من أجل السودان أم العسكر؟ لماذا تتبنى الخرطوم سياسة “صفر مشاكل” بعد الثورة؟

عدد القراءات
2,319
تم النشر: 2020/07/01 الساعة 12:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/01 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش

 في مراحل النمو والبداية في عمر الأنظمة السياسية، والدول في بداياتها تسعى بعض هذه الأنظمة لاتباع النظرية المعروفة بـ"تصفيرالمشاكل"، نظرية طبّقتها فعلياً تركيا في بداية حكم حزب العدالة والتنمية، وبتنفيذ مباشر من خارجيتها برئاسة أحمد داود أوغلو، فنفذت هذه النظرية وعالجت إشكالياتها مع البعثيين السوريين ووريث النظام هناك، كذلك إسرائيل، كما حصل تقارب مع اليونان وروسيا، إلى أن خرجت تركيا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين كأحد المردة في شرق أوروبا، وعلى المستوى الإسلامي، وفي حوض المتوسط.

ويبدو أن السودان بعد الثورة وخلال هذه الفترة الانتقالية يسعى لتبنّي المبدأ ذاته، ليتنفّس الصعداء، بعد سنوات من العقوبات الأمريكية والحروب الأهلية وتبدّد الثروات والاصطفافات هنا وهناك، فالسودان الذي يقوده مجلس سيادي مكون من عسكريين ومدنيين تكون الرئاسة فيه بالتناوب، يسعى للانفتاح على العالم، والتعلم من دروس الماضي، تلك الدروس التي تجلّت فعلاً حينما سقط البشير.

دروس من حكم البشير

 عمر البشير الذي حكم السودان زهاء الثلاثين ربيعاً، ورغم خبرة سياسية طويلة، فإنه ودّع الحكم من الباب الضيق، بعد فشل تحالفه مع الإمارات والسعودية، فالبشير القادم من المؤسسة العسكرية، وبحسب ما يُصنف بأنه من مرجعية إسلامية -انقلب عليها لاحقاً- صُنّف في موجة الربيع العربي ضمن التحالف التركي القطري والدول الداعمة لثورات الربيع العربي، لكنه بعد تنامي دور الإمارات والسعودية، وحدوث الانقلاب في مصر، وسيطرة السيسي عليها بدأ في الانسلاخ عن محوره الأول، والارتماء في محور الإمارات والسعودية بحثاً عن مخرج من مشاكله الاقتصادية وخسارته لجزء من ثروته النفطية جراء انقسام السودان، لكنَّ هذا التحالف لم يخدم البشير، بل أدار ظهره له فغرق البشير في نقص احتياطيات النقد الأجنبي وتهاوي العملة المحلية مقابل الدولار، وشح في إمدادات المواد الغذائية الأساسية، وإمدادات الوقود والمحروقات إلى أن أُطيح به في ثورة شعبية وبمساندة قوات من الجيش، أعلنت إنهاء حكم البشير والبدء في فترة انتقالية، وسرعان ما ضخت الإمارات والسعودية مليارات الدولارات دعماً للحكام الجدد، ناهيك عن أن مئات الملايين من لترات الوقود أصبحت تصل تباعاً للسودان.

لكن وبعد قيام رئيس المجلس السيادي الحاكم في السودان ونائبه بزيارات لأبوظبي والرياض والقاهرة، بدأت تظهر لمراقبين ملامح شكل الاصطفاف الجديد الذي سيتمحور فيه الحكام الجدد للسودان، لكن سرعان ما أصبحت المواقف والتصريحات تشير إلى سياسة أخرى يتبناها السودان.

 الانفتاح على الجميع وتصفير المشاكل

بدأ هذا التغيير الجذري بعد زيارة رئيس وزراء السودان د. عبدالله حمدوك لواشنطن، للبحث في رفع العقوبات الاقتصادية على السودان، وشطبها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ثم اللقاء الشهير بين رئيس المجلس السيادي البرهان ورئيس الوزارء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، والحديث على انفتاح وتطبيع مع إسرائيل، وفتح المجال الجوي أمام الطيران المدني الإسرائيلي، في تغيير جذري للموقف السوداني من القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ونسف موقفه من قمة اللاءات الثلاث الشهيرة في الخرطوم 1967، كما أن السودان وفي خطوة جريئة تحفَّظ على قرار عربي بتأييد حقوق مصر التاريخية في حصتها بنهر النيل، معللاً ذلك بأن السودان لا يريد غلق الباب على الوساطة العربية في تلك الأزمة، وهو تحفظ مثّل مفاجأة غير متوقعة، فحتى حكومة الوفاق الليبية، الممثل لليبيا في الجامعة العربية، ورغم ما بينها وبين النظام المصري من استقطاب سياسي إلا أنها أيّدت البيان، لأنه يُعنى بحقوق الشعب المصري وما يُعد تهديدات للأمة المصرية، بغضّ النظر عن موقفها ممن يتربّع على عرش الاتحادية، لكن السودان تحفظ، ويشير مراقبون إلى أن السودان سيحصل على بعض الامتيازات وإمدادات الطاقة الكهربائية من إثيوبيا، وبأسعار مخفضة، إضافة لنهج سوداني عام بعدم معاداة أحد، فالسودان يشارك مصر وإثيوبيا اجتماعاتهما المغلقة حول السد، كما أن الطرفين المصري والإثيوبي فوّضاه لصياغة وثيقة بين الدولتين، تحدد قواعد ملء الخزان، وزمن التعبئة، وحصة كل دولة، وأموراً فنية أخرى.

 وفيما يتعلق بالأزمة الليبية ورغم حديث تقارير أممية عن مشاركة قوات مرتزقة (الجنجويد) السودانية في الحرب في ليبيا منذ 2017، فإن السودان رسمياً نفى مشاركة أي قوات تابعة له في النزاع الدائر هناك، كما أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس المجلس السياسي السوداني قد تحدّث للإعلام أن حفتر قد رفض مبادرة سلام سودانية وافقت عليها حكومة الوفاق الوطني وقتها، كما أنه في أواخر يونيو/حزيران قبضت قوات الجيش السوداني على أكثر من 120 مواطناً سودانياً كانوا يتوجهون لليبيا بغرض المشاركة كمرتزقة مع قوات حفتر.

أيضاً وفيما يبدو سعياً منه لتطبيق مبدأ عدم الانحياز وتصفير المشاكل، يسعى السودان لفتح تواصل مع تركيا، عبر لقاءات بين رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان مع السفير التركي، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ويونيو/حزيران من هذا العام، وتبادل عبارات وجمل كالعلاقات التاريخية بين البلدين، خاصة بعد التعاون المشترك والدعم التركي للسودان في مكافحة جائحة كورونا.

كما أن العلاقات السودانية القطرية تشهد تعاوناً واضحاً، خاصةً في الجانب العسكري، حيث زار رئيس الأركان القطري مطلع هذا العام الخرطوم، ناهيك عن استمرار التعاون والاستثمار القطري في السودان، خاصة في مجال الزراعة بمليارات الدولارات.

  بهذه الفسيفساء يشهد السودان تموضعاً جديداً على الخارطة السياسية الإقليمية، فنفض عن كاهله غبار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، خاصة أن مصر التي خاضت حروباً طاحنة مع إسرائيل قد طبّعت العلاقات معها، كما تتمتع أبوظبي بعلاقة طيبة أيضاً مع تل أبيب في الفترة الأخيرة، قد لا يكون التطبيع مع إسرائيل طوق النجاة، لكن تحركات السودان الأخيرة، والتي يبدو أنها جاءت بنصيحة أمريكية، سيكون مردودها مثمراً عليه.

  فالمنطقة تشهد اصطفافات واضحة واستقطاباً عميقاً، سواء على خلفيات جيوسياسية كقضية شرق المتوسط، أو على خلفيات أيديولوجية مثل صراع الإسلام السياسي والعسكر، ويبدو أن النموذج العماني قد أثار إعجاب الحكام في السودان، وأصبح السودان أكثر انفتاحاً حتى على الدول الأوروبية، إذ تبنّت ألمانيا مؤتمراً حول دعم السودان، وحشدت قرابة الـ2 مليار دولار دعماً للانتقال في بلد تخنقه الديون والأزمات الاقتصادية.

 حميدتي أيضاً زار إثيوبيا على خلفية المناوشات الأخيرة بين الجيش السوداني وميليشيات إثيوبيا، هادفاً لتحقيق استقرار، ناهيك على مساعي قادة السودان لعقد اتفاق سلام مع الجبهة الثورية والفصائل المسلحة في الجنوب، ويهدف الاتفاق لوضع السلام والتعايش السلمي، مع تلبية مطالب الجبهة، والسير نحو بناء الثقة وسلام دائم.

من أجل السودان أم من أجل العسكر؟

   في العادة لا تحقق النظم العسكرية كل هذه المرونة في التعامل، فالحياة السياسية العسكرية مليئة بالمبادئ والشعارات الرنانة، وعادة ما يفتقر العسكر لمرونة السياسيين وسهولة تبديل مواقفهم، إلا أن الشق العسكري من المجلس السيادي السوداني يعمل بقوة لتشكيل شبكة علاقات عميقة مع الدول، فالاتفاق السياسي السوداني والإعلان الدستوري ينص أنه بعد واحد وعشرين شهراً من الإعلان الدستوري تنتهي رسمياً فترة رئاسة العسكر للمجلس السيادي، انقضت منها سنة تقريباً، لتأتي بعدها فترة حكم المدنيين بـ18 شهراً.

  ويُخشى أن تكون هذه التحركات والانفتاح الكبير لقادة السيادي تأتي لغرض آخر، بعكس ما يُسوق له، كغرض بناء علاقات، ومن ثم البقاء في السلطة، والإخلال بالاتفاق السياسي السوداني، فمن خلال الخلفية العربية التاريخية لا يترك العسكر السلطة أبداً، حتى وإن ضاقت الآفاق أمامهم، ولنا في الوضع المصري خير شاهدٍ حديثٍ على هذه السياسة، فمع بعض الانفتاح الداخلي، وعمل تحالفات مع مدنيين، إضافة لمعالجة بعض الأزمات الملحية كوقف الحرب وتحسين الوضع المعيشي والاقتصادي للبلد، قد تمر مغامرة تمديد البقاء بالسلطة، أو في أسوأ الأحوال الاستعداد للانتخابات بعد مضي فترة الاتفاق السياسي الانتقالي، فهل ستستمر سياسة الانفتاح وستثمر، أم أن السودان سيجد نفسه مضطراً للاصطفاف مجدداً في خنادق أحد المحاور، في منطقة تشهد تغيرات متسارعة وعميقة قد تعصف بالجميع.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالعزيز الغناي
محلل سياسي ومهتم بالشأن العربي والإقليمي
طالب دراسات عليا قسم إدارة مشروعات هندسية، مواليد 1987 مدينة مصراتة في ليبيا، حالياً أعمل كمهندس مدني، كاتب مهتم بالشأن العام، شاركتُ كمستشار لفريق صياغة الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات عن مدينة مصراتة.
تحميل المزيد