تقوّي الشعب وتقيّد الحكومة.. كيف ستدفع السعودية ثمن مضاعفة الضرائب؟

عدد القراءات
3,086
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/13 الساعة 13:26 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/13 الساعة 13:27 بتوقيت غرينتش
تقوّي الشعب وتقيّد الحكومة.. كيف ستدفع السعودية ثمن مضاعفة الضرائب؟- The Atlantic

تُظهِر صور أيقونية من السبعينيات طوابير طويلة من السيارات في محطات الوقود بأنحاء الولايات المتحدة، بعدما فرضت مجموعة من الدول العربية حظراً نفطياً على الولايات المتحدة لدعمها إسرائيل خلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1973. تضاعف سعر النفط أربع مرات تقريباً، ما تسبَّب في نقصٍ للغاز أصاب الأمريكيين بشدة، في حين تسبب في إثراء دول مثل السعودية للغاية لدرجة أنها فكَّكت بيروقراطية الضرائب فيها. وظل المواطنون السعوديون في العقود التالية للحرب معفون من الضرائب تقريباً.

كان هذا هو الحال حتى عامين سابقين، حين فرضت الرياض -إلى جانب أنظمة استبداد نفطية مجاورة- ضريبة قيمة مضافة جديدة بنسبة 5% على معظم السلع والخدمات. لا يحب أحد دفع الضرائب، ناهيك عن أولئك الذين لم يدفعوها من قبل قط، وشكا الكثير من مواطني تلك الدول من أنها فرضت عبئاً مالياً غير ضروري. لكنَّ تلك الحكومات كانت في مأزق: كان الطلب العالمي على النفط يتراجع، وكانت بحاجة لتنويع اقتصاداتها بعيداً عن قطاع الطاقة.

منذ ذلك الحين، وبفضل الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها تفشّي فيروس كورونا، تراجع الطلب على النفط أكثر، بل ووصلت أسعار أحد المعايير المرجعية للنفط في إحدى المراحل إلى قيم سالبة. وقرَّرت الحكومة السعودية، التي تواجه عجزاً متفاقماً في الموازنة، تقليص الإنفاق ومضاعفة الضريبة التي فرضتها لأول مرة عام 2018 بثلاثة أضعاف. (لم تقم الدول المجاورة مثل الإمارات حتى الآن بأي خطط لزيادة ضرائبها). لكنَّ السعودية ليست وحدها في الهرولة لإيجاد حل لآثار الجائحة. إذ تفرض الدول في مختلف أنحاء العالم ضرائب جديدة أو تُوسِّع شبكات الأمان الاجتماعي لمحاولة تخفيف الضغوط المالية المتفاقمة عن كاهل المواطنين. لكن فيما يأمل المسؤولون بأن تكون الكثير من تلك التدابير مؤقتة -ويبدو أنَّهم يضعون في اعتبارهم أنَّها للتعافي على المدى القصير فقط- فإنَّها قد تُغيِّر، على المدى الطويل، طموحات وآمال المواطنين من حكوماتهم جذرياً، وربما تطلق العنان لتغيُّرات جيوسياسية كبرى في العقود المقبلة.

مَن يدفع ضريبة الضرائب؟ 

وفي الحالة السعودية، يبدو معدل الضريبة الجديد وإجراءات التقشف استجابة مناسبة بالنسبة لبلدٍ يعتمد حصراً تقريباً على قطاع واحد فقط لتمويل حكومته. تحدّث حاكم المملكة الفعلي، ولي العهد محمد بن سلمان، لسنوات عن أهمية فتح بلاده أمام الاستثمارات دولية وضرورة تنويع مصادر الدخل، إلى جانب الترويج لصورة أكثر علمانية للمملكة في العالم الخارجي. (تعرقلت هذه الجهود حين انسحب المستثمرون الأجانب بعد مقتل الصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشقجي).

لكنَّ الحكومة السعودية -وهي نظام استبدادي للغاية- قاومت تاريخياً فرض الضرائب على مواطنيها لسبب وجيه: الضرائب تُمكِّن الناس من المطالبة بالمزيد من حكومتهم، ويمكن في كثير من الأحيان أن تكون مُحفِّزاً للتحول إلى الديمقراطية. قال لي أستاذ العلوم السياسية بجامعة كولورادو الأمريكية في مدينة بولدر، سفين شتاينمو: "فرض الضرائب يلعب دوراً عميقاً في صعود الديمقراطية".

كانت الضرائب موجودة فعلياً منذ وُجِدَت الحكومات؛ فكانت هذه الأولى ضرورية لتمويل الأخيرة. لكن وفقاً لفولفغانغ شون، مدير معهد ماكس بلانك لقانون الضرائب والمالية العامة، فإنَّ أنظمة الضرائب الشبيهة بالنظام الضريبي السعودي حديثة نسبياً وغير شائعة. بالأرباح الناتجة عن الموارد الطبيعية، كانت السعودية ودول الخليج الأخرى قادرة على بناء حكومات كبيرة مع تمويلات كبيرة للرفاه الاجتماعي، إلى حدٍّ كبير دون مطالبة مواطنيهم بالدفع. لكن شون أخبرني بأنَّه حين "تُفرَض الضرائب دون أي منفعة مباشرة للمواطن، سيطلب الناس التساوي في تقاسم الأعباء وانضباط الموازنة، حتى في الدول غير الديمقراطية".

وبالفعل، يمتلئ تاريخ العالم بأمثلة على الأنظمة الضريبية غير المقبولة شعبياً التي تؤدي إلى اضطرابٍ سياسي. فظهرت قبل الثورة الأمريكية صيحة التحشيد الشهيرة "No taxation without representation" (لا ضريبة دون تمثيل). وكانت الثورة الفرنسية مدفوعة جزئياً بنظام ضرائب رجعي، مقروناً باتساع التفاوت الاقتصادي، الأمر الذي تسبَّب في استياء شديد من جانب الطبقة الأرستقراطية. وحتى وثيقة "ماغنا كارتا" (الميثاق الأعظم) -وهي وثيقة تمثل حجر أساس في تطوير الديمقراطية الغربية- وافق عليها جون ملك إنجلترا بعدما تمرَّد الشعب على الحروب والضرائب.

الضرائب والديمقراطية

وفي بعض الأحيان لا يكون ما نُفكِّر فيها دوماً باعتبارها الضرائب هي ما تُسبِّب الانتفاضات. فحين يُلغى الدعم الموجود منذ زمن طويل -وهو عملياً يمثل ضرائب سالبة- تزيد الأسعار. وهذا بحد ذاته كاف لإشعال ثورات قوية. فحين توقفت ميانمار (المعروفة أيضاً ببورما) عن دعم الوقود في 2007 على سبيل المثال، أشعل ذلك "ثورة الزعفران". وقلَّص السودان دعم القمح والوقود في 2018، وهو ما رفع أسعار الخبز وساعد في إشعال حركة احتجاجية أطاحت في النهاية بالديكتاتور عمر البشير.

وبطبيعة الحال، لا تؤدي الثورات المرتبطة بالضرائب دوماً إلى الديمقراطية؛ فعلى الرغم من أن النشطاء في ميانمار في الغالب ساهموا فعلاً في انفتاح ذلك البلد بعد ذلك بسنوات، فإنَّهم لم يُحوِّلوا البلد إلى الديمقراطية بصورة كاملة. وحتى إندونيسيا، التي شهدت نتيجة مماثلة لكن أكثر نجاحاً حين زادت الحكومة سعر الغاز في 1998، مستمرة في المعاناة في التصنيفات الديمقراطية على الرغم من أنَّها تنظم الآن انتخابات حرة ونزيهة.

وقد يكون للضرائب المباشرة تأثيراً مختلفاً؛ ففي حين قد يثير رفع الدعم هياجاً، فإنَّ الضرائب الموجبة، خصوصاً حين تكون دائمة، تصبح تذكرة مستمرة للمواطنين بأنَّه يجب أن يكون لهم كلمة في الطريقة التي يُحكَمون بها. وفي حين أنَّ خطة الضرائب السعودية الجديدة لن تشعل على الأرجح سلسلة من الأحداث تؤدي إلى الديمقراطية في شبه الجزيرة العربية، يظل من الممكن أن يكون لها تأثير سياسي كبير. 

قال لي جيم كراين، خبير الجغرافيا السياسية للطاقة بمعهد بايكر التابع لجامعة رايس الأمريكية، إنَّ المواطنين الأمريكيين حين يدفعون الضرائب، فإنَّهم يكونون أكثر ميلاً للاهتمام الشديد بالتأثير في، أو حتى تحديد، الكيفية التي تُنفَق بها أموالهم. وقال: "إنَّها تُشجِّع المشاركة، وبالتالي تحد من استقلالية الحكومة وتفردها بالقرار". 

هذا لأنَّ الضرائب تجعل الحكومة مسؤولة أمام أولئك الذين يدفعون لها. وكثيراً ما يُنظَر إلى الديمقراطية باعتبارها الطريقة الأكثر مباشرة للمواطنين كي يجعلوا ممثليهم يعرفون ما إن كانوا موافقين على حكومتهم أم لا. لكنَّ الديمقراطية ليست الصورة الوحيدة للحكم الخاضع للمساءلة. فقال شتاينمو، مؤلف كتاب (الضرائب والديمقراطية): "يمكن للنظام أن يحاول الاستجابة لمصالح ومطالب مواطنيه حتى لو لم يكن لديه مؤسسات ديمقراطية رسمية؛ لأنَّه يدرك أنَّه سيكون أمام مشكلة في حال بالغ في الابتعاد عما يريده مواطنوه. لذا من الأفضل للحكومات أن تُقدِّم تنازلات صغيرة". 

وتقدم الصين مثالاً على ذلك: فعلى الرغم من استبداديتها الشديدة، ما يزال يتعين على بكين أن تأخذ بعين الاعتبار الشعور العام إلى حدٍّ ما، ما يوفر لشعبها زيادة في الحراك الاقتصادي وتحسناً في مستويات المعيشة. وقال كراين: "لدى الصين عقد اجتماعي مختلف قليلاً، حيث تبقى الدولة في السلطة على أساس إدارتها للاقتصاد".

لكنَّ العقد الاجتماعي في السعودية يتضمَّن تدفقاً للأموال في اتجاه واحد، من الحكومة إلى الشعب، كان هذا حتى ما قبل عامين. لكن بما أنَّ ذلك تغيَّر في فترة زمنية قصيرة نسبياً، فليس واضحاً كيف ستؤثر الضرائب الجديدة على العلاقة بين المواطنين السعوديين وحكومتهم. وقد تأتي التنازلات في صورة توسيع للحريات الاجتماعية، وهو ما كانت المملكة تقوم به فعلاً بوتيرة تدريجية، بما في ذلك السماح للنساء بقيادة السيارات والترشح لمقاعد المجالس البلدية.

في نهاية المطاف، في الوقت الذي تتعامل فيه السعودية والدول الأخرى ليس فقط مع أزمة صحية عالمية وما يصحبها من انهيار اقتصادي، لكن أيضاً مع القيود التي تفرضها اقتصاداتها، سيكون للكثير من إجراءاتها -مثل زيادة الضرائب وإجراءات التقشف- تداعيات، مقصودة أو غير مقصودة، خلال العقود المقبلة. فحين تعبث حكومة بعقدها الاجتماعي دون إسهام من المواطن، وتطلب المزيد من الأموال من شعبها، يكون من المحتمل جداً ظهور بوادر للمقاومة أو الثورة.

تَركَّز القلق في الغرب على إمكانية الانغماس في السلطوية الشعبوية. لكن قد يحدث الصعود في التحول الديمقراطي، أو على الأقل في الحريات الاجتماعية، في مناطق أخرى، خصوصاً المناطق التي يشعر فيها الناس بسحر التمكين الناتج عن دفع الضرائب.

– هذا الموضوع مترجم عن مجلة The Atlantic الأمريكية.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد الله فياض
كاتب مقيم في واشنطن وزميل محرر وباحث سابق لدى مجلة The Atlantic الأمريكية
كاتب مقيم في واشنطن وزميل محرر وباحث سابق لدى مجلة The Atlantic الأمريكية
تحميل المزيد