أنا وعائلتي كلها أُصبنا بكورونا في مصر.. هل سننتصر عليه؟

عدد القراءات
4,291
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/17 الساعة 13:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/17 الساعة 13:07 بتوقيت غرينتش

أكتب هذا المقال وأنا على يقين أن المولى عز وجل سينجينا من هذه الجائحة، جائحة كوفيد-19، هذا الڤيروس اللعين من عائلة ڤيروسات كورونا، الذي لا يُرى بالعين المجردة، أصاب عائلتي بأكملها، ودخل بيتنا، فعندما يصاب شخص واحد في العائلة فاحتمالية إصابة باقي أفراد العائلة شيء مؤكد ووراد بالتبعية، ورغم أنه لم يخطر ببالي ولو للحظات أن كورونا قادر على اقتحام بيتنا، لكن سبحانك ربي، لك في ذلك حكم، فأنت القادر على كل شيء ومدبر الأمور، ومسبب الأسباب، وأنت على كل شيء قدير.

أكتُب هذا المقال وما زال أبي وأمي يعانيان، مازال هذا الڤيروس الحقير ينهش في جسديهما الطاهرين، لكني سأتحداه وأوثق رحلتنا مع المرض، أو رحلتنا مع كورونا المستجد، الذي هو بالمناسبة ليس عيباً على الإطلاق أو شيئاً يدعو للخجل، بالعكس تماماً -أنت المختار- فالله اصطفاك وابتلاك بهذا الوباء، لأنه يحبك، ليختبرك، ليكفر عن ذنولك، ليكشف لك الجميع، ويُسقط لك الأقنعة من حولك، ليجعلك تشعر بنعمة العادي، وبنعمة الحياة الروتينية الخالية من الآهات والأوجاع، فتشكر الله على جميع نعمه عليك، والتي تغافلت عنها بالاعتياد عليها، وجعلتها حقاً مكتسباً، وأخيراً ليعطيك فرصة جديدة للحياة كي تعيشها بمنظور آخر يقربك لِجَنّة الفردوس، ولحقيقة الدنيا، وحجم الإنسان فيها، وقدرة الله التي عمت كل شيء.

أكتب هذا المقال ليقيني أننا جميعا كأسرة، سواء المصاب فينا فعلياً أو المخالط، أو مخالط المخالط، سنتعافى بقدرة الله ومشيئته، سنتذكر هذه الأيام الصعبة التي عشناها، وستمضي الأيام، وسنعود لحياتنا الطبيعية كما كنا كاملي العدد، أو ربما زائدين، وسيبقى شهر يونيو/حزيران 2020، محفوراً في الذاكرة، بكل ما فيه من معاناة وقلق وخوف، وبفرحة الانتصار على الڤيروس.

الحكاية بدأت عندما تحوّلت حياتنا وبيتنا الكبير لمستشفى ميداني، لصيدلية متنقلة، لغرف حجر، وشقق عزل.

الحكاية بدأت عندما أدركنا الفرق بين العزل والحجر، وأصبحنا نترحم على أيام الحجر بدون عزل، أيام صلاة الجماعة خلف الإمام الأب، أيام الأكلات اللذيذة من يد "ست الحبايب".

 الحكاية بدأت عندما أخذنا قرار الانفصال أو العزل ونحن في نفس البيت، أصبحنا فرادى، ذو الحالة الشديدة يقيم في شقة منفصلة، أصحاب الحالات البسيطة حيث الأعراض التي لم تتضاعف في غرف منفصلة، لم تجمعنا سفرة واحدة كما هو المعتاد، منعنا القبلات والأحضان، حتى امتنعنا عن رؤية أصغر كائن في أسرتنا، وأول حفيدة في بيت الشنواني "جود"، كانت المؤنس والمسلي والمفرح في حياتنا أيام الحجر، إلى أن حدث ما حدث وامتنعنا جميعاً عن رؤيتها، نسمع صوتها ويكأنها تغرّد مرددة أسماءنا من خلف الجدران، تنظر إلينا من بعيد نظرة عتاب واستغراب، متسائلة: ما الذي حدث كي تبتعدوا عني  بهذه الطريقة، ولماذا كل هذا الوقت؟ 

الحكاية بدأت عندنا أصبحنا جزءاً من التقرير اليومي الخاص بوزارة الصحة، ولكن ليس بشكل رسمي، فلم نجر مسحات خوفاً من دخول مستشفى عزل، ولم نلقى الرعاية المطلوبة بها، هذا بالإضافة إلى أننا بحمد الله وكرمه كانت حالاتنا لا تحتاج لمستشفى حتى الآن "وإن شاء الله تكتمل على خير"، بل لعزل منزلي، فقمنا بذلك، ومنذ ذلك الوقت لم نتابع التقرير الذي كنا نحرص جميعاً على معرفته، وذلك بعد أن أصبحنا جزءاً منه، لأننا تأكدنا أننا وكثيرين مصابون بدون علم الدولة المصرية، التي بكل أسف لم تعِ خطورة دخولنا مرحلة الانتشار، وبدأت تفكر في عودة الحياة الطبيعية، وأخطرها امتحانات الثانوية العامة، ولم تفرض حظراً شاملاً قط، حتى في الموسم الرمضاني وعيد الفطر، لم نلحظ أن تشديدات من الدولة، لاسيما زيادة عدد ساعات الحظر فقط، بدون عقوبات شديدة على المخالفين، فكانت النتيجة النزول لشراء ملابس العيد، ومن ثم خرق ساعات الحظر من أجل المعايدة على الأقارب، لنحصد بعد العيد أرقاماً وأعداداً بالآلاف، وربما عشرات الآلاف من المصابين بكورونا المستجد غير مسجلين بالتقرير اليومي الخاص بوزارة الصحة والسكان. 

الحكاية بدأت بتعب بسيط لشقيقي الأكبر في أول أيام عيد الفطر، ثم تطور، ولكن بشكل بسيط أيضاً، تعب عام، تكسير في الجسم، سخونية لم تستمر لأسبوع متواصل، ثم هدوء واستقرار في الحالة وتعافيها، ليلحق الأب ويبدأ رحلته مع ارتفاع درجة الحرارة، والتي استمرت قرابة الخمسة أيام متواصلة بدون سعال، لينتابنا الشك، فقمنا بإجراء تحليل CBC بالدم، لنكتشف أن الدم يهاجم فيروس ما، فقمنا بإجراء أشعة صدر للاطمئنان أكثر عليه وعلى أمي أيضاً، لأنها بالتزامن مع تعب الوالد بدأت عليها أعراض السعال الجاف، لتظهر نتيجة الأشعة ونكتشف التهاباً رئوياً بسيطاً للأب، أما الأم فكانت سليمة بفضل الله، وقبل هذا الوقت بثلاثة أيام فقدتُ أنا حاستَي الشم والتذوق، وشعرت بالسخونية لمدة يوم واحد فقط، وأمي كانت هي الممرضة لوالدي، ثم لي، مع استمرار السعال معها، فهي نبع العطاء الذي لا يكل ولا يمل، وبعدها بأيام تصاب شقيقتي الصغرى بجفاف في الحلق وسعال بسيط لم يدُم طويلاً، لنتأكد بشكل قطعي أن ڤيروس كورونا تمكن من بيتنا، وأنه جاء ضيفاً، سيكون خفيفاً علينا بمشيئة الله، وسنحاول معاً التخلص منه وطرده من منزلنا المصون.

وبدأت رحلتنا مع العلاج، وتبدّلت الأدوار، وتقاسمناها فيما بيننا كإخوة بعد تعب الأم، والتأكد من إصابتها بالڤيروس وعدم قدرتها على استكمال تمريض والدي، فقمنا به نحن الأشقاء الثلاثة، مع العلم أننا "أربعة" بتقسيم دور أمي علينا، بعد أن كانت تمرض والدي وتمرضني وتقوم بتجهيز الطعام وغيرها من أمور المنزل، تعبت الأم ومكثت في السرير، مشاركة الأب نفس التعب ونفس الآلام ونفس الأوجاع، لكن بأعراض مختلفة، ويكأنها الرومانسية بشكل آخر، بشكل مختلف، الرومانسية في أنقى صورها، رومانسية المشاركة في كل شيء حتى الأوجاع.

وبسبب رحمة الله بنا، وفضله علينا، وتدبيره، كانت الأدوار مرتبة، كل حسب طاقته وقدرته، وحبه الدافع الأول والأخير في بذل أقصى ما في وسعه كي تعود الأدوار لأصحابها، كي ننعم ببركة الأب والأم معاً في البيت، أو بالأدق معاً في شقة واحدة، كي نتشاور ونتعارك ونتناقش في أمور الحياة مثلما كنا نفعل، كي تجمعنا معاً سفرة واحدة مرة أخرى بها ما لذ وطاب من يد "ست الحبايب".

 يبقى شقيقي الأصغر، الذي لم يتقاسم معنا الأدوار والمهام، لأنه كان بعيداً عنا، كان يخدم الوطن، والمكان الذي كان فيه ظهرت به حالتان إيجابيتان، فهو مخالط حين إذن، رغم أنه بعيد عنا، ليعيش معنا نفس الإحساس، إحساس الخوف والقلق، وربما كان مضاعفاً لكونه بعيداً عنا، وكأن كورونا قاصدة آل شنواني، قاصدة جميع أسرتي، وكأن القدر جعلنا جميعاً في نفس الابتلاء كي نخفف عن بعضنا البعض، ونهون على بعضنا البعض، ونسخر من بعضنا البعض في بعض الأوقات، وكأن الله أراد أن يمتحننا جميعاً في نفس الوقت، ويختبر قوة تحملنا، ولعل ما حدث لنا جميعا فجأة وبدون مقدمات، حيث يعاني أفراد البيت بالكامل من أعراض كوفيد-19، كل حسب مدى استقباله للڤيروس وقوة مناعتة وعمره، كان واقعه علينا برداً وسلاماً وأملاً في الشفاء والشعور بفرحة الانتصار على الوباء، لاسيما هي لحظات كانت صعبة، نتوتر فيها، نخاف، نقلق، نشعر بالذعر، نحلم بكوابيس، نبكي في السر خوفاً، ونبكي في الصلاة توسلاً إلى الله كي ينجينا، لحظات كنا نتساءل فيها "من أين جاءنا الڤيروس؟ من الذي أصاب مَن؟ وبسبب مَن؟ ولماذا نحن؟ ولماذا الأب والأم يعانيان بأعراض شديدة الألم والوجع ونحن الشباب تأتينا أعراض بسيطة ونتعافى سريعاً؟" لنكف معاً ونشجع بعضنا البعض عن التغافل عن التفكير في مثل هذه الأسئلة وما شابهها، لأنها لا تفيد في أي شيء، ومن الممكن أن تفقدنا ثواب الأجر والصبر على الابتلاء، وهذا ما نرجوه من الله، الأجر والثواب، ومن ثم فرحة الانتصار على كورونا.

وبعد تركيز، وحمد الله على جميع نعمه علينا، أدركنا فضل الله علينا، بأن هذا المرض اللعين جاءنا بالتدريج، جاءنا واحداً تلو الآخر، وبأعراض مختلفة، الضعيف منها والقوي، كي يمكننا من مساعدة بعصنا البعض دون الحاجة لمستشفى، أو التسبب في أذى، ونقل العدوى لشخص آخر خارج نطاق الأسرة.

أكتب هذا المقال وأنا على يقين وثقة بأن الله سيُتم شفاء أبي وأمي على خير، وأنا على يقين وثقة بأن الله لن يفطر قلبي عليهما، فنحن كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فأنا على يقين بأن حالتنا أنا وإخوتي لم تتضاعف كي نستطيع تشجيع وتمريض الأب والأم ومساعدتهما على مقاومة هذا الوباء، فنحن من دونهما لا معنى لنا، هما الأساس، بل هما الحياة، هما مصدر قوتنا وسعادتنا في هذه الدنيا الغدارة المتقلبة، التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

أكتب هذا المقال وأنا على ثقة بأنه عندما يُنشر سيقرأه أبي وستقرأه أمي وهما في مرحلة التعافي، لأن الله لن يكسر بخاطري، وسيجبرني ويسعدني بشفائهما معاً عاجلاً وليس آجلاً.

 أما عن كتابتي لهذا المقال، فهو لأسباب عديدة:

  •  لإثبات أن مرض كوفيد-19 أو الإصابة بعدوى فيروس كورونا المستجد ليس عيباً على الإطلاق، ولا شيئاً يخجل المرء منه.
  •   لطمأنة الناس وتهدئتهم بالتعامل مع كورونا بهدوء وثبات ويقين في الشفاء، فالفيروس بقدر متاعبه وآلامه التي بالمناسبة لم أعانِ منها إلا القليل ولا تقارن بالأعراض التي ظهرت على والدي وأمي، فأعراضه القوية التي أصابتهما كانت شديدة حقاً "حرارة مرتفعة، سعال، إسهال، نشر وتكسير في الجسم، غثيان، هبوط، صداع، جفاف في الحلق، همدان، نهجان"، ولكنها لا تقلق وتحتاج لهدوء أعصاب في التعامل معها، خاصة بعد أن أثبتت الكثير من الدراسات أن الڤيروس أصبح ضعيفاً عكس بدايته، وأن نسبة الشفاء منه كبيرة جداً، حيث يتعافى معظم الناس منه، نحو 80% منهم دون ‏الحاجة إلى علاج خاص. 
  •   لإلقاء اللوم على دولتي، وطريقة تعاملها مع الوباء، حيث إنها لم تتخذ كافة الإجراءات الاحترازية مثل جميع الدول من غلق كامل لكل شيء، وحظر شامل لمدة أسبوعين منذ البداية، وفرض عقوبات وغرامات مالية على غير الملتزمين بكل حزم، حتى وصلنا للذروة والانتشار، وأصبحت المستشفيات مكتملة العدد، والأطقم الطبية من دكاترة وممرضين وأجهزة طبية وكمامات غير كافية للمرضى، حتى المسحات PCR غير متوفرة للجميع، إما أن تكون مشهوراً، أو صاحب جاه أو سلطان، أو معك واسطة للعلاج، فللأسف الشديد احتمالية موتك بكورونا بنسبة كبيرة فقط لكونك فقيراً نسبة كبيرة للغاية بعد قضاء الله، فلكونك فقيراً فلن تجد مكاناً في أي مستشفى من مستشفيات العزل إلا بصعوبة شديدة، مقارنة بما لو كنت غنياً، حيث الاهتمام والرعاية من الجميع، ستجد مكاناً في أسرع وقت، وستجد كل شيء حولك، وهذا ما يوجع قلب الفقراء وكل من مات بسبب تقصير من الدولة، فإحساسك بالعجز، وأن دولتك تفرق في المعاملة بينك وبين مشهور غني أو فنان، في أزمة وباء مثل كوفيد-19 أسوأ شعور يمكن أن يصيب أي إنسان، فعندما تشعر أن حياتك ليس لها أهمية، وقيمتك كبني آدم تقاس بالمادة، وبمكانتك، وليس بكونك إنساناً كرّمه الله وأنعم عليه بنعمة العقل، تدرك أن وباء كورونا ليس الأسوأ على الإطلاق في هذه الحياة.
  • لتوقّعي أن الحياة قبل كورونا ستكون هي نفسها بعد كورونا، فنحن وفي خضم الأزمة رأينا العجب العجاب، ففي بداية الأزمة، جميعاً أدركنا أهمية العلم والعلماء، وأيقنا أن نظرة الحكومات للعلماء ستتغير، حيث الاهتمام بهم وتخصيص ميزانية كبيرة لهم ولأبحاثهم وابتكاراتهم ولتجاربهم، فعند مقارنتهم مثلاً بصناع الفن والرياضة والإعلام سنجد المليارات يتم صرفها عليهم، وعلى الجانب الآخر نجد شكوى على سبيل المثال، بدل العدوى للطبيب المصري تقدرها الدولة بمبلغ 19 جنيهاً، فما بالك برواتبهم؟!

في منتصف الأزمة تفاجأنا بالعديد من القرى التي ترفض دفن شهيد توفاه الله بكورونا خوفاً من انتقال العدوى، في مشهد يتجرّد من الإنسانية، بجانب احتكار العديد من التجار والمواطنين أنفسهم للعديد من السلع الأساسية، والتي لا غنى عنها في أي منزل خوفاً وهلعاً من كورونا.

ومع تفاقم الأزمة وانتشار المرض بين الناس، وجدنا جشع بعض الصيادلة، وارتفاعاً جنونياً في أسعار الكمامات والقفازات وبعض الأدوية التي تكتب في بروتوكول العلاج من كورونا، واختفائها من الأساس.

 فمثلاً قمنا بشراء ترموتر لقياس درجة الحرارة يوم 29 مايو/أيار بـ35 جنيهاً أثناء تعب والدي، وعندما تعبت الأم قرّرنا شراء ترموتر آخر، بحيث يكون خاصاً بها، وتفاجأنا بأن سعره أصبح 80 جنيهاً في أقل من أسبوع.

  أيضاً لم يجد الطاقم الطبي الرعاية المطلوبة، من حيث توفير الكمامات والبدل الواقية وتوفير أماكن خاصة بالمستشفيات لهم، حال إصابتهم والخوف على حياتهم مقارنة بالنجوم الذين قاموا باستكمال تصوير مسلسلات رمضان وسط تعقيم وتطهير لأماكن التصوير غير مسبوقة، وعندما يعلن أحد الفنانين إصابته نجد أن باقي طاقم تصوير المسلسل يتم عمل مسحات فورية لهم لمعرفة مدى إصابتهم من عدمها، في حين أن المريض الذي يظهر عليه معظم أعراض كورونا لا يتم عمل المسحة PCR له، بعدما يصبح على وشك الموت، وهناك العديد من الفيديوهات التي توثق معاناة المرضى والطاقم الطبي نفسه مع المستشفيات بخصوص إجراء المسحة للتأكد من إصابته أو نفي.

  • لإثبات أن الاهتمام مهم جداً في حياة البشر، مَن منا لا يحب الاهتمام والكلام "اللي بيطبطب ويفرح ويدعم ويقوي ويساند"، يتعافى المرء السليم بالاهتمام والكلمة الطيبة، فما بالكم بمريض كورونا المستجد، الذي جزء من بروتوكل علاجه هو العزل، فكيف له أن يتعافى وحبيبه بعيد عنه، ونصفه الثاني لا يستطيع حتى "الطبطبة" عليه، وضمه بين ذراعيه، حتى إنه لا يستطيع استقبال معظم المكالمات نظراً لشدة تعبه في أغلب الحالات؟! كيف يتعافى المرء وهو وحيد يداوي نفسه بنفسه؟! وهنا أدركت نعمة وجود الحبيب والزوج والابن والأخ والأخت والخال والخالة القريب والمهتم بشكل عام، والذي يحاول جاهداً تعويض فكرة عدم زيارة من يحب والاطمئنان على حالته وجهاً لوجه، بالعديد من الطرق، فلعل كورونا أثبتت لنا بالدليل القاطع حب الناس لنا، للأسف "على سبيل احتكار حبي لأبي وأمي" اكتشفت أن لأبي وأمي جمهوراً عريضاً من المهتمين العاشقين، للأسف و"من باب الغيرة"، أيقنت أن هناك الكثيرين يتقاسمون حبي لأبي وأمي، عن تلك المواقف التي حدثت معنا من العائلة والأصحاب حتى الجيران، مكالمات باستمرار، زيارات بالفعل كان دافعها الحب والاهتمام في المقام الأول من دون خوف من العدوى، دافعها الإحساس بأنك لست وحدك في هذه الأزمة، زيارات مليئة بالوعي الممزوج بالخوف والحرص على الاهتمام، أذكر بعضها لكثرتها، نتفاجأ بجرس الباب والخال واقف أمام المزل يريد الدخول للاطمئنان على شقيقته وزوجها، فتقف أمي وهي غير قادرة على الحركة من شرفة المنزل تُحدّثه هاتفياً كي يراها ويطمئن عليها، وتُقسم عليه بأن يغادر لأسرته، وأننا لا نفتح لأحد في ظل هذه الظروف الصعبة، في مشهد عنوانه الحب أقوى من أي شيء.

 موقف آخر، جرس الباب يدق، ابنة خالتي، وهي أم لشاب بالثانوية العامة، ولكم أن تتخيلوا كيف كان حالها في هذه الأيام، ونحن في الأسبوع الأول من شهر يونيو/حزيران 2020، وقد تقرر إجراء امتحانات الثانوية العامة يوم 21 من الشهر ذاته، وزوجها يعمل في إيطاليا التي كانت بؤرة وباء، نجدها تاركة حقيبة كبيرة مليئة بخيرات الله، مبلغ مالي من خالتي التي لا تترك يوماً في الأسبوع إلا وتحدثنا هاتفياً للاطمئنان علينا، فهي بمثابة أم حنون لأمي، وأولادها الذكور جميعاً وزوجاتهم، ومنهم بالمناسبة من تضرر من كورونا وتم ترحيلة من الدولة العربية التي كان يعمل بها، لنتفاجاً جميعاً بنزوله مصر باحثاً عن عمل من جديد، ويتم حجره صحياً لمدة ثلاثة أسابيع خوفاً عليه وعلى أسرته، ليخوض تجربة الحجر الصحي، ويعيش معاناة الوحدة، تلك الوحدة التي فرضها كورونا علينا جميعاً، كل حسب معاناته وظروفه معه.

 موقف ثالث، جرس الباب يدق، حما شقيقي الأكبر يفاجئنا بزيارة محمّلة بالفواكه والخصراوات، ومن على الباب يشكره أخي، في مشهد مليء بالكرم والخوف على حياتك وإظهار الاهتمام في وقت لا يمكن لنا أن ننسى حتى رسالة من كلمتين جاءتنا للاطمئنان علينا، وكانت أصغر مهتمة بنا هي ابنة ابنة خالتي، التي تحدثني برسالة عبر واتساب "أخباركم إيه وعاملين إيه دلوقتي"، لم ولن أنسى أي موقف أو أي رسالة أو أي كلمة طيبة، ونحن نتعافى بالاهتمام، فما بالكم بالمرضى وأبناء المرضى.

موقف رابع، أصحاب والدي والجيران وأصحاب المحال التي اعتاد الأب على الذهاب إليها لشراء متطلبات المنزل، فجأة يدق الباب.. من؟ أستاذ فرج موجود؟ ممكن اطمن عليه؟ أخباره إيه "بقاله كتير مجاش"

 مواقف عديدة لا حصر لها، مكالمات يومية من الأهل والأقارب، مكالمات ورسائل دولية يوماً بعد يوم.

 لا أنسى مكالمات ابنة عمتي التي تعبت نفسياً حزناً على والدي وأمي، كانت تطمئني كل يوم ليلاً، بأنها أزمة وستمضي، كانت تحدثني بأن لها العديد من الأصدقاء الذين بالفعل تعافوا، كان صوتها مليئاً بالدفء والحنان والخوف الممزوج بالطمأنينة، وغيرها وغيرها من المواقف التي مهما أكتبها لم أستطع حصرها.

 لا أنسى موقف الدكتورة سارة الشهاوي، فكانت نعم "الصاحب الجدع"، الذي لا يكلّ ولا يمل ولا يخاف من العدوى.

  • لتوجيه الشكر والعرفان لكل مهتم حاول جاهداً الاطمئنان علينا، كل حسب طريقته، مع العلم أن هناك الكثيرين سيعلمون بمرضنا من خلال هذا المقال، فما بالكم لو كانوا يعرفون "بشكركم من كل قلبي، وبجد فرّحتم قلوبنا، وخفّفتم عنا، وأخجلتمونا بتصرفاتكم هذه.. شكراً على وجودكم في حياتنا".
  • لأعتذر لأي شخص كان يريد أن يعرف مبكراً ليقدم خدماته ودعمه لنا، فنحن كنا حريصين على عدم إزعاج أحد، أو انشغال أحد بنا، فكلٌّ يغني على ليلاه، وهذا المرض تحديداً وأي مرض معدٍ دائماً ما يخشى صاحبه أن ينقل العدوى للآخرين، لذلك كنا على حذر من اندفاع البعض وخوفهم الزائد علينا، ومن ثم نعرض حياتهم للخطر.
  •  لثقتي في الله، بأنه عز وجل لن ولم يضرنا في أعز وأغلى أشخاص في حياتنا، ليقيني بأن عيد الأضحى 2020 سيأتي ونحن جميعاً معافون من هذا المرض اللعين، سيأتي وسنصلي جماعة كما حدث بعيد الفطر جماعة معاً مع بعضنا البعض.
  • لتوثيق فترة هامة وحدث جلل عايشته أنا وأسرتي، فمنذ بداية أزمة كورونا وأنا أوثق مدى تأثيرها على حياتنا، كتبت عن رمضان 2020  والعيد في زمن كوفيد-19، وغيرها من المقالات عن هذه الجائحة التي ضربت العالم أجمع، لتكون مرجعاً لي، منها، لأني لا أثق في التاريخ الذي قد يغير الحقائق في بعض الأزمنة والفترات، ومنها لشكر الله وحمده وتذكيري بأننا غافلون عن نعم الله علينا، ولا نشعر بأهميتها إلا عند فقدانها.
  • لحمد الله وشكره على جميع نعمه، فيا رب لك الحمد والشكر والفضل، الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، فأنا مثلاً مع تجربتي مع فقدان حاسة الشم والتذوق، ورغم أن معاناتي صفر على الشمال مقارنة بمعاناة أبي وأمي، فإنني كنت في حالة نفسية سيئة للغاية ليس فقط بسبب تعب الأب والأم، ولكن لإحساسي أن كل الطعام واحد لا مذاق لا استطعام لا تمييز، فأنا على علم بأن التفاحة هذه لها مذاق شهي لكني لا أشعر بها، كنت أتخيل كيف كان طعم هذا الصنف، وعلى أساسه استكمل طعامي، ولأن الطعام كان جزءاً هاماً جداً ومؤثراً في بروتوكول علاج مرضى كورونا والمخالطين لهم، فكان يتوجب عليَّ الأكل كعلاج أكثر منه استمتاعاً بنوعية الطعام ومذاقه.
  •   لحمد الله على نعمة الحياة الروتينية المملة من وجهة نظرنا والتي فيها يمضي اليوم بدون جديد، أدركنا جميعاً أن الصحة حقاً تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، وأننا اعتدنا النعم وألفناها لدرجة جعلناها حقاً مكتسباً، فعندما ذهبت تأكدنا أن يومياتنا في الحجر المنزلي حيث الخروج إلا لضرورة، حيث الجسم السليم القادر على ممارسة الرياضة، حيث تذوق الطعام والاستمتاع به، حيث مشاهدة التليفزيون سوياً، حيث الجلوس على سفرة واحدة لتناول الطعام مع بعضنا البعض، حيث عدم القلق من قلة نسبة الأكسجين في الدم، أو ارتفاع درجة حرارتك، أو الخوف من أن تكون سبباً في نقل العدوى لشخص آخر وإلحاق الأذى به دون قصد، حيث.. وحيث.. وحيث، كانت نعماً من الله علينا تهاونا في تقديرها.
  •   لتأكدي من صلاح عمل أبي وأمي، وأن الله يحبهما، فهما نعم الأب ونعم الأم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ". 

 وقال أيضاً، صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ".

فالمؤمن مصاب، فتفسيري البسيط لتعب أبي بهذه الأعراض الصعبة ثم تليه أمي بأعراض مختلفة لكنها تساويه في الشدة وصعوبة التحمل، هو أنهما بالفعل أتقى اثنين في أسرتنا، أكثرنا إيماناً ويقيناً وحسن ظن بالله، أكثرنا تضرعاً وخوفاً وخشيةً من الله، أكثرنا حرصاً على مساعدة الناس والغلابة والمحتاجين، أكثرنا طيبة وحناناً ومعاملة حسنة للجميع دون انتظار المعاملة بالمثل، أكثرنا طيبة ونفساً راضية وقنوعة وزاهدة في الحياة، فكان هذا الابتلاء لهما لحكمة بالغة بالغة بالغة لا يعلمها إلا الله ولإعطائنا نحن الأبناء درساً لم ولن ننساه طيلة حياتنا.

 سيتعافى أبي وأمي وسنصلي عيد الأضحى معاً جماعة فوق سطح بيتنا أو ربما في إحدى الساحات الشعبية كالمعتاد إذا سمحت لنا الدولة، بدون خوف أو قلق بمشيئة الله.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أسماء الشنواني
مدونة مهتمة بقضايا المرأة والمجتمع
أنا كاتبة وصحفية مهتمة بقضايا المرأة، أكتب عن دورها العظيم والمؤثر، ليس فقط داخل أسرتها التي هي الأساس، ولكن داخل المجتمع ككل، أحب تحليل ورصد تأثير الأعمال الدرامية على المشاهدين، أنقد تارة، وأمدح تارة أخرى ما يتم عرضه على شاشة التلفزيون، لا أفضل السوشيال ميديا، حيث الحياة الخاصة التي أصبحت على الملأ، أؤمن بأهمية التربية عن الرعاية ودور الوالدين العظيم معاً وقدرتهما على تكوين شخصيات سوية لأطفالهما.
تحميل المزيد