بالتزامن مع حركة موجات الربيع العربي، برزت تيارات الإسلام السياسي على سطح الفضاء العام العربي، وبدأت بالتعبير عن نفسها بعد أن قُدّر لها أن تبقى في مساحات الظلَ فترة، جراء العداء المتبادل بينها وبين أغلب الأنظمة الحاكمة بالمنطقة، والذي وصل في بعض الأقطار حد تجريم العمل الجماعي تحت أي شعار، ما أدى إلى حرمان قطاع واسع من الإسلاميين من الحركة بشكل واضح ومعلن، جماعات وفرادى.
وبغض النظر عن جدوى ما قدّمته الجماعات الإسلامية بعد الربيع العربي وما زالت تحمله من مضامين، فإنها في أغلبها كانت تنتهج سلوكاً مناوئاً للأنظمة وداعماً للحراك الثوري، وبصرف النظر أيضاً ما إذا كانت هذه الجماعات تجيب في حركتها عن أسئلة الواقع والمجتمع أم لا؟ وهل ساهمت في دعم المسار الثوري أم أنها أنهكته وعطّلت مساره في بعض المحطات، فاللافت هنا هو وجود فصائل إسلامية وقفت ضد "الربيع العربي" منذ انطلاقته بصورة واضحة عبر فتاوى مشايخها الذين لم يتغيبوا عن شاشات الأنظمة الحاكمة إبان الثورات رغم أنهم حرموا من ذلك عقوداً من الزمن، لتصل جهودهم في التأصيل الشرعي إلى حد نحت مفاهيم من قبيل "لزوم البيت أثناء الفتن" بدايةً، وصولاً إلى انخراط أتباعهم بعد ذلك في أعمال عسكرية وحملهم السلاح نصرة لـ "الحاكم المتغلب" فيما بعد.
وربّما كان التيار السلفي المدخلي في ليبيا أو ما يعرف بـ"المداخلة" نموذجاً يُلتفت إليه في هذا الإطار، على اعتبار أنه تيار يمكن أن يقال عنه إنه أجرى تغييراً في أفكاره الحاكمة "paradigm shift"، أو على أقل تقدير فإنه قد قام بعملية "إعادة إنتاج الخطاب" إذا جاز لنا هنا أن نستعير مفهوم المفكر الفرنسي "ميشيل فوكو"، فقد تبدّلت المفردات الأساسية للسلفية المدخلية من كونه تياراً يقوم على الأساليب الدعوية من "محاربة البدع وإقامة التوحيد" إلى حشد أتباعه ومناصريه على شعارات جديدة من قبيل "محاربة الإرهاب، وقتال الخوارج" وهي مضامين تحمل صبغة جهادية.
المداخلة.. نشأتهم وأفكارهم المركزية
مع بداية حرب الخليج مطلع تسعينيات القرن الماضي، برز التيار الجامي الذي ينسب إلى مؤسسه محمد إمام الجامي الإثيوبي الأصل، مبرراً لفكرة الاستعانة بالقوات الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية لمواجهة القوات العراقية، في مقابل تيار الصحوة الإسلامية الرافض لاستقدام القوات الأمريكية إلى الأراضي المقدسة، وهو ما جعل التيار الجامي ينال رضا دوائر صناعة القرار في السعودية.
وكان من أبرز من تصدروا حملة تبرير الاستعانة بالقوات الأجنبية شرعياً الشيخ "ربيع بن هادي بن عمير المدخلي" وألّف كتاباً سماه "صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين"، وهاجم من خلاله الفتاوى التي ترفض "الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم"، ومنذ ذلك الحين سطع نجم المدخلي شيخاً موالياً للسلطة السعودية بصورة مطلقة.
منذ ذلك الحين تخصص التيار الجامي في نقد أدبيات رموز الصحوة وتقييم تعاطيهم مع الواقع، وازدهر نشاطهم في كتابة التقارير ضد من يعارض النظام، وإيصالها للدوائر الحكومية، مأجورين على جهودهم الحثيثة بدعم من المملكة، وتسهيل انتشار، وتقريبهم للقصور. من جهة أخرى استغل النظام ولاء بعض الأطراف الصوفية والشيعية من المهمشين داخل المملكة.
ويرى الأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس ستيفان لاكروا في كتابه "زمن الصحوة" أن التيار المدخلي قام على أمرين: أولهما التأييد المطلق للسلطة انطلاقاً من ظواهر النصوص التي تؤكد على طاعة الحاكم. دون منح أدنى فرصة لمخالفته لأن نقد السطان قد يكون مدخلاً للفتنة، أما الأمر الثاني الذي قام عليه التيار المدخلي فهو الطعن في المخالفين وتبديعهم ونقد تيار الصحوة بشكل حاد دون السماح بأي درجة من درجات الاختلاف.
منذ ذلك الحين تخصص التيار الجامي والذي سمِّي فيما بعد التيار المدخلي في نقد أدبيات رموز الصحوة وتقييم تعاطيهم مع الواقع، ليس من منطلق "النصيحة والأمر بالمعروف" فحسب، بل من باب دعم السلطات السعودية بتقارير تسهم في دعم الأجهزة الأمنية، ومن أشهر ما قاموا به منتصف التسعينيات التقرير الذي كتب تحت عنوان: "التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية" وقدّموا خلاله توصياتهم للسلطات السعودية بالتحرك العاجل ضد تنظيم الإخوان المسلمين، قائلين إن ممارسات الإخوان ترتبط بخطة عالمية لتغيير نظام الحكم في المملكة، وهو الأمر الذي لاقى قبولاً لدى السلطات السعودية التي شنت حينها حملة اعتقالات واسعة على الدعاة والعلماء المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية في المملكة.
بعد حرب الخليج الثانية تبنت السلطات السعودية السلفية المدخلية، واستدخلتها في أجهزتها الأيديولوجية، وتنامت أدوارها وزاد نفوذها بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، إذ باتت السلفية المدخلية أحد أهم أركان الجهاز الأيديولوجي للدولة، وذلك بحسب الباحث المختص في شؤون الحركات الإسلامية حسن هنية.
ويرى هنية أن السعودية عملت على دعم السلفية المدخلية عربياً وإسلامياً، لمواجهة أطروحات التيارات الإسلامية السياسية، وأن مقاربة الرعاية مقابل الولاء مكّنت السلفية المدخلية من التموضع داخل المؤسسات التعليمية والإعلامية والمساجد والمؤسسات المعنية بالشؤون الدينية.
كيف ظهروا بليبيا وما أدوارهم؟
على مدى أكثر من 40 عاماً، ظلّت التنظيمات والتكتلات أمراً مجرّماً، لأن "من تحزّب خان"، بحسب منطق الكتاب الأخضر الذي ظلّ مرجعية فوق دستورية ثورية طوال فترة حكم القذافي، وقد ذاق التيار المدخلي في أول الأمر ما نالته بقية التيارات الإسلامية والمنتمون للتنظيمات السياسية، على هذا الأساس.
ورغم أنهم كانوا يقبعون في سجون نظام القذافي، فإنه وبحسب شهادات بعض السجناء الذين كانوا يقبعون معهم، فإن أتباع التيار المدخلي ظلوا يقومون بتقديم توصياتهم لسجّانيهم من رجالات أمن النظام عن خطورة باقي التيارات والحركات الإسلامية، حتى أن بعضهم تعاونوا مع النظام فيما بعد لتقديم تقارير أمنية دورية للأجهزة الأمنية، ويبررون ذلك بأنها خدمة لولي الأمر وطاعة له فيما "يخدم صالح البلاد والعباد".
بعد أحداث سبتمبر 2001 ومع محاولاته بدء عمليات إصلاحية بضغوط أمريكية، استهلها نظام القذافي بإطلاق سراح دفعات من السجناء السياسيين على اختلاف مشاربهم، وأثناء ذلك حاول النظام الليبي منح مساحات أوسع للمداخلة في الفضاء العام الديني، إذ يشير تقرير مسرب من المخابرات الليبية إلى أن نظام القذافي أدرك في منتصف العقد الماضي أن المداخلة مختلفون عن باقي التيارات الأخرى وأنهم سيكون بمثابة الإسفنج الذي يمتص العواطف الدينية للشباب الراغب في التدين إذا ما كانت هنالك دعوة مناهضة للنظام، وهو ما جعل النظام يسمح لهم بالعمل والحركة طالما أنهم لا يرغبون في ممارسة السياسة.
حملة استيعاب التيار المدخلي لصالح الدولة قادها نجل العقيد الليبي الساعدي القذافي، وبحسب التقرير المخابراتي فإن اتجاه الساعدي للتيار السلفي كان بتوجيه من الأب والمنظومة الأمنية في إطار توزيع القذافي لأدوار اللعبة بين أبنائه، فيما تبنى سيف الإسلام نجله الأكبر تفاهمات مع الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة، مقابل تخفيف حدة المعارضة وإطلاق سراح سجناء الجماعتين والمضي في الإصلاحات.
مع بدء ثورة 17 فبراير/شباط عام 2011 توسّعت مساحات تعبير التيار المدخلي عبر المنابر الرسمية للدولة، وباتوا التيار الديني الأكثر حضوراً في شاشات نظام القذافي رافضين للتحركات الشعبية، داعين الناس للعودة إلى منازلهم، انطلاقاً من خطاب أساس حرمة "الخروج على ولي الأمر" و"الثورة فتنة"، فيما عاد الساعدي آنذاك بعد غيابه إلى الظهور بمظهر السلفي في أكثر من مرة قائلاً إن الدولة منحت "ضوءاً أخضر" للتيار السلفي المدخلي، مطالباً بضرورة تمكينهم من هيئة الأوقاف والمساجد، لأنهم أحق من غيرهم وأثبتوا وقوفهم مع الدولة، بحسب تعبيره، ويأتي ذلك بعد أن وجّه المدخلي أنصاره في ليبيا بأن يلزموا بيوتهم ويتجنبوا الدخول في الثورة.
يُتبع
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.