عندما اندلعت الثورة السودانية ضد نظام الرئيس المخلوع عمر البشير تصدَّرت النساء، وخاصة فئة الشباب منهن، طليعةَ المتظاهرين، رغم القمع والعنف المفرط الذي قابلت به أجهزة الأمن الثوار والثائرات.
المشاركة اللافتة للنّساء في التظاهرات والمواكب التي استمرت من ديسمبر/كانون الأول عام 2018، وحتى سقوط النظام في 11 أبريل/نيسان عام 2019، حظيت باهتمام الداخل والخارج. داخلياً انقسم المجتمع بين مؤيدٍ ورافضٍ لمشاركة الفتيات والنساء في المواكب، ولكنّ الأغلبية العظمى وقفت في صفّ مشاركتهنّ، ذلك لأن الغالبية العظمى من الشعب السوداني كانت مع الثورة ضد البشير. بينما حاولت كتائب إلكترونية محسوبة على النظام تشويه صورة المتظاهرات، في تكرارٍ لسيناريو سابق، حيث خرجت حينها إحدى الصحف المحسوبة على نظام البشير بمانشيت رئيسي يقول: "مظاهرات للشواذ والعاهرات في الخرطوم"!
لماذا شاركت النساء بقوة في الثورة ضد البشير؟
أغلب الظن أن الدافع الأكبر لمشاركة المرأة السودانية بقوة في الثورة ضد البشير هو القمع الذي تعرَّضن له، وخاصة الشابات، بموجب أحكام قانون النظام العام (جرى إقراره في عام 1992)، إذ تم القبض على آلاف الفتيات واحتجازهن وضربهن وسجنهن بسبب ارتدائهن ما ترى السلطات أنها ملابس غير لائقة، مثل البناطيل أو التنانير القصيرة، أو خروجهن مع رجال قد يكونون من أقاربهنَّ أحياناً. واستُخدم هذا القانون كذلك ضد نساء الطبقة الفقيرة، اللاتي يعملن بائعاتٍ للشاي والطعام، مع أن الغالبية منهنَّ لجأن إلى هذا العمل بسبب ظروف اقتصادية ضاغطة، كعدم وجود عائل، أو لوفاة الزوج في الحروب والنزاعات المختلفة.
وبطبيعة الحال لا نُغفل كذلك المصاعب الاقتصادية في السنوات الأخيرة من حُكم البشير، فالنساء يتحملن معظم العبء في الحفاظ على الموارد المالية الشحيحة لعائلاتهن. ولذلك يشعرن يومياً، أكثر من الرجال، بمدى صعوبة الحياة في ظل تلك الظروف.
تركة مثقلة من القوانين المجحفة بحق المرأة
الحكومة الانتقالية التي تشكَّلت بعد سقوط نظام البشير وجدت أمامها هذه التركة المثقلة من القوانين التي كثيراً ما صُنّفت بأنها قوانين تنتهك كرامة المرأة السودانية وتحطُّ من قدرها، وأنها قوانين غير موجودة في الدول المحيطة بالسودان، كقانون النظام العام الذي تمت الإشارة إليه بالأعلى، والذي قامت السلطة الانتقالية بإلغائه أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، استجابة لمشروع قرار تقدّم به وزير العدل نصر الدين عبدالباري. كما قدّم الوزير مشروعاً آخر لإجراء تعديلات على قانون الأحوال الشخصية، جزء كبير منها يتعلق بالمرأة السودانية، سنأتي لتفصيلها في الأسطر التالية.
إذا تحدثنا في البداية عن خطوة إلغاء "قانون النظام العام والآداب العامة"، نجد أن المنظمات والكيانات النسوية وصفتها بأنه أول انتصار للمرأة السودانية، فالقانون سيّئ السمعة كان أشبه ما يكون بسيفٍ مسلطٍ على السودانيات، وقد تم وضعه خلال الفترة الأولى من سنوات حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، إذ تنص المادة 152 من القانون على أن "كل من يأتي في مكان عام فعلاً أو سلوكاً فاضحاً أو مخلاً بالآداب العامة، أو بارتداء زيّ فاضح أو مخل بالآداب العامة، يسبب مضايقة للشعور العام، يُعاقَب بالجلد بما لا يجاوز 40 جلدةً، أو بالغرامة، أو بالعقوبتين معاً".
قضية لُبنى الحسين أحرجت النظام السابق
المشكلة الكبرى أن القانون منح أفراد شرطة النظام العام سلطات تقديرية واسعة لتوقيف أي امرأة ترى الشرطة أنها ترتدي زياً خادشاً للحياء. فعلى سبيل المثال وقعت قصة مشهورة تناقلتها وسائل إعلام عالمية للصحفية لبنى أحمد الحسين، التي كانت تجلس في أحد المطاعم في أمسية من أمسيات صيف عام 2009، عندما داهمت الشرطة المكان واقتادتها هي و12 سيدة أخرى يرتدين البنطال إلى قسم الشرطة.
وفقاً لرواية لبنى فإنّ 10 سيدات قد استُدعين إلى قسم الشرطة في اليوم التالي، حيث جُلدت كل منهنّ 10 جلدات، ومن بينهنّ سيدات ينتمين إلى جنوب السودان، الذي لا تُطبّق فيه الشريعة الإسلامية.
قضية لبنى الحسين التي شغلت الرأي العام آنذاك سبّبت إحراجاً كبيراً لنظام البشير، حيث لم يخفِ كثير من الدبلوماسيين المحسوبين على نظام البشير شعورَهم بالحرج والعجز عن الدفاع عن النظام في هذه القضية. فلا يوجد في الشريعة الإسلامية التي يقول البشير إنه يطبقها أي نص يقضي بجلد النساء على ارتدائهن البنطال.
وبإلغاء قانون النظام العام، أواخر العام الماضي، طوى السودان صفحةَ ملاحقة النساء بسبب ارتداء البنطال أو عدم وضع الحجاب على رؤوسهنَّ. وقد رحَّبت العديد من الكيانات النسوية الفاعلة مثل مبادرة "لا لقهر النساء"، و "لا لقمع المرأة" بالخطوة، لكن "الكيانات النسوية" أشارت إلى وجود عدد من القوانين والمواد التي لا تزال تُقيد المرأة السودانية وتنتهك كرامتها، بحسب وصف هذه المجموعات.
جاءت الخطوة الثانية من قوانين إنصاف المرأة في تعديلات دفع بها وزير العدل نصر الدين عبدالباري إلى مجلسي السيادة والوزراء، والذي يقوم بغرفتيه بمهام المجلس التشريعي، وقد شملت التعديلات الجديدة مواد عدة، كان للنساء نصيب وافر منها، إذ أنصف التعديل الجديد على قانون الأحوال الشخصية النساء المنفصلات عن أزواجهنَّ، فقد كان القانون السابق يمنع المرأة من اصطحاب أطفالها عند السفر إلى الخارج من دون حصولهن على إذن سفر موقّع من الزوج.
مأساة عبير تدفع إلى تسريع التعديلات
كانت هناك مطالبات مستمرة من الناشطات الحقوقيات بضرورة إلغاء هذا الإجراء، وارتفعت حدّتها بشدة بعد وفاة الشابة عبير أبوشيبة، التي خاضت معركة شرسة بسبب هذا القانون مع طليقها، الفنان المعروف طه سليمان، ومع أنَّ أسرتها لم تتهم سليمان رسمياً بالتسبب في وفاتها فإنَّ صديقات عبير والناشطات في المجموعات النسائية جزمن بأن رحيلها كان بسبب الحسرة والكمد، بعد معاناتها وخوضها قضايا بالمحاكم لسنوات طويلة، من أجل إلزام زوجها السابق باستخراج إذن سفر، لتنتقل مع أولادها إلى إحدى الدول الخليجية؛ حيث تقيم أسرتها، وهو ما ظلَّ يرفضه حتى توفيت إلى رحمة مولاها.
قصة عبير تسبّبت في سخطٍ كبيرٍ على القوانين التي وضعها النظام السابق، وزادت من حدة الضغوط التي مارستها الكيانات النسوية على وزارتي العدل والتنمية الاجتماعية، فبمناسبة إطلاق الحملة العالمية السنوية للقضاء على العنف ضدّ المرأة والفتاة، التي بدأت يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، واستمرت حتى 10 ديسمبر/كانون الأوّل، تعهّدت وزيرة العمل والتنمية الاجتماعية السودانية، لينا الشيخ، بمكافحة كل أشكال العنف ضد المرأة، وبمراجعة القوانين والتشريعات الحالية المقيّدة لحرية المرأة أو إلغائها.
تهاني عباس، الناشطة الحقوقية وعضو مبادرة "لا لقهر النساء" قالت إن التعديلات الأخيرة جاءت "بعد رحلة طويلة من العذاب والمعاناة والتضحيات، بدأت منذ عام 1991، عندما صدر القانون الجنائي".
وتضيف في مقابلة مع إندبندنت عربية: "تطبيق القرار سيُلزم جهاز السجل المدني وسلطات المطارات والعبور البري بعدم معاكسة النساء أو توقيفهن وأبنائهن"، مشيرةً إلى أنه "ما زلنا نطمح إلى تعديل بقية القوانين، بما فيها زواج القاصرات، لكن كل هذا يُعتبر انتصاراً للحركة النسوية السودانية والمدافعات عن حقوق المرأة".
هناك بالطبع قصص أخرى تروي مآسي عديدة، مثل ما حدث مع الطفلة لجين (3 سنوات)، التي تُوفيت بعد معاناة بدأت منذ ولادتها، بسبب عدم تمكّن والدتها من اصطحابها لتلقّي العلاج خارج السودان، على خلفية رفض طليقها استخراج إذن سفر.
ورغم كل الإيجابيات التي جاءت في تعديل قانون الأحوال الشخصية، فإن هناك مخاوف من استغلاله بصورة سيئة، يلفت إلى ذلك المحامي والمستشار مصعب عوض الكريم، فيقول إن الأمر يجب أن يخضع إلى ضوابط قانونية بما لا يخالف الشرع. مشيراً إلى أن القانون يعطي الآباء الحقَّ في زيارة الأبناء واصطحابهم.
ويستدرك في مقال له، إن أي انتصار للمرأة السودانية هو انتصار كذلك للمجتمع السوداني ككل، لكن عوض الكريم يُبدي اعتراضه على تصوير القضية كأنها صراع بين الرجل والمرأة. مضيفاً "إذا كان للمرأة حق الحضانة فإن للرجل الحق في الزيارة".
مهما كان الجدل الذي أثارته التعديلات القانونية المتنوعة في سودان ما بعد البشير، من إلغاء قانون النظام العام، وتعديلات قانون الأحوال الشخصية، فإن جزءاً لا يُستهان به من هذه التعديلات قوبل بارتياحٍ كبيرٍ لدى الكنداكات (تعبير قديم استُخدم بكثرة لتمجيد النساء المشاركات في الثورة)، كما أشادت بالتعديل أوساط حقوقية محلية وعالمية، اعتبرت ما جرى إصلاحات غير مسبوقة، تتعلق بالمنظومة الحقوقية والعدلية، فيما برزت أصوات أخرى معترضة ترى أن التعديلات تشكل خطورة على هوية البلد وثقافته، والاعتراض أمر مفهوم في بلدٍ مثل السودان، لا تزال تهيمن عليه الثقافة الذكورية إلى حد كبير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.