"تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت، تأدية رئيس المحكمة الدستورية اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة، إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شؤون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد". كانت كلمات عبدالفتاح السيسي فاصلة في الأحداث السياسية حينها، إذ غيرت وجه مصر مرة وللأبد. تقع التغيرات السياسية في كل العالم، ولأسباب متنوعة. في السياسة، لا حليف دائماً ولا عدو للأبد.
لكن ما حدث في مصر، يوم الثالث من يوليو/تموز عام 2013، يتجاوز الحدود السياسية بأميال وأميال. لم يسقط نظام ويأتي آخر، ولم يُقصَ رئيس ليحكم صاحبُ البدلة العسكرية فيما بعد، بالتأكيد حدث كل ذلك، لكن مصر لا تكف عن إبهارنا. أزالت كلمات عبدالفتاح السيسي وجرفت داخلنا، نحن المصريين، معاني كثيرة وأخلاقيات كنا نحسب أنها مما لا يَسَعُ المصري تركه. هدم الثالث من يوليو/تموز جزءاً كبيراً من نفْس المصري السوية، أو لعله كشف النقاب عن اعتلالٍ مزمن كان مختبئاً تحت تلك القشرة الهشة من الأخلاق وبقايا ضمير.
أتحدث عن المصريين كافة، ليس أبناء ميدان أو أنصار فريق، قبل ذلك اليوم كنا قادرين على رؤية الحقيقة، أو بعض منها، بشكل محايد وواعٍ لجلّ الظروف. لكن انقسمت الشاشة الآن، وصار الواقع ضبابياً ومشوشاً بشدة. فنحن إما نراها بعين شاب يفترش ميدان رابعة ليسمع بيان الانقلاب، أو عجوز يجلس على أريكة مهترئة في إحدى عشوائيات محافظة الجيزة، ليشاهد البطل الذي ضحَّى لأجل بلده وهو يحارب الإرهاب. ربما كلمات مثل الانقلاب، رابعة، السيسي، جعلتك الآن تنتظر حديثاً يعود بنا لأيام الاستقطاب الجميل، الذي انفجر من بعد الثالث من يوليو/تموز، لكن في هذا الحديث يهمّني الإنسان "ولو ملوش عنوان". وتلك مسألة فاصلة بيننا يا صديقي، عليك الآن أن تقرر كيف ستسير حياتك طيلة الدقيقتين القادمتين. إن غضبت مما قرأت فأكمل معنا السير حتى النهاية، فتلك الكلمات لك، تابع القراءة وفي النهاية، "بين الشاري والبايع يفتح الله".
نسخة 3 يوليو.. كيف قُتل الإنسان داخلك؟
استطاع يوم الثالث من يوليو/تموز أن يجرِّدنا من الكثير من الصفات البشرية التي خُلقنا بها، لم نقصد هذا ولم نفعل، لكنه حدث رغماً عنا.
في فيلم "Multiplicity" كان البطل يعاني من قلة الوقت وعدم توفيقه بين العمل والأسرة والأصدقاء، حتى قابل، صدفة، عجوزاً سيعرض عليه الحل السحري. بكل بساطة وتجاوزاً لحدود الواقع، صنع العجوز منه نسخة إضافية؛ لتساعده في حل مشاكله. في حالتنا حدث الأمر نفسه، حيث أصبح لكل منا نسخة جديدة، تحت مسمى "نسخة الثالث من يوليو". لم يهدِها إلينا عجوز، بل رجل يرتدي بدلة عسكرية، وخلفه مجموعة من الموافقين على كلماته، في الفيلم حاول العجوز أن يساعد البطل. وفي واقعنا كانت هدية العسكري شر هدية، فقد منح كلاً منا، النسخة السيئة منه، نسخة الثالث من يوليو، هي صوتك الفاسد، شيطانك الصغير الذي يقتات على أحداث سيئة وإعلام غير مهني، وهزيمة مخيبة للآمال، أو انتصار يُنسيك حقيقة هزيمتك الداخلية. نسختك التي تصرخ: تسلم الأيادي، على كل شر يصدر. نسخة 3 يوليو/تموز تتحكم فيك الآن بينما تقرأ، تهديك مواطن الخلاف بيننا، تقدمها لك على طبق من نار، تصمُّ أذنيك عن كل ما قد يساعدك على التخلص منها، وتغمض عينيك عن كل ما يخالفها.
صديقي، أسمعك الآن تقول: "ده جاي يقول حِكم ومواعظ"، "فين الخناقات؟ فين الاشتباكات؟"، صدِّقني نسخة 3 يوليو/تموز هي التي تقول لا أنت، تذكَّر معي الآن كيف كنت قبل هذا الموعد الحزين، كيف كانت نظرتك للأحداث، تذكرت؟ ربما لا، في الكلمات القادمة ربما تتذكر، وتكف عن عبوسك وكلمات النقد الجميلة بحقي، صديقي قبل أن نكمل "فرفش إحنا في رحلة".
"فلتر" المواقف السياسية.. كيف نخسر الإنسان بداخلنا؟
تعرف مجدي الجلاد؟ إجابات عديدة على السؤال بالتأكيد، فكل منا ينظر بعين نفسه، وليس بعين الصيرة -دعابة لا تضر بإذن الله- تتنوع الردود حول الشخص نفسه، وهذا ليس بمستغرب وربما ظاهرة صحية، لكن الغريب أنك ستجد إجابات متناقضة بشكل يثير الخوف والفزع وربما الضحك أكثر من دعابتي السابقة.
أكمِل، يوم زفاف ابنة مجدي الجلاد، كانت الأجواء مثالية للاحتفال، عروس ترتدي فستان الزفاف الأبيض، فجأة يعلن الصوت القادم من كل اتجاه عن فقرة "بنتي وحبيبتي"، حيث يرقص الأب مع ابنته في ليلة العمر، على طبقة صوت مدحت صالح. وبطبيعة الحال حدث المنتظر، وانهارت دموع مجدي الجلاد بلا توقُّف، وساد المكان حزن مؤقت يحتاج لتدخُّل الفنان حكيم مع شعاره "كله يرقص"، المشهد واضح لك الآن، أب يبكي في حضن ابنته العروس، في لحظة إنسانية مؤثرة، لكن في ثوانٍ، تخبرك نسخة الثالث من يوليو/تموز بمفاجأة، قبل أن تنهمر دموعك، "تمت مراجعة مواقف المذكور السياسية وتأييده للانقلاب، توقّف الآن عن تأثرك العاطفي.. متصغرناش". بينما الإنسان داخلك يبكي عليك لا على العروس وأبيها، في الماضي كنت تتأثر في المواقف الإنسانية البسيطة بلا حسابات.
انتبِه أنت ترجع إلى الخلف.. بلا عودة
في التاسعة من مساء أحد أيام ما بعد الثالث من يوليو/تموز، تتجهز لمشاهدة حلقة جديدة لمذيعك المفضل أحمد موسى، سيحكي لنا اليوم كيف انتصرت مصر على الإرهاب في مكان ما بالتأكيد، مصر لا تنام كل يوم إلا وهي منتصرة على شيء ما بطبيعة الحال. تنتصر في الصباح وترسل لك أحمد موسى في المساء ليخبرك. تجلس أنت أمام التلفاز وزوجتك شاردة الذهن لا تفكر في مستقبل العالم، بل تفكر في غداء الغد، وأنت بكل شغف تنظر إلى الساعة، تتبقى 4 دقائق، لا تحب هذا الرقم؟ تتبقى دقيقتان إذاً، يبكي طفلك الصغير، تعطيه زوجتك جهاز التحكم. لكن تصرُّف خالد لن يعجبك، في أثناء لعبه يضغط على زر، فترى مصر التي وراء التلفزيون، "أسماء يا بنت مصر الطيبة.. يا فرحة حلوة قريبة. يا ضحكة بدري اتيتمت"، كان هذا الصوت، بينما الصورة لشابة صغيرة تصارع الموت، بلا جزع أو خوف، تتوالى الصور، هنا مبتسمة بطفولة، هنا ترفع علم مصر وسط المتظاهرين.
تأخرت على صديقك أحمد موسى؟
لا تقلق، سننتهي قبل أن ينتهي، هو لا ينتهي عامة. تتضارب مشاعرك مع كلمات الأغنية، تغضب من طفلك، وتحزن على طفلة تراها أمامك في مشهد يشيب له الولدان، دون إنذار تداهمك نسخة الثالث من يوليو/تموز، "إنت عارف مين دي؟ عارف أبوها؟ لا رُد عليا، دي بنت البلتاجي، بتاع الإخوان!".
أعلم أنك ستقاوم بين الإنسان داخلك وتلك النسخة السيئة منك، تابِع المقاومة، تنجُ.
الكذب لا يغيّر الواقع.. فقط يغيّرك
تجعل منك نسخة الثالث من يوليو/تموز، صورة هزلية لإنسان ساذج يحمل حقيبة جواهر ثمينة، بها خرق لا يراه، بينما الجميع يراه، كلما تحرك خطوة للأمام، سقطت منها جوهرة، يستمر في سيره، ويجمع الأحجار بدلاً منها، حتى تصبح حقيبته بلا جواهر، فقط أحجار قبيحة الشكل. في كل حدث سياسي يتغير شيء داخلنا ومع التكرار يصبح هو الأصل، 7 سنين استطاعت أن تجعل منا جميعاً، بَشراً بلا جواهر تقريباً، مِن أهم الجواهر التي سقطت من حقيبتنا، الصدق والموضوعية. أصبح الكذب هو السائد في حديثنا، يصبح الناس كاذبين، فقط لأنهم يختلفون معك، تراهم خارج إطار العقل والمنطق.
يقول السياسي الأمريكي الراحل جون ماكين، في تصريح شهير حول أحداث 3 يوليو/تموز: "إذا كانت تمشي كالبطة، وتصدر صوتاً كصوت البطة، فهي بطة". سواء كنت من المؤيدين أو المعارضين لأي شيء عموماً، فلا تجعل ذلك يُنسيك الأشكال الحقيقية للأشياء، اتفقت أو اختلفت معها، فإنْ سلب منا الثالث من يوليو/تموز، حلم دولة للمصريين كافة، بلا خوف أو كره، فليس أقل من أن نمنعه من سلب الإنسان داخلنا جميعاً.
يا سادة الأحقاد مصر بشعبها.. بترابها بصلابة الإيمان
مصر العظيمة سوف تبقى دائماً.. فوق الخداع وفوق كل جبان
فاروق جويدة
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.