إن الذين يريدون فرض الجنرال الانقلابي خليفة حفتر كطرف في العملية السياسية في ليبيا هم أولئك الذين أمدوه بالسلاح منذ البداية، وحرّضوه على تنفيذ انقلاب ضد الحكومة الشرعية. وما حفتر بالنسبة لهم إلا أداة يستخدمونها لتنفيذ مخططاتهم في ليبيا، ليستولوا دون وجه حق على أراضيها ومواردها. لكن هذه الأداة -أي حفتر- تمنحهم الإمكانية لاختلاق قصة تعطي مبررات لهذا التدخل، فيروون حكاية تقول: حفتر يمثل الجيش الوطني داخل ليبيا المنقسمة ويطلب منا المساعدة لمواجهة الإرهابيين الذين سيطروا على الحكم في غرب ليبيا، ولهذا فنحن نقدم له المساعدة.
ومن هؤلاء الإرهابيون؟ الحكومة الشرعية في ليبيا.
إن حكومة الوفاق تمثل الجهة الليبية الوحيدة التي حظيت بالشرعية لدى المجتمع الدولي، وهي التي طردت عناصر داعش الإرهابية من المنطقة. فكيف يمكنكم نعتها بالإرهاب؟ كيف للانقلابيين أن يكشفوا عن أنفسهم لهذه الدرجة؟
وبغضّ النظر عن بهتانها، فإن هذه الحكاية يحاول فرضها حتى هذه اللحظة، بحكم الأمر الواقع، على الشعب الليبي والمجتمع الدولي كافة لأنها تحظى بدعم الإمارات وروسيا وفرنسا ومصر.
استمر الأمر على هذا النحو إلى أن دخلت تركيا على الخط. وفي الواقع لم تكن تركيا تقبل هذا التقسيم والإرغام منذ البداية، فكانت تراقب مخطط الاحتلال هذا الذي حاولوا تنفيذه على ليبيا من خلال الانقلاب، ولم تكن راضية بها. وعندما حان الوقت المناسب لتقول تركيا كلمتها، لم يعد لدى أحد الآن أي كلمة يقولها بعد كلمة تركيا.
البحث عن تفويض جديد
لا تلقوا بالاً لمن يتكلمون وما يقولون، فليس لكلام أحد الآن أي حكم أو قيمة. فالعبارات التي يقولها السيسي متحدثاً عن القوى التي تقف وراءه ينظر إليها الناس في الدول العربية على أنها نموذج للكوميديا السوداء.
في المقابل، قد رأينا التدخل التركي في ليبيا -بطلب من الحكومة الشرعية- كيف كان تدخُّلاً سريعاً ونوعياً وغيّر توازنات القوى في وقت قصير للغاية، وأقام الاستقرار في جزء من ليبيا، ما جعل هذه المناطق الآن أكثر ملاءمة للعيش بالنسبة للشعب الليبي، ولكن شاهدنا جميعاً السيسي المنقلب على إرادة الشعب المصري يعلن انزعاجه من التطور الوطني الليبي.
ففي حين الخطر الحقيقي الذي يستهدف مصر هو الجفاف الشديد والجوع والتهديد الأمني الذي قد ينشأ عن قضية سدّ النهضة الذي بنته إثيوبيا على النيل بمباركة السيسي نفسه، رأيناه يطلق تصريحات تستهدف تركيا التي تنشر الاستقرار والسلم الاجتماعي في ليبيا، ولم تتأخر الإمارات والسعودية في تأييد هذه التصريحات أو التهديدات.
وبالطبع، هذه التصريحات ليست من النوع الذي يجب أخذه على محمل الجد بالنسبة لتركيا؛ لأن هذه القوى -التي هي السبب الرئيسي في عدم الاستقرار بليبيا- ليس لديها ما تقوله، غير أن موقفها في هذا الصدد دليل جدّي على ذلك.
وفي الواقع، فإن التهديد الحقيقي لأمن مصر وحدودها هو إسرائيل وأولئك الذين لا يدعمونها الآن للدفاع عن مياهها في مقابل إثيوبيا، بل يحرّضونها ويوجّهونها ضد تركيا.
ولكنْ ما المنطق الذي يعتمد عليه السيسي عند إعلان "سرت والجفرة" خطاً أحمر، وكيف يكون دخول قوات الحكومة الشرعية الليبية إلى مدنها تهديداً لأمنه؟!
علاوةً على ذلك، فإن هذه المسرحية -المدعية أن بعض العشائر تطالبه بالتدخل في ليبيا- تمثّل بالضبط الطريقة التي اغتصب بها الحكم في مصر.
يقول "إن الشعب الليبي…"، وفي الواقع، هو يقصد مجموعة من الشعب الليبي، طلب منه التدخل ثم يدعوهم إلى التحرّك وأن يعطوه التفويض بالتدخل في ليبيا، وهكذا بالسيناريو نفسه انقلب على إرادة الشعب المصري، وهو منهج الانقلابيين والغُزاة في صناعة شرعية مزيفة لهم، وهو في الوقت نفسه المنطق المارق الذي يحكم -مع الأسف- على العالَم الإسلامي كله بعدم الاستقرار والفقر.
ومع ذلك فلا توجد شرعية حقيقية لدعوة السيسي -ومن يقف وراءه- للتدخل في ليبيا. وأمّا آماله وأمنياته في لعبة دعوة العشائر إلى (التسليح والتدريب والقتال)، فإنها لن تزيد في تضخم ملفّ جرائمه الدولية إلا قليلاً.
وبخصوص التصريح الذي أدلى به رئيس فرنسا ماكرون وقال فيه إن "تركيا تلعب لعبة خطيرة في ليبيا"، فقد رد عليه الصحفي بوبي جوش بمقال في بلومبيرغ حمل عنوان "تركيا تحكم أحلام ماكرون". وفي الواقع فلا يملك ماكرون الحق في محاسبة تركيا في ليبيا، بل هو مَن يجب محاسبته. لا ينطبق هذا الكلام على ماكرون فقط، بل إن كل مَن وقف خلف حفتر سيحاسب على ما فعل.
إن جميع جرائم الحرب التي ارتكبها الانقلابي حفتر، الذي تدعمونه وتدينون له بشرعية وجودكم في ليبيا، تسجل في السجلات دون نسيان.
جرائم ضد الإنسانية
لقد اكتشف حتى الآن 11 مقبرة جماعية في المناطق التي حررتها قوات حكومة الوفاق من حفتر. وهناك أدلة دامغة تشير إلى أن المدنيين المدفونيين في هذه المقابر قتلوا بعد تعذيبهم، بل إن بعضهم دُفنوا أحياء والبعض الآخر كان مكبّل الأيدي. كما اكتشفت ألغام ومتفجرات مصنوعة يدوياً مزروعة على الطرقات لمنع المدنيين من العودة لديارهم، فبادرت حكومة الوفاق بدعم تركيا لتطهير المنطقة من هذه الألغام والمتفجرات التي قتلت وجرحت الكثير من المدنيين.
وبحسب إحصائيات المركز الليبي للألغام فقد وقع 57 انفجاراً بسبب الألغام والمتفجرات التي زرعتها ميليشيات حفتر مات بها 39 شخصاً على الأقل وأصيب أكثر من 100 آخرون كان من بينهم نساء وأطفال. من جانبه قال ليام كيلي المسؤول عن ملف ليبيا في المجموعة الدنماركية لنزع الألغام في تصريح لوكالة الأناضول: "لقد نزح أكثر من 400 ألف مدني بسبب الحرب، ومعظمهم عاجزون عن العودة لبيوتهم بسبب الألغام".
ولفت كيلي إلى أن الألغام والمتفجرات مزروعة في رقعة واسعة تضم العديد من الأحياء جنوبي طرابلس، مضيفاً: "ومن بين هذه الألغام نجد الألغام المضادة للأفراد والدبابات والصواريخ وقذائف الهاون وسائر الذخيرة والمتفجرات التي ألقت من الجو لكنها لم تنفجر".
هذه المعلومات تشير بوضوح لمشاركة مصر وروسيا وفرنسا والإمارات بشكل خطير في الجرائم المضادة للإنسانية التي لم ولن يقدروا أبداً على تفسير وقوعها في ليبيا. ولقد كنا قد طرحنا هذا السؤال في مقال سابق: إن كانت تستطيع أي دولة من تلك الدول تقديم أي وعد من أجل تحقيق الأمن والاستقرار للشعب الليبي؟ فليتفضلوا بتقديمه. لكنهم عاجزون عن ذلك. وأما الحقيقة الواضحة كوضوح الشمس فهي أنهم يحاولون الانقضاض بشراسة ووحشية على دولة تعاني من ضعف أمني بسبب أزمتها السياسية مستغلين حالة الضعف التي تعيشها هذه الدولة. ولعل هذا الفعل وحده يمثل جريمة واضحة حتى من وجهة نظر نظام العلاقات الدولية القائم وإن كان هذا النظام يعاني كثيراً من المشاكل.
إن الوضع الجديد في ليبيا لم يعد يمنح فرصة لتفاوض سياسي بين أطراف متكافئة، بل إنه يشير لبداية وتيرة القبض على الانقلابيين والمحتلين ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية متلبسين على أراضي ليبيا لتقديمهم للمحاكمة أمام المحكمة الدولية. ولا ينبغي لأحد أن يحمل أي همٍّ، فتركيا لن تتخلى عن متابعة هذه القضية بوجودها في ليبيا بدعوة من الحكومة التي تمثل الشعب الليبي بطريقة شرعية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.