أن البوليس السياسي أصبح يسمى بالأمن الوطني، لا تخبروه لأنه لن يُصدّق تلك التسمية.
"أخبرني اليوزباشي محمد أحمد رياض أنه شاهد البكباشي حسني الدمنهوري وهو يتعرض لتعذيب شرس وإهانة قاسية من صلاح سالم، حتى يدفعوه للاعتراف بمؤامرة لم يرتكبها ولم يفكر فيها".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن تلك الممارسات القمعية تُمارَس بشكل يومي ضد أبناء مصر في كل يوم وبكل وحشية، لا تخبروه بضحايا التعذيب في أقسام الشرطة ومكاتب الأمن الوطني كل حين، لا تخبروه عن كريم حمدي، وخالد سعيد، وسيد بلال، وجوليو ريجيني، وعفروتو، وإسلام عطيتو وغيرهم من الشهداء والضحايا.
"مارس أعضاء المجلس الضغط عليّ، وطالبوني بتنفيذ ما اتُّفق عليه من قبل، وهو أن تكون الأغلبية هي الفيصل في اتخاذ القرارات وتنفيذها. وفي 18 يونيو (حزيران) 1953 أصبحت أقدم دولة في العالم، أحدث جمهورية في العالم".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن أقدم دولة في العالم أصبحت أضحوكة العالم، ولم تعد دولة، بل شبه دولة كما يتندر رأس السلطة الآن.
"في 15 يناير (كانون الثاني) 1954 بعد عام من حلّ الأحزاب، صدر قرار حل الإخوان المسلمين بأغلبية الأصوات، وفي نفس اليوم اعتقل 450 عضواً منهم، وصدر بيان من المجلس يُبرر ذلك، يكيل الاتهامات للإخوان، ويتحدث عن اتصالات بينهم وبين الإنجليز".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن وضع جماعة الإخوان المسلمين الآن لا يختلف كثيراً عن ذلك، عشرات الآلاف منهم في المعتقلات، وعلى رأسهم أغلبية قيادات الجماعة، ومنهم المرشد العام وأعضاء مكتب الإرشاد والقيادات المتوسطة داخلها، بالإضافة للقرار الجاهز دائماً بحل الجماعة ومصادرة أموال أعضائها.
"وَقَع الإخوان في الفخ الذي نصبه لهم جمال عبدالناصر، فقد كان الإخوان هم القوة المرجّحة لفوز إحدى القوتين المتنازعتين في هذه المرحلة؛ قوتي وقوة عبدالناصر، وكان عبدالناصر يستميلهم إلى جانبه، فإذا ما كسب معركته معي استدار إليهم وتخلّص منهم".
رجاءً.. لا تُخبروا محمد نجيب أن الإخوان وقعوا مجدداً في الفخ الذي نُصب لهم بعد ثورة يناير/كانون الثاني، حينما تقرّبوا من المجلس العسكري الذي لعب دور جمال عبدالناصر واستمالهم بتركهم يحصلون على حكم البلاد من خلال الانتخابات، ثم انقضّ عليهم من خلال أحد أفراده.
"بعد إعفائي من الرئاسة، قال لي عبدالحكيم عامر إن إقامتي ستكون في فيلا زينب الوكيل ولم أتركها طيلة 29 عاماً، كنت أعيش في غرفة متواضعة بداخلها يوجد بها سرير قديم من الخشب ومنضدة وقططي وكلابي، عشت فيها وأنا أحمل لقب أول رئيس جمهورية لمصر".
رجاءً.. لا تخبروا محمد نجيب أن أول رئيس جمهورية منتخب لمصر قضى نحبه في المعتقل، بعد أن تم عزله عن أسرته وبلاده.
يكفي محمد نجيب ما قد خبره من آلام ومتاعب، تتشابه الأحداث والمواقف وأيضاً النهايات، لذا يجب علينا النظر في التاريخ؛ لا لمعرفة بعض المعلومات بل لاستخلاص الأفكار وتدبر سنن الله عز وجل في الكون، ولنفهم كيف يفكر هؤلاء الطغاة، وكيف يتحالفون ضد كل خير لهذه البلاد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.