تشكّل منطقة خليج سرت الاستراتيجية أهمية كبيرة لطرفي الصراع المسلح في ليبيا: قوات حكومة الوفاق الوطني من جهة وقوات الجنرال خليفة حفتر المدعومة بمقاتلي شركة فاغنر الروسية بحسب تقارير دولية من جهة أخرى، مع تراجع ملحوظ في أدوار الإمارات وفرنسا والجارة مصر.
فسرت ليست فقط منطقة نفطية تحوي مطاراً عسكرياً (قاعدة القرضابية الجوية) لكنها متربعة أيضاً على وسط الساحل الليبي، بـ500 كيلومتر شرق طرابلس، والمسافة مثلها تقريباً تفصلها في الاتجاه الآخر عن بنغازي عاصمة الشرق الليبي، لذا تعد حلقة الوصل بين الشرق والغرب والجنوب، أو ما يعرف تاريخياً بالأقاليم الثلاثة: برقة وطرابلس وفزان.
كل هذه الأهمية الاستراتيجية إضافة إلى قرب المدينة من مصراتة أقل من 250 كيلومتراً باتجاه الغرب إحدى أهم معاقل مقاتلي الوفاق التي طالما حاولت قوات حفتر تهديدها بالقصف الجوي تارة وبالعمليات النوعية الأخرى تارة أخرى، كل ذلك جعل من المدينة مسرحاً للصراع بين القوتين المحليتين وداعميهما خارجياً، الأمر الذي يفسّره وبشكل جليّ التوازن في القوى بين الأطراف المتصارعة على الأرض، ما قد يسهم في إطالة عمر المعركة التي دخلت أسبوعها الثالث دون جديد يذكر، بعد توقف زحف قوات الوفاق أمام تحصينات فاغنر التي كررت سياستها في جنوب طرابلس بزراعة مكثفة للألغام، بغية عرقلة أي تقدم للقوات المُعادية لها، بحسب آمر غرفة عمليات سرت والجفرة التابعة لحكومة الوفاق الوطني إبراهيم بيت المال.
الحرب الدبلوماسية تزداد اشتعالاً
على الصعيد الدبلوماسي تواصل الولايات المتحدة التصعيد ضد ما وصفته بالأطماع الروسية في ليبيا، ما دفع مثلاً وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو إلى القول إن الوقت قد حان ليعمل جميع الليبيين وجميع الأطراف على ألا تتمكن روسيا أو أي دولة أخرى من التدخل في سيادة ليبيا من أجل أهدافها الخاصة.
تصريحات تأتي في إطار تحركات أمريكية أخرى، تهدف إلى الضغط على روسيا بسبب ما وصفه الغربيون بدعمها "الكبير لحفتر" لأغراض توسعية "خطيرة" عن طريق شركة فاغنر الأمنية وإرسال طائرات نفاثة رصدتها الأقمار الاصطناعية فوق محيط سرت.
وعلى صعيد آخر أصدر الكونغرس مشروع قانون يؤكد أن أنشطة المواطن الروسي يفغيني بريغوجين والكيانات التابعة له بما فيها فاغنر تشكل تهديداً للمصالح والأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.
ويشير القرار إلى أن مجموعة فاغنر دعمت الجنرال خليفة حفتر و(ميليشياته) من خلال توفير المرتزقة والمدفعية والدبابات والطائرات دون طيار والذخيرة، مع حضور يفغيني بريغوجين شخصياً لقاء بين حفتر ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في موسكو في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
حرب دبلوماسية تشنها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، تحاول جمع كل الأدلة التي تدين التورط الروسي في ليبيا بما فيها تقرير الأمم المتحدة الذي نشر في 6 مايو/أيار 2020، عن تشغيل مجموعة فاغنر ما يصل إلى 1200 عسكري مرتزق في ليبيا.
قرار من شأنه زيادة الضغوط الدبلوماسية على موسكو ودفعها للتراجع عن دعم حفتر، وتشجيعاً في الوقت عينه لحكومة الوفاق على المضيّ في خطتها لبسط نفوذها على سرت والجفرة، وربما الهلال النفطي شرقاً بمواصلة الدعم التركي اللامحدود، بعد جولة مشاورات بين واشنطن وأنقرة وعواصم أوروبية، على غرار روما مثلاً، التي أبدى وزير خارجيتها لويجي دي دمايو -في أحدث زياراته لأنقرة- إقراراً بدعم بلاده لتركيا في ليبيا.
هدوء ما قبل العاصفة
قياساً بسرعة الحسم العسكري الذي حققته قوات الوفاق في مدن الساحل ومناطق جنوب طرابلس وترهونة باتت معركة سرت تطرح لغزاً عن إمكانية الحسم العسكري لمصلحة حكومة السراج التي تتعرض لضغوط كبيرة كونها الطرف المهاجم وكون سرت منطقة خسرتها بعد هجوم 4 أبريل/نيسان ما يجعلها الورقة الأخيرة في يد الجنرال حفتر قبل إعلان هزيمته العسكرية بشكل رسمي.
لكن الدارس لطبيعة المنطقة الجغرافية سيدرك أن خليج سرت منطقة مفتوحة مناطقها السكنية وقراها متباعدة وبكثافة سكانية قليلة قياساً بمناطق الغرب الليبي، ما يجعل مسألة التقدم والتراجع العسكري فيها سريعة وغير مضمونة النتائج، خاصة في غياب السيطرة الكلية لمعركة الجو لكلا الطرفين، لذا فإن السيناريوهات المطروحة ستكون كالتالي:
السيناريو الأول:
نجاح الدبلوماسية التركية في تحييد الروس كما فعلت في جنوب طرابلس وانسحاب فاغنر بهدوء دون التعرض لهم إلى شرق سرت، مع تقديم ضمانات تركية لروسيا تجاه مصالح الأخيرة في ملفي إعادة الإعمار والنفط والغاز، الأمر الذي سينطبق على قاعدة الجفرة أيضاً في حال حدوثه رغم التقارير الدولية التي تحدثت عن أطماع روسية في وجود دائم قاعدة استراتيجية في ليبيا، الأمر الذي عدته الولايات المتحدة خطاً أحمر.
وهو ما يتطلب من تركيا جهداً مضاعفاً أمام تعنت روسي وعجرفة أمريكية، إذ تحاول أنقرة عدم الميل بثقلها لطرف على حساب آخر لحسابات أخرى أكثر تعقيداً لا تقل أهميتها عن أهمية الملف الليبي بالنسبة للأتراك الساعين لاسترجاع دور تاريخي فقدوه في المنطقة منذ عقود خلت.
السيناريو الثاني:
الذهاب مباشرة إلى الخيار العسكري وإعادة التنسيق بين قوات الوفاق على الأرض وغرف القيادة المشتركة مع تركيا بعد الفشل الذريع الذي تعرضت له قوات الوفاق عندما حاولت اقتحام سرت بشكل ارتجالي قبل أسابيع ما تسبب في سقوط ضحايا تجاوز عددهم 50 قتيلاً.
إعادة التنسيق قد تشهد الدفع بطائرات F16 المقاتلة للمرة الأولى في المعارك وربما المدفعية الموجهة من البوارج التركية على سواحل سرت، الأمر الذي ربما يفسّره الطلب التركي استخدام قاعدة بحرية في مصراتة لتسهيل عملية الاقتحام، التي تعد شبه مستحيلة في ظل الظروف الحالية، لاسيما بعد عمليات زرع الألغام واسعة تقوم بها فاغنر بحسب غرفة عمليات سرت التابعة لحكومة الوفاق، التي ربما ستحتاج دعماً أكبر من حلف الناتو والأفريكوم على غرار حرب الوفاق ضد تنظيم الدولة في سرت 2016.
السيناريو الثالث:
استمرار سياسة تجميد الصراع التي تتبعها موسكو وإطالة عمر المعركة للخروج بأكبر المكاسب واستغلال قوات حفتر قرب خطوط الإمداد وزيادة التحشيد للجعل من موقعة سرت معركة فاصلة وخط دفاع متقدم للرجمة والهلال النفطي، الأمر الذي سيدفع قوات الوفاق إلى محاولة تضييق الخناق على سرت والدخول في حرب استنزاف من خلال تهديد خطوط الإمداد الأمر الذي لن يكون سهلاً نظراً لقرب سرت من الهلال النفطي وبنغازي شرقاً وقاعدة الجفرة جنوباً، لكن الأمر يتطلب محاولة فرض سيطرة جوية من حكومة الوفاق الوطني مثلما سبق حرب تحرير العاصمة طرابلس وما حولها.
سيناريوهات عسكرية ثلاثة ستحدد لاحقاً شكل السيناريوهات السياسية على طاولة المفاوضات بين الطرفين طالما أن مسألة المكسب والخسارة العسكرية مازالت نسبية على الأرض بعيداً عن التسويق الإعلامي لكلا الطرفين، فحكومة الوفاق كسبت معركة الدفاع عن العاصمة طرابلس ولم تكسب بعد معركة فرض السيطرة على كامل الأرض التي من المفترض أنها تحكمها بحسب اتفاق الصخيرات.
في حين أن الجنرال خليفة حفتر الحاكم المطلق للشرق الليبي مازال يتخذ موقع المهاجم بالسيطرة على سرت والجفرة ومعظم الجنوب الليبي ويحافظ على حدوده التي اكتسبها بعد هجوم الرابع من أبريل/نيسان 2019 ما يجعل منه أو من معسكره على الأقل طرفاً قوياً في أي معادلة مقبلة إذا ما استمر الوضع الميداني على ما هو عليه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.