أزمة لبنان الاقتصادية.. ما هي الحلول الحقيقية التي ستحمي بلاد الأرز من الانهيار؟

عدد القراءات
8,460
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/12 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/12 الساعة 09:42 بتوقيت غرينتش

انضمَّ لبنان إلى نادي الدول الخاضعة للعقوبات بالوكالة. كانت هناك عقوباتٌ محدودة قائمة بالفعل، لكن قانون قيصر الأمريكي، الذي استهدف سوريا، ألقى بشباكه على الاقتصاد اللبناني برمته. 

كان النظام المالي المتداعي يلهث من أجل تمويلاتٍ أجنبيةٍ جديدة. والآن يقع هذا النظام بين سندان النخب اللبنانية الفاسدة بشكلٍ مريع والتي تعرقِل الإصلاح، ومطرقة التعسُّف المالي من القوى الغربية. 

وإضافةً إلى التضخُّم المتسارع الذي امتدَّ إلى سوريا، أثار شبح العقوبات في أعقاب فشل محادثات صندوق النقد الدولي صراعاً سياسياً داخل لبنان على التوجُّه شرقاً نحو الصين وروسيا وإيران من أجل المساعدة. 

زواجٌ مع الغرب 

هذه ليست المرة الأولى التي يُثار فيها قلق لبنان من التحوُّلات في التوازنات بين القوى العالمية والإقليمية، لكن هذه واحدةٌ من أخطر الأزمات. فالعقوبات التي تُضاف إلى الإفلاس المالي، والتلاعب الأوليغارشي، وزعزعة الاستقرار الإقليمي، وجائحة فيروس كورونا المُستجد، والركود العالمي، هي جميعاً وصفة للانهيار الكامل. 

ليس ثمة إنكارٌ للكارثة الوشيكة، لكن المشهد الإعلامي البغيض للمعاناة المُروِّعة، المنفصل عن مناقشة جادة للخيارات الصعبة التي يواجهها لبنان، يبرز هذه المعاناة. 

يتمثَّل الخيار الأول في التمسُّك بالغرب ونسيان بقية العالم من خلال الحياد السلبي. وهذا يعني في الواقع تطبيعاً سلبياً مع إسرائيل، وابتعاداً حقيقياً عن سوريا، وكلا الشرطين يلبي التوقُّعات الغربية. وبصرف النظر عن كون ذلك خيالاً تاريخياً فإن هذا الحياد اللبناني هو ضربٌ من التمنِّي. 

أولاً، تقلل الدعوات إلى الحياد من طبيعة ومدى الحرب الجيو-اقتصادية الجارية، والتي يُعَدُّ قانون قيصر هو خطوتها الأخيرة. وبعدما خسرت واشنطن حربها بالوكالة عسكرياً، فإنها تستعرض عضلاتها المالية -المدعومة بتفوُّق الدولار في الأسواق العالمية- لإفساد جهود إعادة الإعمار في سوريا، تلك الجهود التي يضطلع بها خصومها الأقل شأناً؛ روسيا والصين وإيران. 

وعلى نطاقٍ أوسع، أصبحت العقوبات المالية الآن جزءاً أساسياً من السياسة الخارجية الأمريكية، وتقبع أغلبية الدول المتأثِّرة بهذه العقوبات في الشرق الأوسط. هذه العقوبات هي جزءٌ من حربٍ ذات جبهاتٍ مُتعدِّدة تتضمَّن أطرافاً ثالثة، مثل تركيا ومصر ودول الخليج، ومرتبطة بإعادة الإعمار في العراق وسوريا، والتنافسات الجيو-عسكرية في اليمن وليبيا، والتوسُّع الاستيطاني الاستعماري في فلسطين، والسيطرة على حقول الغاز في شرقيّ البحر المتوسِّط. 

انتحارٌ سياسي 

ثانياً، يُعَدُّ الحياد تجاه سوريا على وجه الخصوص قتلاً اقتصادياً رحيماً وانتحاراً سياسياً، بالنظر إلى الحدود المشتركة بين البلدين، والتاريخ المشترك، والاقتصادين المترابطين، والتهديد المشترك بالعدوان الإسرائيلي، والنخب الأوليغارشية والسلطوية الحاكمة، وتقارب الأزمات المالية، كما تُظهِر هذه العقوبات. 

سوف يعزل الحياد لبنان عن شريان الحياة البري الوحيد إلى سوريا والمنطقة الأوسع، في وقتٍ يتعطَّل فيه السفر عبر البحر أو الجو بسبب فيروس كوفيد-19. وسوف يعيد هذا الحياد إحياء العداء بين الشعبين، بينما لن يفعل الكثير لتخفيف الأزمة أو إطاحة النخب الحاكمة. 

بالإضافة إلى ذلك، تستمر القوى الغربية في اللعب بمعايير مزدوجة، وتثير القلق بينما تضيِّق الخناق. وبينما فرضت واشنطن عقوباتٍ جنائية على جميع سكَّان لبنان، أشار سفير واشنطن في بيروت إلى المُشتَبَه المعتاد، حزب الله، في زعزعة استقرار البلاد. وردَّد السفير البريطاني الاتِّهام نفسه، بينما قامت السلطات -كما شهد الكاتب نفسه في مطار هيثرو في لندن- بترحيل مغتربين لبنانيين، يحملون نقوداً هم في أمسِّ الحاجة إليها، إلى وطنهم. والمسافرون الذي أُلقِيَ القبض عليهم "متلبِّسين" جرى استجوابهم من دون سبب. 

وعلاوة على ذلك، فإن دول الخليج التي تسبح في الفلك الغربي تحجب المساعدات أيضاً، بينما تغمرها تريليونات الدولارات في الصناديق السيادية. 

وأخيراً، يتوقَّع حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة. والأهم من ذلك أن الدول الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة، لديها علاقاتٌ تجارية ومالية بمليارات الدولارات مع الصين وبقية الشرق، ولكن ليس لديهم مخاوف من حرمان لبنان والمنطقة من حصتهم من مثل هذه العلاقات. 

التوجُّه نحو الشرق 

رغم هذه الحقائق، هناك مقاومة مستمرة للسعي إلى بدائل شرقية. يمتد الاعتماد على رأس المال الغربي والخليجي عميقاً داخل المجتمع اللبناني، بما يتجاوز قطاع الأعمال والقطاع المصرفي. 

يعتمد قطاعا التعليم الخاص والمنظمات غير الحكومية، واللذين يُعَدان موطناً لشرائح كبيرة من الناشطين المؤيِّدين للانتفاضة، بشكلٍ كبير، على التمويل الغربي. وتُعزَّز هذه الروابط المادية من خلال تقاربٍ ثقافي داخلي لكلِّ ما هو غربي، وللتحيُّز ضد كلِّ ما هو شرقي. هناك أيضاً بعض المقاومة المدفوعة بالرفض الأعمى والتسخيف غير الناضج من أيِّ مقترحاتٍ تقدِّمها قوى الوضع الراهن. 

من الناحية النظرية، يعزِّز التحوُّل نحو الشرق قوة المساومة مع الغرب، ويؤدِّي إلى تنويع مصادر الاستثمار الأجنبي، وقد يقدِّم حلولاً عملية وسريعة للمشكلات الضاغطة، مثل توليد الطاقة، وإدارة النفايات، والبنية التحتية للنقل. لكن في الواقع ليس هذا طريقاً سهلاً كما يتم تصويره. 

أولاً، يختزل المؤيِّدون الحاليون التحوُّل نحو الشرق في كونه أداةً ضد التدخُّل الغربي، من شأنها تعزيز العلاقات مع النظام السوري دون محاسبة الأخير عن دوره في القتل والتشريد وتدمير سوريا، أو كبح معقل الأوليغارشية السورية المرتبطة بالنظام في المستقبل الاقتصادي للبلاد. 

ولا يشترط التحوُّل نحو الشرق التطهير الداخلي في لبنان نفسه. لن تتحمَّل الأوليغارشية التي نهبت الثروة الوطنية لفتراتٍ طويلة تكاليف الخسارة المالية، ناهيكم عن مواجهة العدالة على جرائمها. ودون هذه الإجراءات التصحيحية، من المُحتَمَل أن تتحوَّل الاستثمارات الصينية أو غيرها من الاستثمارات الأجنبية الأخرى إلى تقسيم غنائم العقوبات. وسوف تُعزِّز الهياكل القائمة للقمع واللامساواة. 

ثانياً، العاصمة الصينية غير مُنزَلة من السماء، ولا تقدِّم وجبة غداء مجانية. يبدو أن تقارير خطط تسعة مشاريع تبلغ أكثر من 12 مليار دولار واعدة، وقد تقدِّم بعض الإرجاء، لكن هذا يأتي مع شروطٍ مُرفَقة. 

تشمل هذه الشروط خصخصةً مُحتَمَلة لأصول الدولة، وضماناتٍ حكومية لتعويض الخسائر المُحتَمَلة، ستأتي على الأرجح في النهاية من جيوب المواطنين، واعتماداً -حتى ولو جزئياً- على الأنظمة المصرفية القائمة على الدولار، وحصولاً على مصادر الطاقة، التي تقتصر في حالة لبنان على احتياطيات الطاقة المُحتَمَلة في منطقةٍ بحرية شديدة التنافسية. 

عجز السيادة 

تُعَدُّ البروتوكولات الرسمية من دولةٍ لأخرى شروطاً مُسبقة لكلِّ ما ذُكِرَ أعلاه، بالطريقة نفسها التي تُطلَب بها مساعدةٌ قانونية لإعادة أصول مسروقة مُودَعة في سويسرا أو غيرها من الملاذات المالية الخارجية. 

وهناك حاجةٌ إلى مراسيم حكومية داخلياً من أجل تطبيق المُتطلَّبات الأساسية للانتفاضة وحل الأزمة بطريقةٍ عادلةٍ وسريعة. يشمل ذلك تشريع ضوابط رأس المال، وإجبار الأوليغارشية ووكلائها المصرفيين على تحمُّل تكاليف الانهيار، وتنفيذ الرعاية الصحية الشاملة، وإعادة توزيع الثروة من خلال الضرائب التصاعدية، ووضع حدٍّ للانتهاكات على الشواطئ الساحلية لإحياء السياحة، وإصلاح العمل غير العادل وقوانين الأحوال الشخصية، ودعم النشاط الاقتصادي المُنتِج. 

بعبارةٍ أخرى، سواء كان التوجُّه نحو الغرب أو الشرق أو أيّاً ما كان، فإن إصلاح النظام السياسي في لبنان ضروريٌّ من أجل استعادة السيادة الداخلية والخارجية، التي دونها من غير المُرجَّح أن يتحقَّق تغييرٌ كبير. 

منذ تأسيس لبنان، عانى ذلك البلد من عجزٍ في السيادة فيما يتعلَّق بالقوى الأجنبية والأوليغارشية الحاكمة. وهو الآن يواجه تحدياً مزدوجاً باستعادة السيادة من كليهما وسط ظروفٍ غير مُحبَّذة. إن الطريق إلى تحقيق السيادة لا يضع جميع الأطراف في سلةٍ واحدة. وإدراكاً للقيود الاقتصادية عليه وموقعه كجزءٍ من الجنوب العالمي، وفي المواجهة من التهديدات الأمريكية، يتعيَّن على لبنان تبني استراتيجية الحياد الإيجابي التي تلعب على تناقضات الحرب الجيو-اقتصادية الجارية لتعظيم مكاسب شعب لبنان وليس نُخَبه المُغتصِبة أو سادة الاستعمار الجديد، في الوقت الحالي أو المستقبل. 

يتطلَّب الكفاح من أجل السيادة على الجبهتين الداخلية والخارجية، في مواجهة القوى العالمية، حشد قوة سياسية هائلة. ولن يكون هذا ممكناً دون حركةٍ جماهيريةٍ منظَّمة تنظيماً جيداً، لا يزال لبنان يفتقر إليها، ناهيكم عن غياب التضامن الإقليمي الممتد من العراق إلى فلسطين، والذي يدمج الجغرافيا السياسية في النضال الثوري. 

الكرامة والعدالة الاجتماعية 

نقطة الانطلاق في لبنان تتمثَّل بالضرورة في سوريا. مهما كانت الحساسيات والتحيُّزات والتعقيدات المرتبطة بالعلاقات السورية اللبنانية، فإنهم بحاجةٍ إلى إعادة تأسيسها بطريقةٍ تخدم المطالب الأساسية للانتفاضة القائمة من أجل الكرامة السياسية والعدالة الاجتماعية. 

ويتضمَّن هذا أولاً وفي المقام الأول مواجهة تناقضات الكفاح ضد القوتين التاريخيَّتين المؤثِّرتين اليوم: النظم القمعية من جانب، والاستعمار الصهيوني من الجانب الآخر. 

وهناك طريقةٌ أخرى تتمثَّل في إعادة رسم شروط الصراع عبر الطبقات، بدلاً من الخطوط القومية. وهذا يعني إيجاد قضية مشتركة مع العمال السوريين والفلسطينيين في لبنان، بما يتجاوز النموذج الليبرالي لحقوق اللاجئين، وكذلك توحيد الجهود لإزاحة النخبة الحاكمة في كلا البلدين دون مزيدٍ من التدخُّل الأجنبي. 

والطريق الثالث هو رؤية مُوحَّدة لإدارة التحوُّل العالمي من الغرب إلى الشرق، بالتنسيق مع دول الجنوب العالمي. 

إن إيجاد حلول لهذه القضايا الشائكة الأخرى، التي يمكن الدفاع عنها أخلاقياً، والتي هي قائمةٌ سياسياً، ليس المهمة الواضحة أو سهلة التحقيق. لكن مع تضاؤل تعبئة الشارع ومواجهة المصاعب التي تتصدَّر المشهد قد يكون كلُّ هذا طقوساً ضرورية للمرور عبر كلا الصراعين خارج المأزق الحالي. 

– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هشام صفي الدين
مُحاضِرٌ في تاريخ الشرق الأوسط بكلية كينغز بلندن
هشام صفي الدين، مُحاضِرٌ في تاريخ الشرق الأوسط بكلية كينغز بلندن، ومؤلِّف كتاب "Banking on the State: The Financial Foundations of Lebanon".
تحميل المزيد