مَن يرسم الخطوط على الأرض الليبية، ومَن يلوِّنها؟

عدد القراءات
2,942
تم النشر: 2020/06/29 الساعة 12:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/29 الساعة 12:19 بتوقيت غرينتش
تظاهرات في شرق ليبيا - مواقع التواصل

المتابع للموقف المصري من الأزمة الليبية منذ البدايات  وتاريخ العلاقات بين البلدين بشكل أوسع لن يتعسر عليه فهم المعادلة البسيطة جداً مقارنةً بمواقف دول أخرى من ذات الملف، ربما تكون أكثر تعقيداً وإن شارك بعض تلك البلدان مصر البعد الجغرافي بجوار البلد النفطي الغارق في الفوضى منذ قرابة عشر سنوات.

فبعيداً عن ملفات الأقليات العرقية والدينية وامتداداتها، إلى نقاط التهريب بشتى أنواعه والهجرة غير الشرعية، يبدو ملف المصالح المصرية في ليبيا أكثر بساطة: نفط وغاز بسعر أقل من السوق وفي المقابل تصدير السلع الغذائية منها والدوائية ومواد البناء من الشرق إلى الغرب، ناهيك عن ملايين الأيدي العاملة المصرية في مجالات التعليم والصحة وقطاع البناء والتشييد في السوق الليبية التي تدر دخلاً معتبراً على خزائن الجارة الكبرى المتعثرة مالياً على الدوام.

مصالح يمكن اعتبارها دائمة لمصر في ليبيا طرأ عليها ملفان جديدان، أولهما أمني صرف: في طليعته التهديد المستمر للجماعات المتطرفة منذ 2013 في المنطقة، خاصة بعد الظهور العلني لتنظيم الدولة "داعش" في الشرق الليبي بمدينة درنة على بعد قرابة 300 كيلومتر فقط من الحدود الغربية لمصر.

حدود الأمن القومي للجارتين

هاجس أمني لا يستوجب بالضرورة رسم خطوط حمراء على بُعد أكثر من 1000 كيلومتر في العمق الليبي (سرت) وفي وسط الصحراء (الجفرة) ولو كان ذلك ممكناً لتدخلت القاهرة لحماية مواطنيها الأقباط الذين أُعدموا على يد تنظيم الدولة عندما كانت سرت أول ولاية رسمية للتنظيم بشمال إفريقيا في 2016، ما دفع الناتو والأفريكوم ومن ورائهما أمريكا وأوروبا للتحالف مع حكومة الوفاق الوطني للقضاء عليها نهائياً.

ثاني هذه الملفات المستجدة  سياسي بحت يتعلق مباشرة بنظم الحكم وانقسامها في المنطقة برمتها بين نظم ديمقراطية تحاول التشبث بمكاسب "الربيع العربي" على هانتها وعدة أوجه للقصور ليس هذا بمقام مناسب للخوض فيها، وبين أنظمة تمثل الدولة العميقة في تلك البلدان  أو ما بات يعرف "بالثورات المضادة" وما في حُكمها.

فمنذ الإطاحة بنظام الرئيس محمد مرسي المنتخب في مصر في 2013 على يد المؤسسة العسكرية والعمل جارٍ على استنساخ التجربة بحذافيرها في دول هزها ذات الزلازل قبل تسع سنوات، وعلى رأسها الديمقراطية الوليدة في ليبيا بعد صراع مسلح دامٍ، وإن اختلفت بعض التفاصيل بحسب خصوصية كل بلد.

 لكن في المجمل لا يخفى على أحد المحاولات المتكررة في الداخل والخارج لإجهاض الثورة الليبية بحجج ومبررات، على رأسها سيطرة الإسلاميين على مفاصل الدولة، الأمر الذي تدحضه الأرقام والحقائق منذ أول جسم سياسي إبان ثورة فبراير 2011 (المجلس الوطني الانتقالي) مروراً بأول جسم منتخب (المؤتمر الوطني العام) 2012 ومجلس النواب من بعده، وكل الحكومات المتعاقبة وصولاً إلى المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني المقترح بموجب اتفاق الصخيرات في 2015.

أكبر الداعمين عسكرياً

لم تخلُ مناسبة لم يتحدث فيها الجانبان عن دعم القاهرة اللامحدود "للجيش العربي الليبي" بقيادة المشير خليفة حفتر على الصعيد اللوجستي والفني والمعلوماتي والاستشاري، فمصر بشهادة مسؤولي شرق ليبيا قبل غربها كانت ومازالت الداعم الأكبر لما يسمى بحرب الجيش الليبي على الإرهاب التي خصص لها الإعلام المصري الشيء الكثير خلال السنوات الست الأخيرة.

فالدعم المصري شهد أوج عطائه في حربي درنة وبنغازي، حيث لعب الطيران المصري دوراً أشبه بالحاسم في تلك المعارك، واستمر حتى وقت قريب في معارك جنوب طرابلس، إضافة إلى العمل الاستخباراتي والتنسيق عالي المستوى بين الطرفين، وقضية عشماوي دليل لا غبار عليه بغض النظر عن كل ما يثار حولها من تشكيك.

قياساً بما سلف ذكره على عَجَل، فإن الموقف المصري تجاه الأزمة الليبية متجدد لا متغير، بحسب ما تقتضيه مجريات الأمور على أرض الواقع بحكم المتغيرات الكثيرة التي طرأت على الملف الليبي طيلة عقد مضى، فخطاب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الأخير بخصوص الصراع في ليبيا لم يحمل جديداً من ناحية المضمون على الأقل، أما الأشكال فتفرضها المراحل وحساسية المواقف على ميزان استشعار الأخطار والمصالح لدى الأنظمة الحاكمة.

بعيداً عن عنتريات الخطاب وخطوطه الحمراء والخضراء منها، ودغدغة المشاعر القومية في الداخل يبقى تصريح وزير الخارجية المصري سامح شكري الذي أعقب خطاب الرئيس هو الممثل الحقيقي لسياسة القاهرة "المصالح أولاً وأخيراً" وفق ما ذكرناه أعلاه، فبقرب انتهاء الأزمة فعلياً في ليبيا بحسب ما هو متاح وجبت على بعض الأطراف "صرخت نحن هنا قبل موعد اقتسام الكعكة".

فكل ما يمكن أن يقال عن مصالح مصر في ليبيا متفق عليه حتى مع ألد الخصوم (تركيا)، ومن الواضح أن حكومة الوفاق الوطني تدرك هذا جيداً، لذا لم ولن تستعدي مصر رغم دعمها المعلن لمن يحاول إسقاطها بقوة السلاح، فظل خطاب طرابلس ناعماً يحافظ على اللباقة السياسية المطلوبة مع بلد جار وصاحب ثقل لا يمكن تجاهله في المنطقة برمتها.

الحرب المستحيلة

الذي منع التدخل العسكري المصري المباشر على الأرض عندما كان حليفها "يسيطر على 90% من مساحة ليبيا" بحسب ما كان مسلّماً به لدى القاهرة لن يسمح بالتدخل الآن، وحكومة الوفاق تخطو كل هذه الخطوات المتسارعة نحو بسط نفوذها على كامل التراب الليبي بدعم حليف تركي قوي ومباركة أمريكية أدركت مؤخراً أن دول الجوار العربي أفسدت أكثر مما أصلحت في ملف الأزمة الليبية طيلة سنوات.

فلا الظروف السياسية ولا الأمنية ولا المادية تسمح بمثل هكذا تدخُّل وإن صدقت الأحاديث عن محاولات إماراتية سعودية للزج بالجيش المصري في هذه الحرب لكانت نجحت محاولتهما في إقحام ذات الجيش في اليمن المعركة الأهم بكثير للحلفاء الخليجيين على عدة اعتبارات.

بدل الحديث عن إمكانيات الجيش المصري "الجبارة" ومقارنتها بقوات ليبية غالبيتها من المتطوعين يسود على معظمها طابع العشوائية كان الأجدى طرح سؤال: لماذا التدخل المباشر؟

فلماذا يدخل الجيش المصري مغامرة غير مضمونة النتائج إذا كانت الدبلوماسية الناعمة تجلب لمصر وشعبها ونظامها الحاكم مصالحهم وبأقل الأضرار وبضمان حلفاء غربيين من علية القوم؟!

مع إبقاء هامش من عدم الممانعة من أي طرف لمسألة حق الدفاع المشروع للقاهرة عن أمنها القومي على الشريط الحدودي مع ليبيا براً وبحراً وجواً في حدود المتعارف عليه دولياً في حال أقدمت حكومة الوفاق على عمل مسلح كبير في الشرق الليبي بعد تجاوز سرت، وهو أمر مستبعد، بحسب معطيات ربما تحتاج لتفصيل في مقال آخر.

وقياساً على ما سبق، فإن كل ما فعله الرئيس المصري بخطابه الناري هو إعلان ما اتفق عليه فعلاً في قاعات الاجتماعات على مدار أيام وأسابيع على الملء، فقصة الخطوط الحمراء بدأها الروس بتواصلهم مع نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد امعيتيق قبل أسابيع، والمتابع لسير العمليات العسكرية في ليبيا يدرك أنه لم يحدث صدام مباشر بين الأتراك والروس، وأن التفاوض مستمر على انسحاب مقاتلي فاغنر مقابل ضمانات تقدمها أنقرة لموسكو وبضغوط غربية تقودها الإدارة الأمريكية على كافة مستوياتها.

على صعيد آخر، تأتي مسألة تسليح القبائل الليبية في الشرق لمحاربة قوات حكومة الوفاق المعترف بها دولياً مخالفةً للواقع الاجتماعي والإنساني بالمنطقة، وهو أشبه بتصوير قبائل وساكني الشرق على أنهم مجموعات من المرتزقة التي لا يحكمها سوى لغة المصالح المادية ولا يحركها سوى غرائز حيوانية رغبة في المال والنفوذ والانتقام.

على العكس تماماً فمن قاتلوا مع حفتر طيلة سنوات كانت لديهم عقيدة وطنية ويؤمنون بوجود مؤسسة عسكرية ستجلب لهم الأمن والأمان والاستقرار الذي ذهبت به رياح التغيير والديمقراطية والفوضى التي سببها الإسلام السياسي، على حد ظنهم، وكثير من هؤلاء تبدلت آراؤهم ومواقفهم مع مرور الأيام وتوالي الهزائم العسكرية، بدليل أن العديد من الأصوات في الشرق عارضت الحرب على طرابلس تحت قيادة عسكرية موحدة تأخذ شرعيتها من برلمان منتخب، فما بالك بالقتال في صفوف مرتزقة يقودها شيوخ قبائل ومدنيون!

هذا إن سلمنا بإمكانية قيام القبيلة بدور أبعد من دورها الاجتماعي الذي يشهد انحساراً مستمراً منذ 2011 ناهيك عن دور عسكري صرف فلا حكم مطلقاً لشيخ قبيلة على أفراد قبيلته، وبالتالي لا تأييد مطلقاً لقبيلة بأكملها لطرف سياسي أو عسكري على حساب آخر شرقاً أو غرباً أو جنوباً على امتداد الجغرافيا الليبية الواسعة في ظل كل هذه التبدلات الديموغرافية على مدى أكثر من ستة عقود.

الخلاصة:

الحالمون فقط يعطون أنفسهم أحجاماً تخالف الواقع فلا خطوط حمراء سوى ما يرسم في واشنطن، الولايات المتحدة ولا أحد سواها ستضع حدوداً يقف عندها كل طرف بعد جولة أولى حققت المطلوب بتحجيم الخطر الروسي عليها في المنطقة، وليس على اللاعبين الإقليميين سوى الامتثال، لذا لن تتجاوز خلافاتهم حدود الحرب الكلامية وتراشق التهم، في حين يستمر العمل الحقيقي بوتيرة أسرع، وتبقى زيارة مسؤولي الأفريكوم رفقة السفير الأمريكي للسراج نقطة فارقة بين مجرد ما يقال وبين ما يفعل حقيقة على الأرض.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد العزيز الوصلي
صحفي ليبي
تحميل المزيد