تنويه: مقالة بحثية مطولة
لا يختلف اثنان على أن الخلافة الداعشية قد انتهت في العراق وسوريا والتي كانت السبب الرئيسي والظاهري لاندلاع واستمرار الحروب والمعارك وعمليات القتل والتهجير والخراب وغيرها من المآسي الإنسانية التي لوَّثت البلاد وطالت العباد، ولا يتضاد رأيان بأن العراقيين كانوا يأملون خيراً في حقبة ما بعد داعش، ولكن الناس اليوم أصبحت في حيرة من أمرها، فالنصر أعلِنَ على التنظيم بنهاية 2017 مع تحرير كافة الأراضي التي كانت تحت سيطرة التنظيم في العراق، ومن الطبيعي أن تبدأ مسيرة الإعمار والازدهار.
أو على الأقل أن تخطو خطواتها الأولى، ولكننا وبعد أكثر من عامين من التحرير لم نر إعماراً أو رؤية واضحة للبناء أو خطة سنوية أو خمسية أو عشرية للازدهار، والأنكل من هذا وذاك هو استمرار الإرهاب وتمدده من جديد .
وما يزيد من شدة العراقيين على شدتهم ونكستهم ليس استمرار الإرهاب والقتل والخطف والتهجير فقط، بل هو عدم معرفة الحكومة وأجهزتها الاستخباراتية إلا النزر اليسير عن مصادر هذا الإرهاب ومنفذيه، فلسان حال الحكومة هو (التنديد) و (الاستنكار) أو (توجيه الأجهزة الأمنية)، وربط كل كارثة أو نكبة إما بداعش أو بالمؤامرات الإقليمية. أما الأجهزة الأمنية فتسارع دائماً إلى المجهول وأقصى ما يمكن أن تفعله هو رفع المواقف والوقائع، حالها حال أية فضائية نشطة تتصدر عواجلها الشاشات، أو مكاتب البريد داخل الوزارات التي لا هم لها سوى إرسال وتسلُّم الكتب الرسمية الروتينية واليومية، فبعض هذه الأجهزة الأمنية أجهزة خامدة غير منتجة، وإن لاحظت فيها نشاطاً فسيكون دائماً نشاطاً بعد الحدث ولفترة زمنية محدودة.
قد يفهم بعض السياسيين والمثقفين والأكاديميين العراقيين أن عدم تلاشي ظاهرة الإرهاب في العراق لا يعود فقط إلى استمرار وجود وتحرك عناصر مجرمة داخل البلد كداعش وأخواتها، ولكن إلى صراع المصالح والنفوذ الإقليمي فيه أيضاً، فما دام هذا الصراع موجوداً فإن لدى داعش فرصة أخرى في البروز والتوسع، أي إن الصراع والتصارع الإقليمي في العراق وما حوله لم ينشآ إلا بسبب بروز داعش. ويذهب البعض الآخر إلى أن تلك الصراعات هي التي مهدت لنشوء داعش ولولاها لما كان لهذا التنظيم من وجود، وأعتقد أن لكلا الفريقين نصيباً من الصواب والخطأ، لأن صوابهم يكمن في وجود تنظيم إرهابي مازال يعيث في الأرض فساداً. أما خطأهما فيتمثل بأسبقية السبب والنتيجة والتي دائماً ما تقود إلى الخطأ وإن بدا لكثيرين صواباً، أو قد يظهر كالصواب وإن أجمع البعض على أن فيه كثيراً من الخطأ، إنها تشبه الجدلية الأزلية فيما يخص (البيضة من الدجاجة) أم (الدجاجة من البيضة).
جدل عقيم يبني عليه كثيرون تحليلاتهم التي وصلت إلى أروقة الأجهزة الأمنية، مسببةً إرباكاً كبيراً في عقلية القادة الأمنيين الذين قد يجيدون البحث في (السياسة الأمنية) أكثر من (الإنتاج الأمني والاستخباراتي) الذي هو صلب عملهم، فلا يمكن تخيل الكيفية والقابلية التي استطاع بهما داعش العودة إلى المشهد الأمني وبسرعة فائقة وبعد هزيمة عسكرية نكراء دون أن يستطيع أي جهاز أمني أو استخباراتي أن يحيّد أو يكشف أو يتابع بجديةٍ استراتيجية التنظيم بعد 2017، فداعش قد عاد وبقوة وبعمليات نوعية وبتنفيذ يستحق التعجب، فخلال الفترة من 1 يونيو/حزيران 2019 ولغاية 8 يونيو/حزيران 2019، استطاع التنظيم ومجاميعه الإرهابية تنفيذ ما يقارب 40 عملية إرهابية مؤثرة راح ضحيتها أكثر من 60 عراقياً بين شهيد وجريح، وهذه العمليات توزَّعت في الولايات الجغرافية (سبق أن أشرنا إليها في ورقتنا البحثية "داعش: الولايات الجغرافية") كمناطق شرق وشمال شرق ديالى، وجنوب غربي كركوك، وفي جنوب وغرب وشمال غربي نينوى، وشمال الأنبار، وشمال العاصمة بغداد، ولم يستطيع أي جهاز أمني معرفة هوية الفاعلين أو إلقاء القبض عليهم.
هذا بالإضافة إلى عشرات من العمليات الإرهابية المؤثرة في مختلف المحافظات العراقية والتي لم يُستدل على فاعليها إلى يومنا هذا.
وقد قلل التنظيم من زخم عملياته الإرهابية في مطلع العام الحالي، بعد أن كان يركز على إعادة تنظيم خلاياه الإرهابية وتشكيل هيكلية جديدة تتوافق مع توزيع ولاياته الجغرافية غير الإدارية، وقد رأينا ازدياد العمليات الإرهابية وبصورة مفاجئة في نهاية شهر أبريل/نيسان ومطلع شهر مايو/أيار الماضيين، فقد نفذ التنظيم ما يقارب 168 عملية إرهابية بين 1 مايو/أيار و22 مايو/أيار، كانت فيها عمليات نوعية مؤثرة وأخرى هدفها زرع الرعب والخوف وإثارة البلبلة في بعض المناطق الآمنة، وقد شملت بعض تلك العمليات أيضاً العودة إلى العمليات المباشرة ضد الأجهزة الأمنية والقوات المتعاونة معها من الحشدين الشعبي والعشائري، وكذلك 16 عملية إرهابية استهدفت حرق المزارع والبساتين في شمال شرقي ديالى، وجنوب غربي نينوى، وغرب محافظة صلاح الدين.
وما يدفعنا إلى التساؤل حقاً والذي قد يكون مدخلاً لتحليل عام أو عصف ذهني مستقل هو: هل كل تلك العمليات من صنيعة داعش؟
لا شك في أن قدرة داعش قد ازدادت في الآونة الأخيرة بعد تطبيقه استراتيجية مغايرة عن السابق وتكيُّفه السريع مع المعطيات الميدانية وتوزيع القوى على الأرض، إلا أن بعض العمليات الإرهابية المنفذة وجنسها ونوعها قد لا تشير إلى أسلوب داعش، أو أن هذا التنظيم ليس لديه الإمكانية الحركية الفعلية والبيئة الحاضنة للوصول إلى عمق بعض الأقضية والمدن لتنفيذ عمليات نوعية فيها، وإن عدم إعلان داعش مسؤوليته عن كثير من تلك العمليات من خلال بعض أذرعه الإعلامية أو مواقع مقربة منها يزيد الأمر تعقيداً ويشير حتماً (إن سلَّمنا بالمسؤولية الكاملة لداعش عن تلك العمليات)، إلى وجود شركاء أو مسهِّلين أو مرشدين لتلك العمليات يدفعون بها إلى التصعيد في بعض المناطق دون ما سواها، ويبتغون من ورائها تحقيق مآربهم الخاصة، ولا نقصد بالشركاء هنا خلايا داعش النائمة أو المتخادمين معه؛ بل قوى ذات سيطرة ونفوذ.
العمليات الإرهابية في المدن السُّنية والمناطق المتنازع عليها
أكثر من 70% من العمليات الإرهابية العشوائية والنوعية نُفذت في المدن ذات الأكثرية السنية وكذلك بالمناطق المتنازع عليها بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وهنا لا يمكن إغفال الدور الذي يلعبه داعش في استغلال بؤر التوتر السياسي والطائفي والقومي في تلك المناطق، إلا أن انفجار 5 أو 6 عبوات ناسفة بقلب تلك المدن، أو حرق مئات الدونمات من المحاصيل الزراعية والتي تقع تحت السيطرة الكاملة لميليشيات متنفذة، تدعم المؤشرات الواردة حول تواطؤ مجاميع من تلك الميليشيات أو فئات غير مسيطر عليها مع التنظيم وبصورة غير مباشرة، من خلال فسح المجال أو تسهيل الطرق المؤدية إلى منطقة العمليات، ومن تلك المؤشرات العثور على ألبسة وشارات وأعلام داعش داخل بعض مقرات الميليشيات في بغداد والموصل وديالى في أثناء تفتيش أو إغلاق بعض تلك المقرات خلال الحملات الأمنية الشكلية التي نفذها الحشد ضد بعض فصائلها مطلع العام الحالي، وهذا ما يقودنا إلى ثلاث فرضيات حول نسبة تواطؤ بعض فصائل الحشد الشعبي مع داعش وهي كالآتي:
1.تواطؤ فئات منفلتة داخل الميليشيات مع داعش؛ لأغراض مادية أو استراتيجية غير معلنة.
2. تسخير بعض الميليشيات لمجاميع داعش بصورة غير مباشرة في المناطق المذكورة أعلاه والعكس بالعكس.
3.تنفيذ الميليشيات المسلحة (خاصةً تلك التي تربطها علاقات قوية مع إيران) لسياسة تبادل المنفعة غير المباشرة والمرحلية مع داعش.
هنالك أهداف مرغوبة مشتركة لكلا الطرفين وذات منفعة متبادلة لعدد كبير من تلك العمليات الإرهابية المنفذة في المناطق السنية أو ذات الغالبية الكردية وأهمها:
1.تهجير ما تبقى من السُّنة في تلك المناطق والاستيلاء على قراهم، حيث إن داعش يستغل مظلومية السُّنة وعمليات تهجيرهم لتأليبهم ضد الحكومة وتجنيد ما أمكن تجنيده من عناصر داخل صفوفهم.
2.ضمان عدم عودة النازحين إلى مناطقهم، بحجة عدم أهلية تلك المناطق أمنياً واستمرار حدوث العمليات الإرهابية فيها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما زالت هنالك أكثر من 1050 قرية مهجورة وخالية من سكانها في محافظات ديالى، وصلاح الدين، وكركوك، والموصل والتي لا يستطيع سكانها العودة إليها.
3.تقليل نسبة الكرد في المناطق المتنازع عليها لأغراض قومية وطائفية ولإحداث تغيير ديموغرافي تنفيذاً لإملاءات خارجية، فالميليشيات تحبذ تهجير الكرد في تلك المناطق وتطويع بقية السكان لصالحها، أما داعش فيحاول أن يوسع عملياته الإرهابية في تلك المناطق ويتمدد فيها.
نوع وشكل استراتيجية تبادل المنفعة بين داعش والميليشيات
إن سياسة تبادل المنفعة المذكورة أعلاه بين بعض الميليشيات المتنفذة وتنظيم الخلافة (داعش)، هي تبادل متقارب جداً بين الجانبين وإن كان غير مباشر، فكلا الطرفين يعي هدف الآخر في مناطق محددة دون ما سواها، أي إن هذه السياسة الوقتية تطبَّق في بعض المحافظات والمدن بحد ذاتها. فهي تطبَّق مثلاً في كركوك وديالى ونينوى وصلاح الدين، ولا توجد لها مؤشرات في بغداد أو بابل أو بقية المحافظات.
ولنأخذ مثالين اثنين قد يوضحان شكل ونوع هذه الاستراتيجية:
1.محافظة ديالى: قضاء خانقين: كانت مدينة خانقين إحدى أكثر المناطق أماناً في العراق ولم يصل إليها غزو داعش، على الرغم من سقوط بعض نواحيها الإدارية (جلولاء والسعدية)، وبعد تحرير هاتين الناحيتين أحكمت فصائل من الحشد الشعبي قبضتها على القضاء برمته، خاصة بعد أن استغلت نتائج الاستفتاء الكردي ودخلت إلى مدينة خانقين ذات الغالبية الكردية، وما إن استوطن الحشد هذه المدينة حتى بدأت العمليات الإرهابية بالظهور والتزايد، ولم تستطيع فصائل الحشد منذ ذاك الوقت وحتى يومنا هذا، تفكيك شبكة إرهابية واحدة داخل المدينة، والسبب هو عدم وجود خلايا داعشية منظَّمة ومتكاملة ولها قابلية كافية للتحرك والهجوم والاختفاء في مجتمع مدينة خانقين، وهنا لا يمكن النفي أو التقليل من الخلايا النائمة في المدينة أعلاه والتي كان لها دور في عمليات إرهابية نوعية بالسابق حتى إبان سيطرة قوات حرس الإقليم على المدينة، إلا أن تلك العمليات كانت عمليات شبه سنوية والمدينة لم تكن ضمن دائرة المدن الساخنة ولم تكن للتنظيم حاضنة قوية كتلك الحواضن التي كانت تساندها في المدن الأخرى كالسعدية وجلولاء وبعقوبة وغيرها من مدن المحافظة، فمدينة خانقين باتت اليوم من المناطق الساخنة التي تشهد عمليات إرهابية مستمرة.
تنتشر فصائل الحشد الشعبي في عديد من مدن ومناطق القضاء أعلاه، ويمكن تمثيل خارطة توزيع مقراتها الرئيسية وحسب الفصائل الأكثر قوة ونفوذاً كالآتي:
أ.قوات منظمة بدر (اللواء 110): وتنتشر بصورة رئيسية في وسط وشرق مدينة خانقين وشمالها وغربها وفي مدينتي جلولاء والسعدية، تليها عصائب أهل الحق التي لديها وجود في المدن أعلاه أيضاً.
ب.سرايا عاشوراء (اللواء الثامن): والتي استُقدمت مؤخراً من جنوب المقدادية وتوجهت بعض مجاميعها إلى إمام ويس ونقاط الاتصال الإدارية بين ناحيتي جلولاء والسعدية ومجمع حمرين.
تشير المعلومات الاستخباراتية إلى وجود تحركات مستمرة لمجاميع إرهابية تابعة لتنظيم داعش ضمن مناطق حوض حمرين وتتخذها كقواعد للانطلاق نحو القرى والمناطق الغربية والشمالية الغربية لمدينة خانقين، وهذه المجاميع تتحرك وتتنقل وتعبر عديداً من المناطق والقرى الواقعة تحت السيطرة الكاملة للحشد والجيش والشرطة العراقية وبكل سهولة وأريحية، وطبقاً لهذه المعلومات، فإن عناصر التنظيم تسلك عديداً من المسارات والطرق للتنقل والتقرب من المناطق المستهدفة، إلا أن أهم هذه المسارات الميدانية هي:
أ.التحرك من سلسلة جبال حمرين شرقاً باتجاه قرى منطقة الطبج الواقعة شمال غربي ناحية جلولاء، ثم التوجه نحو نهر ديالى وعبوره إلى المناطق الغربية والشمالية الغربية لمدينة خانقين قرب جسر حلوان؛ ومن ثم التوغل باتجاه القرى الغربية وحتى الجنوبية الغربية لتنفيذ عمليات إرهابية فيها، وكل تلك المناطق والقرى تحت السيطرة الفعلية لبعض فصائل الحشد الشعبي.
ب.التحرك من سلسلة جبال حمرين باتجاه قرى غرب قرة تبة ومنها جنوبها (شمال حوض حمرين)؛ ومن ثم إلى شمال ناحية جلولاء ومن ثم إلى قرى غرب خانقين.
ج.استغلال بعض قرى غرب قرة تبه ومناطقها النائية كمناطق (صعيو)، (شمانة) و(عين ليلة) كنقاط التقاء وتوجُّه نحو بقية القرى في ناحيتي جلولاء والسعدية عبر طرق نيسمية، وقد تزداد هذه التحركات مع انخفاض مستوى مياه بحيرة حمرين في فصل الصيف.
د.هنالك خطوط تحرك لوجيستية في بعض مناطق حوض حمرين أكثر من كونها مقتربات تكتيكية نحو أهداف معينة، ونخص بالذكر تحرك المجاميع الإرهابية من قرى أقصى غربي قرة تبه أو شرق جبال حمرين باتجاه منطقة طبج؛ ومن ثم إلى شمال غربي السعدية وجنوبها، والتوجه إلى هضاب منطقة إمام ويس، ومنها إلى قرى منطقة الندا (التابعة لمندلي) جنوباً أو التوجه نحو المضافات المتنقلة في شمال تلك المناطق.
2.محافظة كركوك: وتنتشر في هذه المحافظة عديد من فصائل الحشد الشعبي التي تتمركز في مركزها ومناطقها الجنوبية والغربية أيضاً وهي كالآتي:
أ. قوات منظمة بدر (اللواء 16) وتتمركز في وسط كركوك وبعض مناطقها الغربية والجنوبية مثل (ليلان) و(البشير)، وكذلك تنتشر في أقضية ونواحي الحويجة والرياض والعباسي.
ب.قوات الشهيد الصدر (اللواء 15) وتنتشر في مناطق جنوب غربي ملا عبدالله والطرق الرئيسية المؤدية إلى قضاء الحويجة، ويشاركها في الانتشار ضمن المناطق أعلاه كل من اللواء 11 (علي الأكبر)، وكتائب الإمام علي (اللواء 40)، وكتائب (تيار الرسالي–اللواء 31) المنتشرة جنوب مدينة العباسي وباتجاه جبال مكحول.
ومع وجود مقرات ومفارز ودوريات ثابتة ومتحركة يكون من الصعب لعناصر داعش التحرك والتنقل والتوجه إلى وسط وأطراف المدن الرئيسية في المحافظة، وتنفيذ عمليات إرهابية نوعية ومؤثرة للغاية إلا في حالة وجود تواطؤ أو استراتيجية غير معلنة لهذه القوات، تفسح المجال بموجبها للمجاميع الإرهابية وتغض البصر عن تحركاتها التي تفضي إلى تنفيذ عمليات إرهابية بين الحين والآخر ترضي كلا الطرفين ولا تخرجهما عن الخطوط العامة لتلك الاستراتيجية الخفية، ولا يخفى على المراقبين والمحللين الاستخباراتيين أن قواعد انطلاق داعش هي على الأغلب من جبال مكحول الوعرة باتجاه جنوب الحويجة ومنها إلى غرب كركوك ومركزها، ولا يخفى على أحد أيضاً حجم وقوة فصائل الحشد الشعبي في تلك المناطق، فضلاً عن وحدات الجيش والشرطة العراقيين.
حرائق الغلة والمحاصيل الزراعية
تحدث الحرائق بمختلف أشكالها بين الفينة والأخرى في كافة بلدان العالم النامية منها والمتطورة، وقد تحدث هذه الحرائق لأسباب شتى منها مفتعلة (جنائية) أو تحدث عن عمد أو بالإهمال وعدم تتبع وصايا وإرشادات السلامة العامة، أو قد تحدث بسبب عوامل طبيعية كارتفاع في درجات الحرارة، خاصة في أيام الصيف.
ومهما اختلفت المسببات أو تنوعت الطرائق فإن الدولة لا يمكن أن تدع مثل هذه الحوادث تمر مرور الكرام دون إجراء تحقيق مهني شامل؛ للوقوف على الأسباب وإيجاد الحلول لعدم تكرار حدوثها مرة أخرى، ويزداد الأمر سوءاً عند حدوث حرائق مبرمجة ومنظمة وبتوقيتات حساسة وضمن مناطق ساخنة أمنياً أو متوترة سياسياً واجتماعياً، وهو ما نراه يحدث ويتكرر بشكل شبه أسبوعي في العراق، فالحرائق بالعراق ما زالت مستمرة وداعش أعلن مسؤوليته عن بعضها، والحكومة متمسكة برأيها حول أن النسبة الأكبر منها نشأت بفعل تماس كهربائي، والطامة الكبرى هي عدم توصل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية إلى الجناة أو تقديمهم للعدالة.
في عام 2019 بلغت عمليات حرق محاصيل الحنطة والشعير بالإضافة إلى بعض البساتين في العراق أكثر من 272 عملية حرق وتخريب متعمّد حتى يوم كتابة هذا المقال، وكما أسلفنا فقد أعلن داعش عبر إحدى أذرعه الإعلامية وهي صحيفة النبأ العدد 183 في 23 مايو/أيار، عن مسؤوليته عن 14 عملية إرهابية فقط، حيث إن عدد الحرائق بلغ حوالي 236 عملية للفترة الواقعة بين تاريخ 8 مايو/أيار 2019 و4 يونيو/حزيران 2019، وذلك وفق المواقف الرسمية الصادرة من وزارات الداخلية والزراعة والبيئة والظاهر في الجدول الآتي:
والمضحك والمبكي معاً هو نشر مديرية الدفاع المدني العراقي بياناً في 9 يونيو/حزيران 2019، وشرحها لأسباب الحرائق التي بلغ عددها 272 حريقاً حتى 8 سبتمبر/أيلول 2019، حيث أعلنت أن أسباب الحوادث كانت 74 حادث عطب أسلاك كهربائية، و35 حادثاً متعمداً، 25 حادث شرارة نار من الحاصدة، و22 حادثاً بسبب رمي أعقاب سجائر مشتعلة، و32 حادثاً مصدرها نار خارجية، و84 حادثاً لم تحدد من قبل الأدلة الجنائية.
وعلى أية حال فإن المراقبين الأمنيين والمحللين السياسيين لا يتفقون مع ما جاء في البيان أعلاه، الذي يحاول استبعاد فكرة عمليات إرهابية منظمة ومنتظمة مسؤولة عن الكثير من تلك الحرائق، والتي تصبُّ في صالح أجندات جيوسياسية واقتصادية إقليمية، تديرها "ميليشيات متنفذة".
وبتحليل الجدول أعلاه يتضح لنا جلياً ما يلي:
1. حصة الأسد كانت من نصيب المحافظات والمناطق التي حدثت فيها الحرائق، ذات الغالبية السنية
والكردية، والمتمثلة بمحافظات نينوى (44 عملية)، وصلاح الدين (86 عملية)، وكركوك (42 عملية)،
وديالى (27 عملية).
2. أن نسبة كبيرة من تلك الحرائق حدثت في المناطق المتنازع عليها، أو في المدن والبلدات المتخامة لها.
3. عدد عمليات الحرق والتخريب التي طالت بعض المحافظات الجنوبية كانت أقل بكثير من مثيلاتها في المحافظات السنية والكردية.
4. إجمالي عدد العمليات الإرهابية التي طالت البساتين ومحاصيل الحنطة والشعير في محافظات بغداد وجنوب العراق مجتمعة تتساوى مع عدد عمليات الحرق في محافظة سنية- كردية (فيها مناطق متنازع عليها)، ألا وهي محافظة ديالى، والتي بلغت (27) عملية حرق خلال تلك الفترة، علماً أن العديد من عمليات الحرق في جنوب العراق هي عبارة عن حوادث تتعلق بالسلامة العامة، أو عدم تحصين الحقول، أو حتى الثارات أو المشاكل العشائرية التي ارتفعت وبشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة.
5. لم تتم الإشارة إلى المدن والمناطق المستهدفة في الجدول أعلاه، بل تمت الإشارة إلى المحافظات بدلاً منها، فالإشارة إلى المدن والمناطق المستهدفة كانت ستوضح الفئات المستهدفة، وتبين دوافع وأسباب الاستهداف، وتأثيرها على الأوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية في تلك المناطق.
لا يمكننا تبرئة الميليشيات من الحوادث الإرهابية التي طالت بعضاً من المحافظات العراقية، ولا يمكن أن ننسب كافة العمليات الإرهابية ومنها حرق المحاصيل الزراعية إلى داعش وحده، وإن أعلن بنفسه عن بعض تلك العمليات، فكلا الفصيلين متورط في الأمر تورطاً تدعمه مؤشرات استخبارية محدثة.
أما في العام الحالي فقد بلغت العمليات الإرهابية التي استهدفت المحاصيل الزراعية والبساتين أكثر من 88 عملية إرهابية، لم يُعلن داعش مسؤوليته إلا عن 16 منها، وقد توزعت على ما يقارب 9 محافظات عراقية للفترة القصيرة الواقعة بين 21/ 4/ 2020 وحتى 14/ 5/ 2020.
ومن الجدول أعلاه يتبين أن أكثر المحافظات المتضررة هي ديالى، واسط، صلاح الدين، وكركوك، ويُرجح تزايُد هذا العدد خلال الأشهر القليلة القادمة، حيث إن الأعداد المذكورة لعام 2020 هي لـ24 يوماً فقط.
ما يبدأ به داعش.. تكملة الميليشيات
لا شك أن لداعش نصيباً من العمليات الإرهابية في العراق، وإن كان يتفاخر دائماً بتنفيذها وبمسؤوليته عن تلك العمليات، إلا أنه تبقى نسبة غير قليلة من العمليات الإرهابية في المناطق المتنازع عليها والمدن السنية لا صلة لتنظيم داعش بها، فنوع العمليات الإرهابية يشير وبصورة واضحة لا لبس فيها إلى اضطلاع بعض الميليشيات المتنفذة فيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر عمليات الخطف والقتل واستهداف أعضاء من الحزب الديمقراطي الكردستاني تحديداً، في ديالى وكركوك، دون بقية الأحزاب، كانت عبارة عن رسائل انتقامية للحزب المذكور آنفاً، بعد استفتاء الإقليم على الانفصال عام 2017، فداعش لم يعلن مسؤوليته عن أي من تلك العمليات في وقتها، والتحقيقات أثبتتها ضد عناصر مجهولة.
ولا يستطيع أحد أن يجزم جزماً قاطعاً حول هوية الجهة المنفذة لعمليات حرق المحاصيل الزراعية غير تلك التي أعلن داعش عن مسؤوليته عنها، والتي لا تتجاوز 7% من مجموع تلك العمليات، إلا أن المؤشرات الاستخبارية والمناطق المستهدفة وتوقيت ونوع العمليات نفسها تؤكد تورط بعض الميليشيات في تلك الحوادث، ومن أهم تلك المؤشرات:
1. استخدام بعض الميليشيات (عصائب أهل الحق، وقوات وعد الله، وشباب الرسالة، وسرايا أنصار العقيدة) لزيّ داعش في تسيير بعض دورياتها الليلية في المناطق المتنازع عليها، أو القريبة، في كل من أقضية غرب كركوك ونينوى، وبعض نواحي قضاء خانقين، بحجة عمل كمائن لداعش.
2. استهداف السنة والكرد في أغلب تلك العمليات الإرهابية، في حين أن استهداف الشيعة وقواتها القتالية تعتبر أولوية قصوى لدى داعش.
3. العثور على أزياء وأعلام داعش في مقرات بعض الميليشيات، والعثور على بزات عسكرية وهويات تابعة لبعض الميليشيات في مضافات داعش، التي تم تدميرها من قِبل الجيش العراقي.
4. عمليات حرق المحاصيل الزراعية هي وليدة الفكر الداعشي، والذي قد يستهدف بعض المزارعين أو العشائر التي ساندت الأجهزة الأمنية، إلا أن تزايد عدد تلك العمليات التخريبية جاء كتكملة لما بدأ به داعش، وتهدف إلى تفريغ تلك المناطق من قوميات وطوائف بعينها، خدمة لاستراتيجية بعيدة المدى، وموجهة كلّ الشكوك حول مجاميع داعش الإرهابية، وقد حدثت أغلب تلك العمليات في مناطق تقع تحت سيطرة الميليشيات المتنفذة.
5. العمليات الإرهابية المنفذة مؤخراً في شمال شرق ديالى تهدف إلى توسيع الحزام الأمني أو المنطقة الآمنة التي أسستها إيران عام 2016، بمساعدة قيادات سياسية وعشائرية وأمنية عراقية في ديالى، لحماية حدودها ومصالحها، وهذه المنطقة تبدأ من الحدود العراقية الشرقية، وبعمق 40 كلم، لتصل إلى مشارف مدينة المقدادية العراقية، وحيث إن هذا التوسع اتجه عام 2017 نحو قضاء خانقين، ويقارب الاكتمال فيها، ولا يمكن تنفيذها إلا بتفريغ المنطقة من عناصر المقاومة والمعارضة لمثل تلك السياسات، أو على الأقل تذليلهم أو إضعافهم.
إن بعض الميليشيات المتنفذة في المحافظات والمدن والقرى العراقية المستهدفة بدأت تمهد الطرق والسبل الكفيلة لتفعيل تحركات داعش في المحافظات أعلاه، كل ذلك لكي يقوم التنظيم بتنفيذ عمليات إرهابية متكررة في مناطق لا يستطيع الوصول إليها إلا ببالغ الصعوبة، فنوع وجنس هذه العمليات الإرهابية والجهة المستهدفة بها تصب في صالح داعش وتلك الميليشيات أيضاً، وقد يدرك كلا الطرفين هذا الأمر قليلاً أو كثيراً.
فهنالك تبادل للمنفعة في الوقت الراهن بين الجانبين، وهو مبني على قراءة دقيقة، يقوم به كل طرف لاستراتيجية الطرف الآخر، فكلا الطرفين يحصل على ما يريد، فداعش بات لديه منطقة عملياتية مؤثرة في تلك المناطق، دون وجود عائق حقيقي من القوى المتنفذة على الأرض، أما الميليشيات المتنفذة فتسير بخطى ثابتة نحو تحقيق مآربها ونواياها، مسخّرةً غيرها لتنفيذ عمليات إرهابية، والتي تخدم تواجدها ونفوذها وديمومتها، ودون أن تورط عناصرها بصورة مباشرة في تلك العمليات، أو أن يُشار إليهم بأصابع الاتهام.
قد لا تحبذ القيادات الرئيسية لداعش سياسة تبادل المنفعة هذه، لأنها لا تتماشى مع فقه التنظيم ولا حتى مع سياسة التوحش التي قد تبيح أي وسيلة إلى التمكين، إلا أنني أعتقد أن توجه بعض القيادات الداعشية في بعض الولايات الجغرافية لمثل هذه الاستراتيجية جاء بعد فقدان التنظيم لمركزية القرار الميداني والعملياتي في الولايات الجغرافية، نتيجة للانهيار العسكري بعد عام 2017، والتي تخول للقيادات الإرهابية الميدانية تنفيذ الاستراتيجية العامة للتنظيم وفق المعطيات والإمكانيات الخاصة بالولاية الجغرافية المعنية، والتي قد تختلف عن غيرها من الولايات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.