معارك وهمية مقدسة.. من أحيا صراع الهُوية بين العرب والأمازيغ في الجزائر من جديد؟

عدد القراءات
4,378
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/17 الساعة 09:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/17 الساعة 09:41 بتوقيت غرينتش
نخب تكرّس خطاب الكراهية ببوق الأيديولوجية خارج سياق المواطنة

 تعيش الجزائر والمنطقة المغاربية نقاشاً محتدماً حول الأمازيغية، يكاد يكون نقاشاً في زفة الطرشان، بلغ في بعض أطواره عتبات الكراهية وتجاوز الخطوط الحمر واضعاً تماسك جبهاتها الاجتماعية على المحكّ الصعب، جراء التراشق اللفظي وتبادل عبارات المعايرة والحط من قيمة الآخر، باستخدام قوالب تصفية أيديولوجية تدلل كما لو أن تلك المجتمعات عاشت علاقات جوار زائف، لا علاقات شراكة حقيقية دأبت على مدار قرون طويلة في صهرها داخل وعاء حضاري مشترك.

الحراك ومشهد المواجهة المباشرة بعد سقوط بوتفليقة

إلى وقت قريب كان ثمة نوع من القبول الحذر بين التيارين المتعارضين لا يُوحي البتة بوجود شباك أيديولوجي خطر، فقد مرّت سنوات على ترسيم اللغة الأمازيغية لغة رسمية توجت مسار مصالحة كبرى مع الذات المتعددة، بدأت مع دسترة اللغة وفسح المجال لتعليمها في المدارس، ثم بإنشاء المحافظة السامية للأمازيغية والمجمع اللغوي الخاص بها، ضمن مسار حثيث لجأت فيه "نخبة السلطة" المشكلة من كوادر إدارية وعسكرية إلى عملية الهروب إلى الأمازيغية بدل الهروب منها، في سعي لاحتواء الموضوع صوناً لتوازن الأمة بدل تحوله بفعل ظهور الفكر والحركات الانفصالية -"الماك" في منطقة القبائل، "الماش" في منطقة الأوراس، "الماز" في منطقة وادي ميزاب- إلى بلقنة عرقية تتغذى من الإقصاء والتهميش النفسي واللغوي، مستفيدة من خطايا الستينيات التي حاولت بناء دولة بمنهج أيديولوجي واحد موحد، دون أن تفلح في بناء مجتمع أمة، انطلاقاً من واقع متعدد سبق ميلاد الثورة ودولة الثورة بآلاف السنين.

فما الذي حدث كي تبعث أغوال الكراهية المقيدة من قماقمها؟

ثمة أمر فارق حدث يوم 22 فبراير/شباط 2019 بميلاد الحراك الوطني المناوئ لعهدة رئاسية خامسة لبوتفليقة، والذي نجح عملياً في الإطاحة بالواجهة السياسية للرئيس المستقيل، خلف ذلك السقوط الرمزي للسلطة مواجهة واسعة النطاق لعلها المواجهة الأولى بعد الاستقلال، حيث غاب الهيكل الضامن للاستقرار، حتى ظن كل طرف من العرب والأمازيغ أنه يحق له رسم المستقبل بمعالم الطائفة أو خطه بمعالم الأيديولوجيا، وكلا الرأيين موغل في الهذيان الفكري و"الفونطازم السياسي"، ذلك أن بناء الدولة الأمة يقتضي بالضرورة عقداً اجتماعياً جديداً، لا يمكن صياغته بالقوالب الأيديولوجية القديمة، تماماً مثلما يستحيل بناء قارب جديد بأخشاب عتيقة، كما يقتضي التفكير بمنطق الدولة مثلما فعلت "نخبة السلطة" لا بمنطق الأيديولوجيا كما تفعل بعض النخب العروبية، الناكرة لشيء اسمه اللغة الأمازيغية، ولا بالمنطق الإثني كما تفعل النخب بعض الأمازيغية المناوئة للوجود العربي، والطرفان معاً متأخران فكرياً وزمنياً عن الدستور الذي ينصّ منذ سنة 2004 على أنهما لغتان وطنيتان، ورسميتان منذ عام 2014.

المشهد المفارق: نخبة في خدمة أجندة العنصرية والكراهية 

ساهمت النخب المتخندقة في كلا المعسكرين في تغذية الاشتباك العرقي بطريقة سوقية مبتذلة لا تمتّ لعالم الأفكار بشيء، ذلك أن تلك النخب ولأسباب سياسية ولغوية، دأبتا على نبذ الآخر تارةً بافتعال حرب ضد اللغة العربية والدين   بطريقة غير مدروسة بالنسب لبعض النخبة الأمازيغية الفرنكوفونية، وتارة أخرى بنفي البعد الأمازيغي مثلما تمارس ذلك بعض النخبة العروبية، ويكرّس الطرفان نزعة انغلاق أيديولوجي صرف ومدمر يقترب في بعض مفاهيمه من الرغبة في شطب الآخر أو الهيمنة عليه، وهما يعكسان معاً تخلفاً أكاديمياً لعله أحد سمات "الأنتلجانسيا" الجزائرية التي تميعت بنيتها خلال سنوات الاستقلال بفعل الفكر الاشتراكي والأحادية السياسية التي أنتجت أحادية فكرية قريبة من عمى الألوان.

وهي وإن انتعشت قليلاً بعد أحداث أكتوبر/تشرين الأول 1988 وطرحت عبر الحقوقيين والصحفيين والجامعيين، نقاشات متقدمة حول حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بيد أنها شهدت خلال عقدين من حكم بوتفليقة تحطيماً كلياً، تحولت فيه إلى ملحقة للسلطة أو مناوئة لها بقانون الصمت، قبل أن يتحول بعضها في مشهد الصراع اللغوي إلى نافخي كير في أفران الحقد وطمس الآخر وسدنة حقيقيين في محارق التطرف والعنصرية محوّلين بذلك منسوب الكراهية الخام الذي يترامى في هوامش المجتمع إلى "مؤسسة كراهية" توظف الإعلاميين والشعراء والجامعيين، المنخرطين في هوس تحطيم الرموز الوطنية بمعاول أيديولوجية -ابن باديس، الأمير عبدالقادر، مصطفى بن بولعيد العقيد عميروش- كما لو أن تلك النخب التي عجزت عن بناء "مصير مشترك" عادت القهقرى لتنهش "التاريخ المشترك"، كاشفة الإفلاس الفكري والذهني في بناء أمة مجتمع للفرد وللجميع.

الحل التاريخي: لا نقاش سياسياً وهوياتياً خارج مبدأ المواطنة

تلك النخب الفقيرة في مفاهيم العصرنة والحداثة باتت أخطر ما يواجه المجتمع، فهي لا تقدم حلولاً جامعة من قبيل تلك الأفكار بسيطة المبنى كبيرة المعنى التي أسست للأمم العظيمة، مثل التعايش، قبول الآخر، الاستئناس بالاختلاف، نبذ العنصرية على أساس العرق واللون والدين، الديمقراطية كحل للاختلاف بدل إدارة المساواة. ولعل الأزمة المحتدة كانت وستظل وليدة غياب هذه المفاهيم في التعليم المدرسي وعبر المنبر الإعلامي والمدرج الجامعي، ذلك أنها تناقش الموضوعات السياسية وفقاً لتصورات عرقية ودينية وأيديولوجية، دون مناقشتها في إطارها الشرعي الحداثي من خلال مفهوم "المواطنة".

يذهب الجزائريون في خضم ما يُسمى بناء المشروع الديمقراطي المتراوح في مكانه منذ 5 أكتوبر 1988، يومياً إلى معارك وهمية مقدسة، عنوانها رفض الآخر مهما كان، بدوافع أيديولوجية محضة متناسين أن تعريف الأيديولوجيا -حسب روجي غارودي- هي نظير "الوهم"، ودونما استفادة من تجربتهم القريبة خلال العشرية الحمراء أو السوداء، ودونما الالتفاف إلى تجارب مجتمعات شبيهة بها مثل التجربة اللبنانية التي انتهت باتفاق الطائف لمّا قال وليد جنبلاط كلمته الشهيرة: "وصلنا إلى الوفاق عندما أيقنت كل طائفة استحالة اجتثاث الآخرين". فهل وجب الآن قبل أي وقت مضى أن تبرز نخبة ثالثة مجاورة لنخبة السلطة، لتعيد النقاش إلى سياق المواطنة، المسار الوحيد والآمن لنقاشات الهوية والسياسة في المجتمعات المتعددة ثقافياً ولغوياً ومذهبياً، والمحكومة بضرورة إدارة التنوع وتسيير الشراكة وليس بفرض الإلغاء وكل أشكال التميز وديكتاتورية الهيمنة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد