إن فتح أبواب آيا صوفيا للعبادة مرة أخرى، فتح الباب أمام العديد من النقاشات والاعتراضات والمباركات كما كان متوقعاً، ليس في تركيا فحسب بل في جميع أنحاء العالم بآن واحد. وبالطبع، وكما كان متوقعاً، تسبب ذلك القرار في تخبط عواطف وآراء البعض.
ليس من المستغرب أن الغرب الثائر على إعلان آيا صوفيا مسجداً، وكأنها كانت كنيسة قبل يومين وتحولت إلى مسجد اليوم، أن يتهموا المسلمين بالتعصب واضطهاد المسيحيين. رغم أننا اعتدنا أن يكون المسلمون هم ضحية الحروب في الشرق الأوسط بأسلحة الغربيين وتدخلاتهم ومؤامراتهم، وفي الوقت ذاته يتم إلصاق صفات "الإرهاب" و"التعصب والكراهية" بالمسلمين كذلك. وبالتالي لا يمكن أن نتوقع من هذا الغرب الذي لا يتوقف عن مناقضة نفسه أن يصدر عنه موقف آخر مماثل حول آيا صوفيا.
المسجد الأقصى التركي
على صعيد آخر، هناك زاوية تم فتحها من خلال إعلان آيا صوفيا مسجداً. هي تلك التي جاءت على لسان الرئيس رجب طيب أردوغان، خلال خطابه الذي ألقاه عقب قراره افتتاح آيا صوفيا للعبادة، حيث قال: "إن إحياء آيا صوفيا، يعني أن لدينا ما نقوله للعالم بأكمله، للأمة التركية والمسلمين والإنسانية جمعاء".
ففي الثقافة الإسلامية في تركيا تضاهي قيمة آيا صوفيا المسجد الأقصى، الذي يُعدّ علامة على ضعف الأمة وسقوطها فريسة للاحتلال والعجز، وفي نفس الوقت يمثل بارقة أمل لإحياء الوحدة ودافعاً لتواصل المقاومة والنضال.
وقد كُتِبت العديد من القصائد والأغاني والمرثيات في هذا المسجد؛ لذلك فإن إعادة فتح آيا صوفيا لم تحظَ فقط بدعم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية؛ بل إن كل فئات المجتمع التركي رحبت بهذا القرار بحماس كبير، حتى أن حزب الشعب الجمهوري الذي حوَّل آيا صوفيا إلى متحف، لم يُبدِ أي اعتراض يذكر على هذا القرار، ورحبت به قواعده بروح إيجابية، ما يعني أن أغلبية ساحقة من الشعب التركي، ربما تتجاوز 80% تدعم هذا القرار.
لقد كان خطاب الرئيس أردوغان بمثابة بيان أو وثيقة عن حقوق الإنسان المسلم وحرياته ومظاهر إحيائه.
إن باب الجدل الذي فتح على مصراعيه على مستوى العالم عقب هذه الخطوة، والوثائق والمعطيات التاريخية التي بدأت للظهور على أعين واهتمام الجميع حول العالم، تشير بدورها إلى ما تعنيه تلك كلمات الرئيس التركي. فبينما كان العالم غارقاً في ضلاله الأيديولوجي حول قرار آيا صوفيا، بدأ يتعلم فجأة كيف حافظ المسلمون طيلة التاريخ على مختلف معابد الأديان حول العالم، من كنائس ومعابد بوذية وأخرى هندوسية، وكيف تعاملوا مع أصحاب هذه الديانات والمتعبدين. وفي المقابل، أتيح للعالم عبر آيا صوفيا أن يرى كيف تعامل الغرب على مر التاريخ مع أصحاب الأديان والمعابد الأخرى. وكلما زادت النقاشات حول آيا صوفيا، ستصبح قضية مقارنة الحضارات وتاريخ العقيدة أكثر طرحاً وتناولاً، كما سيبدأ التساؤل يدور حول ماهية هذا المعتقد، من خلال المعطيات بأكملها وما تحمله من أمثلة مثيرة.
حينما يتم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، يجب أن نتساءل: ما هو الوضع الذي كانت عليه سابقاً؟ ماذا فعل المسلمون إزاء الكنائس الأخرى؟
ماذا فعلوا إزاء المسيحيين الذين أرادوا مواصلة عباداتهم في هذه الكنائس؟
من شأن آيا صوفيا أن تخبر العالم بدقة عن تعامل الفتح الإسلامي، وتعطي للإنسانية أكثر الرسائل العالمية اللافتة للنظر إلى اليوم. إن قضية آيا صوفيا هي قضية إحياء للقيم التي ستعود بالفائدة على المسلمين وكل البشرية، وتضيء الطريق لاحترام للسلام العالمي والتعددية والتعدد الثقافي، والعرق، والدين، واللغة، واللون، واحترام التنوع البشري دون أي تفرقة، بل وإمكانية ربط ذلك بركائز الحقوق.
إن تركيا والرئيس أردوغان والقضاء من خلال هذا القرار، لم يحولوا كنيسة إلى مسجد؛ بل أعادوا فتح مبنى ظل يُستخدم كمسجد على مدى 567 عاماً، قبل أن يتحوّل إلى متحف لفترة قصيرة، ومن خلال هذه الخطوة فإن الرئيس التركي أنهى حالة الجمود التي غرق فيها العالم الإسلامي، وكسر الأغلال التي كانت تكبِّله، وأعلن الاستقلال عن الغرب.
لذا فعوضاً عن انتقاد تركيا، يجب على الدول العربية أن تستفيد من هذا الدرس، ونحن ندعوكم أنتم أيضاً إلى كسر الأغلال، إذا جربتم مع شعوبكم الحرية والاستقلال والسلام فإن الأوضاع ستكون أفضل بكثير.
من ناحية أخرى، عندما تم تحويل آيا صوفيا إلى مسجد عقب فتح إسطنبول، فإنها لم تكن كنيسة نشطة في ذلك الوقت. بل إن الفاتح حينما رآها غير قائمة على عودها خالية من الجماعة، أمر بترميمها وافتتاحها مسجداً وكأنه بناها من جديد. لقد كانت آيا صوفيا على وشك الهلاك نتيجة عدم رعايتها عقب الغارات الكاثوليكية. وبالتالي على الجميع أن يعلم أن السلطان الفاتح أقام آيا صوفيا وأحياها من جديد، وجعلها مسجداً إثر ذلك. وإلا فإن الجميع يعرف أن تحويل كنيسة تنشط فيها الجماعة للعبادة إلى مسجد ليس من تعاليم الإسلام.
إذن هذا هو الخطاب الجديد الذي تريد تركيا وكذلك المسلمون إيصاله للعالم.
أين مساجد أثينا؟
إن اليونان التي تحاول لعب أدوار المظلوم المشتكي من تركيا، كانت قبل مئة عام فقط من الآن تحوي العديد من المساجد. وإن قرار آيا صوفيا دفع الجميع للتساؤل؛ ما مصير تلك المساجد؟ وما هو حالها اليوم؟ دعوني أخبركم: لقد تم تدميرها أو حرقها أو تحويلها لكنائس، أو توقفت العبادة فيها بسبب التهجير والجرائم. ونحمد الله أنه لا يمكن العثور على هذا النوع من الممارسات في تاريخ أي من المجتمعات الإسلامية. وإن عدم وجود ولو مسجد واحد في أثينا في حاضرنا المعاصر يكشف بالتالي عن كنه قرار آيا صوفيا.
وحينما نقول إنها تكشف عن كنه القرار، نرجو ألا يسيء أحد فهم ذلك ويعتبره نوعاً من الانتقام والتشفي، بل على العكس إن كنه قرار آيا صوفيا بالنسبة لتركيا والمسلمين؛ لديه من الرسائل الإيجابية والودية الكثير ليقوله للعالم. لقد أعاد قرار آيا صوفيا للأذهان التسامح والعدالة لدى المسلمين؛ اللذين تجلّيا خلال فتح القدس على يد سيدنا عمر أولاً، ومن ثم على يد صلاح الدين الأيوبي.
لكن الحال لم يكن كذلك في القدس ذاتها سواء قبل مجيء المسلمين، أو إبان الحروب الصليبية، ما يفتح الباب أمام مقارنة لا مفر منها. وإن الناس الذين سئموا من عنصرية وانعدام الرحمة في عالمنا اليوم، ولا يزالون يبحثون عن الرحمة والشفقة؛ سيقرؤون تلك المقارنات بعيون مشرقة وقلوب متشوقة.
إن لدى تركيا والمسلمين الكثير مما تقوله للعالم بأكمله، من خلال قرار آيا صوفيا. هناك عدالة ورحمة يمكن أن ينقل المسلمون العالم الذي يعاني من انعدام الضمير والعدالة إليها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.