اتهامات بالفساد واستقالة رئيس الحكومة ثم إقالة وزراء حركة النهضة.. ماذا يحدث في تونس؟

عدد القراءات
6,355
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/16 الساعة 13:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/16 الساعة 13:26 بتوقيت غرينتش

تعيش تونس هذه الأيام على وقع أزمة سياسية خانقة عنوانها صراع "تكسير العظام " بين الرئاسات الثلاث، كانت نتائجها الأولية استقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ -الذي تلاحقه شبهات فساد وتضارب مصالح ثقيلة- بإيعاز من  رئاسة الجمهورية استباقاً للائحة لوم برلمانية حملت إمضاء 105 نواب في البرلمان (من جملة 217)، حيث إن الاستقالة التي قالت مصالح الرئاسة إنها أُودعت في مكتب ضبط القصر الرئاسي قبل ساعات من إيداع لائحة اللوم البرلمانية في مكتب ضبط المجلس أمس الأربعاء، تعني عودة المبادرة للرئيس لتعيين الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة، وفق ما يقتضيه الدستور التونسي، ولفهم هذا الوضع المعقد علينا العودة للتسلسل الكرونولوجي للأحداث.

الأزمة انطلقت تحديداً منذ شهر عبر إثارة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لملف تضارب مصالح يخصّ رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ وانتفاع شركته (تعمل في مجال البيئة) بصفقة بقيمة 44 ملياراً من المليمات التونسية (20 مليون دولار أمريكي) مع الدولة خلال فترة الحجر الصحي في ذروة انتشار فيروس كورونا في البلاد، وهو ما يمنعه القانون التونسي تحت عنوان تضارب المصالح (خلط بين منصب رئاسة الحكومة ووكالة شركة حريفها الوحيد الدولة التونسية).

شبهة تضارب المصالح التي تلاحق رئيس الحكومة التي أكدتها هيئة مقاومة الفساد (هيئة دستورية) بالوثائق والمؤيدات دفعت حركة النهضة إلى اتخاذ موقف المضيّ نحو سحب الثقة من الحكومة التي يعتبرها أغلب المراقبين حكومة الضرورة؛ نظراً للسياق الذي رافق تشكيلها وخوف الكتل البرلمانية من سيناريو حل البرلمان والذهاب في مغامرة انتخابات تشريعية سابقة لأوانها لا يمكن التنبؤ بنتائجها مع صعود الموجة الشعبوية في البلاد.

من نافلة القول إن الحركة النهضة التي أعربت في أكثر من مناسبة عن قلقها من الصراعات التي تشق الائتلاف الحكومي غير المتجانس (يضم التيارات القومية والاجتماعية والإسلامية والدستورية) وجدت ضالتها في ملف شبهة تضارب المصالح المذكورة لتدعيم موقفها أخلاقياً وسياسياً وشعبياً، حيث أعلن مجلس شورى الحركة في آخر دورة له عن الذهاب في مسار تغيير المشهد الحكومي بالتشاور مع كل الأطراف الفاعلة سياسياً واجتماعياً، وهو ما تتوج بعريضة سحب ثقة من الحكومة أودعت مكتب ضبط مجلس نواب الشعب يوم الأربعاء 15 يوليو ليعلن رئيس الحكومة استقالته من منصبه في لقاء بقصر قرطاج جمعه برئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي وأمين عام الاتحاد التونسي للشغل نور الدين الطبوبي.

بعيداً عن التأويلات الدستورية وشبهة تحايل مستشاري القصر بالتأكيد على أن الاستقالة سبقت زمنياً لائحة اللوم حتى تعود المبادرة لرئيس الجمهورية، فإن غاية حركة النهضة الأساسية هي الإطاحة بالحكومة (التي توخّى رئيسها سياسة التصادم مع راشد الغنوشي، بمنطق المغالبة)، والذهاب نحو حكومة وحدة وطنية (تجمع كل الأطراف السياسية إلا من أقصى نفسه)، تقودها شخصية اقتصادية غير مسيّسة نظراً لحجم التحديات التي تعيشها البلاد اجتماعياً واقتصادياً باحمرار كل المؤشرات وشبح الإفلاس الذي يخيم على البلاد.

هذه الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها البلاد لا يمكن فهمها وتحليلها دون وضعها في سياقها العام الذي يعرف محاولات فرنسية للتحكم في خيوط اللعبة عبر محاولات الاختراق واحتواء قصر قرطاج، ومحاولات إماراتية لترذيل البرلمان وضرب رئيسه راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة.

فرنسا واحتواء قصر قرطاج

الرئيس الغامض.. هكذا وصف الإعلام الفرنسي الرئيس التونسي قيس سعيد، الظاهرة السياسية التي اكتسحت الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية التونسية، يوم 13 أكتوبر/تشرين 2019، بـ73% من إجمالي أصوات الناخبين.

نتيجة أثارت حفيظة باريس حينها باعتلاء مترشح مغامر في تونس لسدة الحكم، دون تزكية فرنسية، بل إنه قد راوغ رادارات سفارتها ومراكز دراساتها ومعاهد استطلاعات الرأي، مع شبهات "المحافظة الدينية" التي تلاحقه، التي تمثل حساسية مفرطة لفرنسا.

اعتبرت مجلة لوبوان الفرنسية، في مقال لها منذ شهر (قبل أيام من زيارة سعيد لفرنسا)، بقلم مراسلها في تونس بنوا دالما، أن الإليزيه وجّه الدعوة للرئيس التونسي مباشرة بعد عرض لائحة برلمانية، منتصف شهر يونيو/حزيران، على المجلس النيابي، لمطالبة فرنسا بالاعتذار على حقبة الاستعمار، الأمر الذي تزامن مع خسارة المشير المتقاعد خليفة حفتر، المدعوم من باريس والمقرب من وزير الخارجية جون إيف لودريان، الذي يراهن على ميليشيات الشرق لبسط السيطرة على ليبيا، التي تُمثل سوقاً مستقبلياً للشركات الفرنسية في مرحلة إعادة الإعمار، علاوةً على مراهنة فرنسا على العمق الليبي جنوباً، الذي يُمثِّل بوابة إفريقيا جنوب الصحراء ومنطقة الساحل.

لوبوان اعتبرت أن زيارة الرئيس التونسي لباريس مهمة جداً لإزالة الغموض الذي يكتنف شخصيته وتوجهاته منذ فوزه في الانتخابات، علاوةً على اكتشاف توجهاته الدبلوماسية، وموقفه من فرنسا، ثم محاولة احتوائه باعتبار أن تونس تبقى الأمل الوحيد لباريس في شمال إفريقيا، مع انحسار دورها في ليبيا، وموقف الجزائر المتصلب تجاه الإدارة الفرنسية بقيادة ماكرون، خاصة بعد فوز عبدالمجيد تبون، المعروف بنزعته السيادوية.

كما أسلفنا بالقول فإن زيارة سعيّد لباريس الشهر الماضي كانت منعرجاً في العلاقات بين الإليزيه وقصر قرطاج، وتم وصف الزيارة من الطرفين بالناجحة والبنّاءة، وذلك بهندسة من السيدة نادية عكاشة رئيسة الديوان الرئاسي، وهي الصديقة الشخصية للسفير الفرنسي في تونس أوليفيي بوافر دارفور، التي تسعى بعد استقالة رئيس الحكومة الياس الفخفاخ إلى فرض اسم قريب من الإدارة الفرنسية، وهو ما يمكن أن تنفيه أو تؤكده الأيام القليلة القادمة، حيث دخلت تونس في الزمن الدستوري المحدد بـ10 أيام لاختيار رئيس الجمهورية للشخصية الأقدر على تشكيل الحكومة وفق ما يقتضيه الدستور.

الإمارات ومحاولات ترذيل البرلمان

في الطرف المقابل وفي أحد مراكز السلطة الثلاث في تونس وهو المجلس النيابي (مجلس نواب الشعب) تعتصم في هذه اللحظات رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر عبير موسى (حزب يميني متطرف محسوب على الحرس القديم) في المكان المخصص لرئاسة البرلمان لتعطيل أشغال المجلس وجلساته مطالبة بعزل الرئيس راشد الغنوشي بتغطية إعلامية مكثفة من الإعلام الإماراتي، فدعم أبوظبي لرئيسة الدستوري الحر وحزبها لم يعد سراً بغاية ترذيل البرلمان التونسي وضرب الانتقال الديمقراطي في مهد الربيع العربي، وفي هذا السياق نشر موقع ميدل إيست آي البريطاني تقريراً مطولاً تحدث في جزء منه الباحث في جامعة بروكسال سيباستيان بوسوا عن محاولات الإمارات الحثيثة منذ فجر الثورة لعرقلة المسار الديمقراطي التونسي بمراهنتها على الراحل الباجي قايد السبسي، زعيم حركة نداء تونس الليبرالية سنة 2013، لكنها شعرت بخيبة أمل بعد تحالفه مع حركة النهضة الإسلامية سنة 2014، ولم يغفر له أولاد زايد تلك "الخطيئة" أبداً، وهو ما تجسّد في فتور العلاقات بين أبوظبي وتونس خلال فترة رئاسته، "لتنطلق مذ ذاك الحين رحلة البحث عن البديل حيث تدعم الإمارات اليوم الحزب الدستوري الحر، وهو حزب يميني متطرف يعرّف نفسه بأنه وريث حزب التجمع الديمقراطي المنحل، وتتزعم عبير موسى هذا الحزب وكتلته النيابية في البرلمان بـ17 نائباً.

فموسى تعتبر اليوم النموذج "السلطوي" المحبذ للعقيدة الإماراتية المناوئة للإسلاميين، وهو ما يفسر الترويج الإعلامي المكثف لرئيسة الدستوري الحر من قبل الأذرع الإعلامية الخليجية، علاوةً على تمويل عدد كبير من وسائل الإعلام التونسية لذات الغرض.

واستدرك ذات التقرير بالإشارة إلى أنه في مقابل هذا الدعم الإعلامي الإماراتي لموسى، فقد كثفت أبوظبي من وتيرة شحنها الدعائي لاستهداف راشد الغنوشي رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة، عبر حملة ممنهجة بنشر أخبار متزامنة ومخادعة حول الاستثراء غير المشروع منذ عودته لتونس سنة 2011، ثم دفع الحزب الدستوري الحر لتقديم لائحة برلمانية تسائله حول "المكالمة الهاتفية التي جمعته برئيس حكومة الوفاق فايز السراج" في جلسة صاخبة بثتها القنوات التلفزية الخليجية في حركة غير مسبوقة وتسويقها بشكل مضلل.

انطلاقاً من كل هذه المعطيات يمكن التلخيص بأن الثورة التونسية تعيش اليوم منعرجاً مفصلياً، حيث إن القوى الإقليمية تحاول النزول بثقلها بغايات مختلفة منها ضرب المسار الديمقراطي، ومنها كسب الورقة التونسية المهمة في الصراع الليبي بحكم الموقع الجغرافي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طارق عمراني
كاتب وصحفي تونسي
تحميل المزيد